يعتقد البعض أن المرأة هي الضحية الوحيدة للفكر الذكوري، إلا أن الحقيقة عكس ذلك؛ فالمستفيد من هذا الفكر قلة من الرجال، لكنها القلة التي تملك القرار وتتحكم في السياسات وتحيك التشريعات والقوانين لمصلحتها، ثم تستخدم كوسيلة لإلهاء الناس عن امتيازاتهم، مصطلحات حساسة لإيهام باقي الرجال بأن رجولتهم في خطر إذا لم يتصدوا للفكر النسوي الذي يهدد مكانتهم في المجتمع، لكن الغالبية من الرجال، مثلها مثل النساء؛ تعاني من سيطرة الفكر الذكوري على المجتمع.
يخبرني حسن، وهو رجل في الأربعين من عمره، عن معاناته، يتحدث عن نفسه كضحية للمرأة، يرى أنه غير مرغوب فيه من النساء؛ فلا يملك مالا يغري فتاة في العشرين تبحث عن أمير يحل لها مشكلاتها ويحقق أحلامها، ولا يتمتع بجاذبية أو كاريزما تُعجب امرأة مستقلة في الثلاثين تختاره رغم فقره. باختصار؛ يرى حسن نفسه رجلاً عاديًا مكافحًا تأخر في الزواج رغمًا عنه لظروف الحرب في بلده، وعندما استيقظ بعد لكمات التشريد واللجوء وجد نفسه في الأربعين؛ تلك السن التي يفترض أن يصل لها الرجل محققًا استقرارًا ماديًا وأسريًا.
افترض حسن أن أزمته من صنيعة النساء؛ لكنه اقتنع بعد طول جدال بيننا بأنها صناعة ذكورية صرفة، وأن المجتمع الذكوري الذي ربط قيمة الرجل بالمال هو المُلام لا النساء، هذا المجتمع الذي حول المرأة إلى كائن مُعتمد على الغير، وحجّم من قدراتها وفُرصها في الحياة لدرجة فقدان الثقة بالنفس وبالقدرات الفردية على تحقيق أحلامها.
المجتمع الذي يجد فيه الرجل المتزوج المقتدر ماديًا فرصًا أكبر للزواج الثاني عن الرجل الأعزب الفقير، وهو الذي تقاس فيه الرجولة بمقدار غلظة الرجل وغيرته وحبه للتملك. هذا هو المجتمع الذكوري الذي ينبغي تفتيته ليستطيع حسن وأغلبية الشباب العربي إقامة علاقات صحية قائمة على الحب والسند المتبادل بين الرجل والمرأة؛ خصوصًا في هذا الزمن الصعب.
والبرود الجنسي عند النساء كظاهرة عامة يُرددها أغلب الرجال في حقيقته هو "قمع جنسي وعاطفي"؛ فالعلاقة التسلطية لا تؤدي إلى حميمية بل إلى حرمان جنسي وعاطفي
يتحمّل الرجل المتزوج، في هذا المجتمع الذكوري الأبوي، مسؤوليات جسامًا تفوق في أغلب الأحيان قدرة فرد واحد على حملها؛ فبالإضافة لسعيه للرزق يحمل عبء نظرة المجتمع الذي يرى الرجل ناقصًا “معيوبا” إن “نقص جيبه”: فلا يعيب الرجل سوى جيبه!
تلك المعاناة يعيشها أغلب الرجال المتزوجون في بلداننا العربية التي يسودها الفساد وينخر الفقر أوصالها، وتفتقر للحرية في التعبير، فيتراكم الشعور بالقهر والعجز في داخل الرجل، فيظهر في شكل غضب يُنفّس فيمن هم أضعف منه، المرأة والطفل؛ الأمر الذي يفسّر ارتفاع معدلات العنف ضد المرأة في تلك المجتمعات المقهورة.
الرجل المقهور قليل الحيلة يعاني من عقد النقص ويخجل من نفسه، ويجعله خجله هذا يعيش أسير عار محتمل؛ فيصبح لديه هاجس السترة والخوف من الفضيحة، العجز، الفقر والشرف، وهو ما يفسر اهتمامه الهوسي بصورته في أعين الناس؛ فيصبح في صراع بين حياته الحميمة ومظاهرها الخارجية، جدلية “ما يُعلن وما يُخفى” تجعله يعيش في تهديد دائم.
تلك الازدواجية المخفية خلقت مجتمعات منافقة تُبرر لها وتسمح بها، لكنها كي تكتمل وتعيش تحتاج لعنصر ضعيف تسقط عليه عارها، فربطته بالمرأة وأصبح شرف الرجل معلقًا بها، وكرامته (التي تهدر في معركة الرزق) تعتمد على سلوكها، وأَعجِبت السلطات القمعية بتلك النتيجة؛ فربط مكانة الرجل الاجتماعية بالمرأة يُبعد الأنظار عن مصدر العار الحقيقي، وهو الاستغلال والتسلط وما يفرضه من قهر على الإنسان ودوس لكرامته.
هذا القهر الذي ينفِّس عنه الرجل في المرأة خلق علاقات مشوهة بين الجنسين، وبدلاً من أن يجد الرجل عند المرأة الحب، أصبحت تقابله بكراهية مخفية لا تملك أن تعبر عنها بشكل صريح، لكنها تظهر على شكل جمود وبرود عاطفي وجنسي، كما ترتد كراهيتها للداخل فتجعل منها امرأة منافقة تلجأ للكذب خوفًا من الرجل الذي يربط كرامته وشرفه بها، وخوفًا من المجتمع الذي يضع تصرفاتها تحت المجهر، فتنتقم بالحقد والأذى والمطالب التعجيزية من الرجل وخلق النزاعات المستمرة معه. كل هذا يؤدي إلى فقدانها الحكمة في الحياة، والتعاطي مع مشاكلها باستخدام الخرافة والقدرية، فتتحول إلى كائن سلبي فاقد للشغف، يفقد الرجل السكن والحب والشريك الفعلي.
ولعل “البرود الجنسي” عند المرأة هو الأكثر شيوعًا في مجتمعات القمع؛ فالمرأة تربى على أن الجنس عار، وأنها تتزوج لكي تعفّ الرجل لا نفسها، الجنس مرتبط عند المرأة المقموعة بالقتل وجرائم الشرف والعيب والازدراء، وكلما أثبتت أنها غير مهتمة به كلما كانت أكثر تعففًا وأرفع أخلاقًا!
لا جدال في أن المرأة ضحيّة للمجتمع الذكوري، لكنّ الرجل أيضًا ضحيّته؛ فهو يُجبر على كتم مشاعره، ويُحمّل أكثر مما يحتمل
John Doe Tweet
والبرود الجنسي عند النساء كظاهرة عامة يُرددها أغلب الرجال في حقيقته هو “قمع جنسي وعاطفي”؛ فالعلاقة التسلطية لا تؤدي إلى حميمية بل إلى حرمان جنسي وعاطفي، لا شيء يوازن الخراب أكثر من الحب، الحب يُشعر المرء بقيمته، ويعيد للذات اعتبارها، ويساعد الرجل والمرأة على المضي في مواجهة الحياة وصعوباتها، لكن الحب الفعلي في بيئة يعاني فيها كل من الرجل والمرأة من كوارث الذكورية بعيد المنال؛ فالحب يحتاج كي يتحقق حرّية وندّية، لا خوفًا وقمعًا.
فالخوف يُخرج أسوأ ما في الإنسان، والمرأة في المجتمعات المقهورة في حالة دائمة من الخوف وعدم الأمان، خوف من الرجل، الطلاق، التعدد، القوانين، الأفكار الذكورية وأغلب ما نراه من تصرفات سيئة ينسبها الرجل لطبيعة وفطرتها، إنما هي نتاج لقمع مجتمع ذكوري أخرج أسوأ ما فيها وشوه العلاقة بينه وبينها، ولعل أكبر مثال على تشويه العلاقة بين الرجال والنساء ما نسمعه من أرامل بدأن حياتهن بعد وفاة أزواجهن، في حالات كثيرة كان الرجل هو العائق الرئيس أمام ممارسة المرأة لحياتها وفي هذا ظلم كبير وتشويه عظيم.
لا جدال في أن المرأة ضحيّة للمجتمع الذكوري، لكنّ الرجل أيضًا ضحيّته؛ فهو يُجبر على كتم مشاعره، ويُحمّل أكثر مما يحتمل، وتمنع عنه المرأة السند والسكن، فتصبح عبئًا إضافيًا عليه، ويتم تقييمه على ماله، ويحرم من علاقة حميمية حقيقية قائمة على الحب مع المرأة، وتفرض عليه الازدواجية والنفاق ولبس الأقنعة وما يتبعها من كراهية للذات والشعور بالنقص، كل هذا من أجل أوهام الفوقية والقوامة والشعور الزائف بالتضخم.
إن السعي للعدالة يجب أن يكون مطلبًا للرجال والنساء، عدالة اجتماعية للجميع ينتهي معها القمع والفساد والظلم، وتنتشر فيها مبادئ المساواة بين الأفراد بدون مميزات لجنس على حساب آخر تخلق خللاً يتحمل الجنسين تبعاته.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.