وسط مخاوف من اتباع البحرين سياسات نيوليبرالية، تثقل كاهل المواطنين، وتزيد من أعبائهم، كما ترفع من نسب الفساد وغياب الرقابة، وتدهور المجتمع، ازداد الحديث حول آثار النيوليبرالية في البحرين منذ بداية العام 2022 وحتى اليوم؛ إذ بدأت هذه الفعاليات مع الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.
وطرحت فيها مخاوف وتحذيرات وزير الصحة والتربية والتعليم السابق د. علي فخرو، حول مشكلة تراجع الوضع المهني الصحي في البحرين، والذي كان في رأيه عائدًا إلى تراجع الدولة عن فلسفة دولة الرعاية، والدخول في طور النيوليبرالية المتوحشة القائمة على فرض سلطة السوق على المجتمع.
منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، اعتمدت الجامعات العالمية في كل مكان، نظريات السوق الحر ومفاهيم النيوليبرالية، والتي أصبحت قاموسًا للحكومات في العالم؛ معتبرة من المواطن زبونًا، وكل ما يقدم له من خدمات عبارة عن سلع، والحياة كلها عبارة عن صراع ماركات.
إن النيوليبرالية، ليست سوى نوع من التطبيع الإلزامي للدول العربية.
أدت النيوليبرالية إلى مشاكل خطيرة بالأخص خارج أوروبا وأمريكا، في ظل غياب سلطات رقابية قوية وفاعلة، تمنع النيوليبراليين من السيطرة على أركان الاقتصاد؛ مثل نموذج تشيلي في السبعينيات تحت حكم بينوشيه، وهو الاتجاه الذي أدى إلى إفقار المواطنين، وتحويل الطبقة الوسطى إلى طبقة محدودة الحال، وفي الوقت ذاته حرمان المجتمع من خدمات التعليم والصحة تحت عناوين مختلفة مستمدة من قاموس النيوليبرالية.
مخاوف على قطاع الصحة
حينما ترك د. علي فخرو منصبه كوزير الصحة في أوائل الثمانينيات، كان يؤمن أنه بعد 25 عامًا ستكون كافة المهن الصحية في أيدي بحرينية. لكن هذا الهدف لم يتحقق، ويعاني الشباب المتعلم من الأطباء من البطالة الآن، في مقابل توظيف أعداد كبيرة من الأجانب، وغياب برامج التدريب والزمالة وغيرها، مع غياب الرؤى الوطنية في الحفاظ على حقوق الطبيب البحريني.
حين كانت تنتهج البحرين سياسة دولة الرعاية، كانت ترسل البعثات للخارج من قبل وزارة الصحة، لأجل التعليم، والتدريب ليحل الأطباء البحرينيون محل الأطباء الأجانب، إلا أن ما يحدث اليوم هو أمر مختلف كليًا. ولهذا بدأت هجرة الأطباء في السنوات الأخيرة، من حديثي التخرج، بحثًا عن فرص في دول توفر لهم التدريب والأمان الوظيفي والطموح العلمي.
الصحة والتعليم، مثل الهواء والماء، يجب أن توفر للجميع، بمستويات لائقة، وذلك لأن المجتمعات لا ترتقي إلا من خلال الارتقاء بصحة وتعليم مواطنيها.
المخاوف من أبعاد النيوليبرالية ووحشيتها في حال تفعيلها بالقطاع الصحي هذا العام، هو هاجس الكثيرين في البحرين، وأيضًا هاجس د. فخرو في سلسلة مقالات يكتبها بشكل دوري، وجاء وصفه في إحداها معلقًا: “خطط بطرق شيطانية لإقناع بلايين البشر بتفوق ذلك النظام على ما سبقه من أنظمة رأسمالية واشتراكية، ورفع رايات البشائر الكاذبة بقرب انتقال الإنسانية إلى حالات الوفرة في النعم المادية والسلام في العلاقات الاجتماعية والطبقية، ولم يترك وعودًا مشرقة إلا وكذب بشأن قرب تحققها”.
مشاكل النيوليبرالية
يجد فخرو أنه من المعيب تقليد الغرب بشكل أعمى، وقد تكون المملكة المتحدة مثالاً حيًا على ما تمر به من آثار النيوليبرالية، بسبب الضغط الذي تشهده في القطاع الصحي، وقوائم الانتظار وغيرها، في مقابل تردي الخدمات واستمرار حالات السخط والإضراب.
وتدور اليوم نقاشات في البحرين ودول الخليج العربية حول النظام الاقتصادى الرأسمالى العولمى المتأزم، وضرورة الانتقال إلى نظام اقتصادي آخر؛ هذا النظام الاقتصادي الذي قاد العالم إلى أزمات مالية وبطالة قاسية، وإفقار بلايين البشر.
عندما حدثت الأزمة المالية العالمية في العام 2008، اتجه قادة أميركا وبريطانيا والدول الأخرى، إلى استخدام سياسة تدخل الدولة في السوق لمنع الانهيار الكامل لمنظومة الاقتصاد.
بالإضافة إلى تدمير دولة الرعاية الاجتماعية، وإضعاف متعمد بل وممنهج لقوى المجتمعات المدنية السياسية والنقابية والحقوقية، بسبب الرأسمالية غير المقيدة.
وهو ما لا يمكن التصدي له إلا من خلال تدخل الدولة المباشر، مثلما حدث في أواخر القرن التاسع عشر بخطط تعويض العمال، والتمويل العام للمدارس والمستشفيات، واللوائح الخاصة بساعات العمل وظروفه، إلى أن اشتملت دولة الرفاهية المزعومة على مجموعة واسعة من الخدمات الاجتماعية والمزايا، بحلول منتصف القرن العشرين.
وعندما حدثت الأزمة المالية العالمية في العام 2008، اتجه قادة أميركا وبريطانيا والدول الأخرى أيضًا إلى استخدام سياسة تدخل الدولة في الاقتصاد لمنع الانهيار الكامل لمنظومة الاقتصاد.
وعودة إلى البحرين فإن الحديث مازال قائمًا حول رفع الدولة يدها عن تقديم الخدمات الصحية بالشكل الذي كانت عليه سابقًا، وعلى الرغم من التصريحات النافية للتوجه إلى خصخصة الخدمات المساندة، والتأكيد على أن التغييرات تأتي بشكل أساسي في إطار إعادة الهيكلة الخاصة بالمنظومة الصحية بشكل عام، والتي تتماشى مع قانون الضمان الصحي والتسيير الذاتي للمستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الصحية الأولية.
ولكن هذه المصطلحات، مثل التسيير الذاتي، وعدم رفع الرعاية عن الخدمات الأساسية، تعني جميعًا في طياتها “خفض الصرف” على قطاع الصحة، تماما كما هو الحال مع التعليم.
لقد عرفت البحرين بتفوقها وتميزها عبر مراحل مختلفة من تاريخها في مجالي التعليم والصحة، وذلك على مستوى دول منطقة الخليج العربية.
فالصحة والتعليم، مثل الهواء والماء، يجب أن توفر للجميع، بمستويات لائقة، وذلك لأن المجتمعات لا ترتقي إلا من خلال الارتقاء بصحة وتعليم مواطنيها .
منذ مطلع ثمانينيات القرن الـ 20، اعتمدت الجامعات العالمية، نظريات السوق الحر ومفاهيم النيوليبرالية، والتي أصبحت قاموسًا للحكومات في العالم؛ معتبرة من المواطن زبونًا، وكل ما يقدم له من خدمات عبارة عن سلع، والحياة كلها عبارة عن صراع ماركات.
أما التوجهات النيوليبرالية فهي تحول الخدمات إلى معاملات تجارية تحقق الربح لمن بيده سلطة المال والقرار، في ظل غياب أصوات الحوار والتمثيل الفاعل لجميع أفراد المجتمع داخل البلد.
وإذا تحولت الخدمات الصحية في البحرين إلى الخصخصة -بحسب الفهم النيوليبرالي- ستتنامى المخاوف حول ذهاب هذه الخدمات الصحية إلى الأغنياء، بصفتها سلعة خاضعة للعرض والطلب، بينما قد يحرم منها المواطنون غير القادرين؛ خاصة إذا سقط الحق في الرعاية الصحة من كونه حقًا دستوريًا للمواطنين، في ظل سوق صحي يعتمد على التنافسية والعرض والطلب.
كما اتخذت إحدى المستشفيات في البحرين من التوجهات النيوليبرالية، ذريعة للتطبيع مع إسرائيل، ضاربة عرض الحائط بقضية فلسطين، فإن النيوليبرالية، ليست سوى نوع من التطبيع الإلزامي للدول العربية.
وسط مخاوف بين انتفاء الجانب الأخلاقي في التطبيع، وعدم قدرة المواطنين العاديين على تحمل تكاليف الصحة والتعليم من الخصخصة، هناك مخاوف أكبر وأعم، إذ ستتلاعب النيوليبرالية بمصير الشعوب عن طريق دعم ديمقراطية صورية، كل جوهرها هو الربح، ما يجعل هذا التوجه يجلب المزيد من القمع، وتراجع الحريات وتدني احترام حقوق الإنسان.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.