إذا ما طرحنا على أنفسنا تساؤلاً حول معنى حرية التعبير؛ بالنسبة لنا ستكون الإجابة قبل الحاجة للبحث عن التعريف المرجعي لها بأنها تعني أن أعبر عن آرائي بحريةٍ دون مراقبة الصناعات التي ستصدر مني في التحدث عن رأيي أو الخوف أن تتم معاقبتي لأني عبرت عنها.
انتظر معي، كم مرةً احتجت فيها أن تفكر أكثر من مرة في اختيار كلماتك عند كتابة منشورٍ أو تعليقٍ على فيسبوك؟ كم مرة حاولت الاحتيال على خوارزمياته بتغيير بعض الأحرف واستعمال بعض الرموز للدلالة على الكلمة المحظور تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يقبض عليك أحد موظفي الشركة بجرم التعبير المشهود، ويطبق بحقك عقوبة الإعدام من الوجود في المجتمع الافتراضي؟
المجتمع الحقيقي والافتراضي
خلقت مواقع التواصل الاجتماعي لنفسها مساحة جديدة، عالمًا جديدًا يستولي الواحد منها على الوجود في العالم الواقعي، ويعمق جذور وجوده الجديد، وفرض نفسه سلطة سياسية في هذا العالم لا تتورع عن تنفيذ أحكام الإعدام لمشتركيها ومراقبة سلوكهم والمتاجرة بهم، ومراقبة حرياتهم وتقييدها بسلوك سلطوي شمولي قيمي، مجتمعات أشبه بالمساحات السحابية بالمقارنة مع المجتمع العادي، وبتفاعلية أكبر وخصوصية أقل.
عند إنشائك حسابًا على وسائل التواصل، أنت توافق على استخدام بياناتك والخضوع لنظام اجتماعي يضعه الموقع. صراعاتك ومساحات تعبيرك ستكون وفق المسموح تداوله في النظام، كما أن انتشار قضاياك ووصول صوتك محكوم بأساليبها وأدواتها وحتى قرارت سلطاتها.
في المجتمع الطبيعي (الحقيقي) أنت موجود بالبداهة، لكن في المجتمع الافتراضي أنت موجود فقط في حالة خضوعك لسلطة الشركة المالكة لوسيط هذا الاجتماع، ومخالفتك لمعاييرها يخضع لقوانين عقوبات غير معروفة تحد من تفاعلك الاجتماعي فيه، أو تنتهي بإعدامك نهائيًا عليه.
وصف الحالة
لنبدأ في نقل صورةٍ توصيفية للوضع حاليًا؛ كم من الناس نعرفهم عبر السوشيال ميديا؟ وكم منهم نعمل معهم؟ آخرون نربط بهم علاقات مصالح وصداقة افتراضية قوية أيضًا، وكم من الساعات نقضيها على تطبيقاتها، اجتماع أفراده أكثر تفاعليةً من أي اجتماع عرفناه في تاريخ البشرية، الأشخاص الذين تعرفهم أكثر من أولئك الذين عرفهم أجيالٌ من أسلافك؛ إذًا هذا اجتماع تقضي فيه معظم حياتنا. لننتقل الآن لوصف هذا المجتمع؛ ففي هذا المجتمع قيود وحدود وقيم أخلاقية للتعامل يضعها أشخاصٌ في شركة فيسبوك، إذًا هذا مجتمع وليس واسطة اجتماع.
في العالم الواقعي نعيش تحت مجموعة من القوانين التي تنظم اجتماعنا، وأهمها قوانين العقوبات، وهو قانون يحدد جزاءات للأشخاص الذين يقومون بارتكاب أفعال تخرق القوانين. هذه العقوبات تتمثل في السجن والغرامة وإنهاء الحياة. والسجن هنا هو أكثر أنواع هذه العقوبات تطبيقًا، وهي عقوبة يهدف منها الحد من وجود الشخص في المجتمع، أي الحد من مشاركته فيه. هذا بالضبط ما يفعله معك فيسبوك، تويتر أو أي نوع آخر من تطبيقات التواصل الاجتماعي. إذًا هذا مجتمع وليس وسيط اجتماع.
سلطات
نحن هنا إذًا في مجتمع تحكمه سلطةٌ ما، وهذه السلطة تجني من وجودنا في هذا المجتمع الأرباح، في حين تقدم خدماتٍ فعلية تنعكس في العالم الواقعي لنا كأفراد، لكن ليس بقدر ما تنعكس على واقع هذه السلطات في العالم الافتراضي، لكن المشكلة ليست هنا فقط؛ فهذه السلطات تمارس دور الحاكم في اجتماعنا، وتسيطر على طريقة مشاركتنا، وتمارس معنا سلطةً شموليةً قيمية بمعايير نشرها. كما أنها تقيم نظامًا جزائيًا يمارس بحقنا عقوبة السجن بالحد من مشاركتنا الاجتماعية في هذا المجتمع؛ بل يصل به الحد لتطبيق عقوبة الإعدام بأن يلغي وجود المستخدم من هذا المجتمع.
كل هذه العقوبات تطبق دون وجود أي أنظمة عدلية إنسانية، أو الحق في تعيين محامٍ، كما أن هذه العملية الجزائية تمارسها في الغالبية العظمى منها أكوادٌ برمجية لا تملك الحس الذي سيكون لدى قاضٍ في نظامٍ قضائي إنساني. كما أن بياناتنا ومعلوماتنا كلها متاحة أمام هذا القاضي بشكل مستباح لا يحفظ لنا أي حقوق في الخصوصية أو القدرة على التحفظ معه، ولا يوجد ما يضمن لنا أنه تحت رقابةٍ تمنعه أو تمنع أفرادًا في هذه السلطة من الوصول والاطلاع على هذه البيانات واستخدامها، ولن تكون لدينا حتى المقدرة على معرفة اطلاعهم وتسريبهم لهذه البيانات.
الحالة الطبيعية قبل السلطة الفيسبوكية
إننا إذا ما أردنا الحديث عن حالة طبيعية قبل وجود سلطة افتراضية في مجتمع السوشيال ميديا، فإنه يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذا المجتمع الافتراضي لم يسبق له وجود منفصل دون السلطة التي تحكمه. ولدت مجتمعات السوشيال ميديا تحت سلطة الشركات المالكة لمواقعها على الإنترنت، ولم تترك فرصةً لتقييم وجود مجتمع في حالةٍ طبيعية تسبق وجود السلطة عليه.
المجتمعات الطبيعية على سبيل المثال عاشت مرحلةً انتقالية في المجتمع المادي استطاعت أن تقيم الوضع فيه، كما تطورت عملية هذا الاجتماع للسلطة السياسية أخيرًا كحل لطبع الاجتماع واحتكار العنف وطلب الأمن كما يرى هوبز، بغض النظر ما إذا كانت حلًا مناسبًا أم لا، لحالة الخوف هذه أو الموقف من وجود سلطة سياسية من عدمه. ومهما كانت طبيعة المجتمع ونوع السلطة السياسية فيه؛ فهي عاشت مرحلةً انتقالية واستطاعت في مرحلةٍ ما أن تقرر مصير حقها في حكم نفسها، والطريقة التي تحكم بها إلى حدٍ ما، لكن هذا ليس ما هو حاصل في مجتمعات العالم الإفتراضي.
هذه المجتمعات أكبر من الجغرافيا والحدود السياسية والتأثير الإداري للحكومات، إنها أشبه بحكم العالم من قبل نخبةٍ اقتصادية تتجاوز كل الجغرافيا والجيوش والسلطات، كما أنها تملك القدرة حتى في هندسة اجتماعنا واختيار الأشخاص والمكان والزمان والمواضيع التي أملأ بها يومي، وهو ما يعني سلب الحق في حرية الاختيار.
قد يتم الاعتراض بأننا قمنا بالموافقة العقْدية مسبقًا بالموافقة على شروط الاستخدام، إذا لم يعجبنا يمكننا الخروج منه، وهذا في الحقيقة أشبه بخطاب سلطة شرق أوسطية تقول لك: “مش عاجبك اترك البلد” غادر البلاد إذا لم يعجبك نظام حكمها الديكتاتوري. فهذه الاتفاقية التي نوافق عليها عن بدء الاستخدام هي عقود يتم الموافقة عليها بالإكراه والإجبار في المقام الأول، أي أنها مخدوشةٌ قانونًا، كما أنه لا يمكن الدخول لهذا المجتمع دون الموافقة عليها في المقام الثاني، وهو أيضًا يؤكد على أن الموافقة إجبارية ولا خيار آخر متاح، وهو ما لا يقبل في مجتمع الواقع ولا قيم الليبرالية المدنية الحديثة.
لماذا نعترض.. ما المشكلة؟
مشكلة سلطات مجتمع السوشيال ميديا أنها سلطات تقليدية تحكم مجتمعاتنا بأدوات مستمرة بالتطور في الهيمنة على اختياراتنا في العالمين الواقعي والافتراضي؛ بل وتشكيل أمزجتنا في بعض الأحيان. سلطة تملك القدرة على ذلك لا تخضع لاختيارنا كأفراد مجتمع ولا نمارس عليها أي دور رقابة، وتغيب عنا معها الشفافية.
وذات طابع أخلاقي، فوفق مجموعة من المعايير المثالية والقيم السياسية والاجتماعية يحد مالكو هذه المجتمعات من حرية أفرادها. هي قيم يختلف عليها أفراد هذا المجتمع، وهي قيم غير قابلة للنقد في هذا الفضاء الافتراضي، كما أن صوت معارضة هذه القيود ليس له أي أهمية أو تأثير في سياسة هذه الشركات التي تحكم أفراد هذه المجتمعات بشكلٍ فعليٍ بعيدًا عن مشاكل مطالب اجتماعية، بالمشاركة السياسية أو بمزيدٍ من الحرية أو حتى طريقة اختيار نظامها وطريقة حكمها.
هل نحن في حاجة لعقدٍ اجتماعي افتراضي مع حكومات وسائل التواصل الاجتماعي؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.