تابع المشاهد العربي في رمضان الماضي واحدًا من أهم المسلسلات التي صنعتها الدراما المصرية، “تحت الوصاية“، مسلسل يسلط الضوء على معاناة أرملة تنتقل وصاية أبنائها للجد بعد وفاة زوجها، الأم التي تعاني الأمرّين من جهل الجد وطمع العم الذي يتحكم فيه، تضطر لأن تتسول حقها وحق أبنائها، وعندما تأكدت بأنها لن تحصل إلا على الفتات، قامت بسرقة مركب زوجها المتوفى لتديره بنفسها وتنفق على أبنائها منه.
مشهد الأم وهي تتسول حقها وحق أولادها، يذكرني بفتاة أخرى توفي والدها تاركًا لها ولأخواتها البنات شقة صغيرة، وبسبب عدم وجود أخ ذكر للفتيات كحاجب للميراث، دخل الأعمام في معادلة الإرث، ومع وجود الجدة على قيد الحياة، (والتي توفيت بعد شهور قليلة من وفاة ابنها) أصبح للأعمام نصيب يساوي نصيب الفتيات تقريبًا؛ فبيعت الشقة وهي ملاذ الفتيات الوحيد، ولم يتمكنّ من شراء بيت جديد بحصتهن في الميراث، فتبدد المال على الإيجارات، وعندما طرقت إحدى الفتيات أبواب الأعمام للمساعدة عادت باكية قائلة: “شعرت أنني متسولة “، علما أن التفسير الوحيد لدخول الأعمام في معادلة الإرث عند عدم وجود ابن ذكر للمتوفي هو أن العم ملزم ببنات أخيه واحتياجاتهن، وهذا مالا يحدث في أغلب الأحيان.
لا تنتهي قصص تسول الحق التي تتعرض لها النساء بسبب جور القوانين؛ فالمشهد لخصه أحد الرجال الذين خرجوا في فيديو قبل فترة يدعو الحكومات إلى تجويع المرأة لا إشباعها، فقال: “لا تشبعوا المرأة فإنها إن شبعت استكفت وتركت زوجها، لكن الرجل إن شبع يتزوج أربعًا وينجب ثلاثين”. على الرغم من اعتراض الناس على الفيديو الرجعي، إلا أنني أرى الرجل صادقًا في حديثه؛ بل إني أرى كلامه مختصرًا مفيدًا لكل ما تتعرض له المرأة من عنف اقتصادي بقصد تجويعها لتتسول حقها من الرجال، وتقبل بحلول تمتهن كرامتها، لا يمكن أن تقبل بها وهي امرأة حرة مستقلة مستكفية .
لنعرف كيف وصلت المرأة إلى حالة التسول يجب علينا تتبع مراحل حياتها؛ فالتمييز الذي تتعرض له الفتاة منذ ولادتها يؤسس له العنف المبني على النوع الاجتماعي، حرمانها من فرص الحياة واكتساب الخبرة، وتهيئتها للعمل واكتساب المهارات، هذا العنف تشارك فيه العائلة والمجتمع بحجج مختلفة؛ إما العيب أو الخوف على الفتاة، أو تفضيل الذكر بحجة أن مسؤولياته أكبر، والنتيجة امرأة دائمة الحاجة فاقدة للثقة بنفسها، وأحيانا كثيرة؛ امرأة متسولة.
ولا يمكن أن نتحدث عن العنف الاقتصادي الذي تتعرض له الأنثى دون الحديث عن الميراث وقوانينه وأعرافه، والتي تبتعد عن المنطق السليم والحكمة، كحالة الفتيات اللواتي بيع منزلهن، فقد وقفت كل فتاة منهن على قدميها، وتوجهن لسوق العمل، لكن عدم امتلاكهن لمنزل كان عائقًا يمنعهن من الخروج من دائرة الفقر والخوف من انعدام الأمان، ولأصبح الأمر مختلفًا لو ظل البيت لصاحبته؛ فالمرأة هنا لا تبدأ من نفس النقطة التي يبدأ منها الرجل، ولهذا فإن احتمالية بقائها في دائرة العوز أكبر.
في حالات كثيرة لا تحصل المرأة على حقها الشرعي بالميراث أصلاً، وهذا شائع في بلاد الشام وريف مصر؛ خصوصًا في الأراضي المتوارثة؛ بل يتم تعويضها بمبلغ بسيط بحجة بقاء الأرض باسم أبناء العائلة من الذكور، ومنع دخول أسماء غريبة في معادلة الإرث، ولا تملك المرأة الاعتراض، وهكذا تفقد مصدر قوة وأمان، وتعود لذكور عائلتها إذا جار عليها الزمن، فتمد لهم يدها، وتمدح كرمهم وهي التي لم تأخذ إلا فتات حقها.
العنف الاقتصادي يمهد للعنف الجسدي؛ فالشعور بانعدام الأمان والخوف من المستقبل، يجعل المرأة تقبل الإذلال والانتهاك
العنف الاقتصادي يمهد للعنف الجسدي؛ فالشعور بانعدام الأمان والخوف من المستقبل، يجعل المرأة تقبل الإذلال والانتهاك، فالخيارات محدودة، وهؤلاء الذين يتغنون بتحمل المرأة في الأزمان السابقة للعنف في سبيل بيتها لا يعرفون أنها لو امتلكت المال والخيارات لما تحملت يومًا، ولنا في قصص اللاجئين عبرة؛ فالبيوت التي كانت قائمة على صبر المرأة انهارت عندما قدمت لها الحكومات الغربية الدعم المادي والأمان.
أستذكر إحدى قصص الرعب التي حصلت في الأردن قبل سنوات، وضجت بها وسائل الإعلام؛ حيث قام رجل باقتلاع عيني زوجته في واحدة من أفظع الجرائم التي شهدتها المملكة، وأذكر أن الضحية أوضحت في مقابلة أنها سعت لتطليق زوجها المجرم مرات عديدة، لكنها في كل مرة كانت تتراجع لعدم توفر مبلغ زهيد يدفع ثمن رسوم دعوى الطلاق، أتخيل ألا تملك امرأة ثلاثينية ما يؤهلها للعمل والحصول على مبلغ بسيط كهذا، مبلغ كان من الممكن لو حصلت عليه أن تحتفظ بعينها وترى أطفالها يكبرون أمامها.
لكن العمل وحده ليس ضمانًا للمرأة للخروج من دائرة العنف الاقتصادي في مجتمع يفرض عليها طاعة الذكور؛ فالعنف الاقتصادي يطال النساء العاملات أيضًا؛ فتجبر على الاقتراض دون رغبتها أو العمل في مشاريع عائلية دون أجر، فتبقى المرأة في دوامة الحاجة؛ بل تزيد وتتضاعف مسؤولياتها ومخاوفها .
من الرجال من يدرك أن الامتيازات التي حصل عليها هي ديون يجب سدادها عن طريق واجبات يؤديها تجاه النساء، وهي حقوق للمرأة يجب ألا تطلبها، ولكنهم للأسف في هذا الزمان قلة، كما أن الاعتماد على الرجل وعدله دون رادع قانوني، في الوقت الذي يحصل فيها الرجل على امتيازاته عن المرأة بالقوانين أمر يفتقر إلى العدالة. من الظلم أن يحتفظ الرجل بمميزات أعطيت له بالقانون مقابل واجبات غير مفروضة في نفس القوانين؛ بل متروكة لضميره، من الظلم أن يهيئ المجتمع المرأة لتكون عالة، ويعطي مالها للرجل ثم يطلب منها أن تتسول على أبوابه؛ بل وتشكره على كرمه إن أعطاها فتات حقها .
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.