بعد موت الإسكندر الأكبر (356- 324 ق. م)، اجتاحت الشرق الأوسط أفكار جديدة جمعت بين العقل الهلليني اليوناني والروح المشرقية، اصطلح عليها لاحقًا بالمرحلة “الهلنستية”، وهي التي تميزت بالزخم العقلي والأدبي والفني، وسعة الخيال والرومانسية كعارض من عوارض الاحتكاك بين اليونان؛ ممثلين في البطالمة والسلوقيين، وبين الشرق ممثلين في مصر القديمة وفارس الأخمينية، وحضارات الشام ووادي الرافدين.
كانت من مظاهر هذا الاحتكاك ظهور عدة فلسفات جمعت بين العقل اليوناني المنطقي وبين التأويل الروحاني المشرقي، ومن هذه الفلسفات الأبيقورية والرواقية والأفلاطونية المُحدثة والغنوصية وغيرها؛ حيث اهتمت تلك الفلسفات بالنقد الديني والأدبي والفنون والعمارة، ونقد فلسفات العصر الهلليني أيضًا، ثم شهدت هذه الحقبة ازدهار المسرح والموسيقى والنحت وغيرها كنتيجة طبيعية لاهتمام الناس آنذاك بالتطبيقات العملية لأفكار العصر الهلليني وشروطها في تنمية الخيال والبحث العلمي وخلافه، حتى ظهر نوع جديد من العلم، هو التوفيق بين العقل والدين من جانب، ومحاولات فهم الواقع وتغييره أو الاستسلام له من جانب آخر، وفي تقديري أن الذي دفع هذه الفلسفات للبحث في تلك الأشياء هي حروب الإسكندر وخلفائه الذين اجتاحوا الشرق بأجنادهم فخلقوا دافعًا يبحث في منطقية ونزاهة ما يحدث، ثم التحقق من رؤية وإبصار ذلك بالحواس ومحاولات التناغم معها أو قمعها في المخيلة.
اليوم مع شرح إحدى تلك الفلسفات الهلنستية المؤثرة في الوعي البشري إلى اليوم، وهي “الرواقية” التي سميت بذلك لأن مدارسها كانت تُعقد في أروقة مفتوحة تتزين أعمدتها بنقوش كثيرة؛ ففي ظل هذه الأروقة كانت تُلقى المحاضرات الفلسفية التي جذبت طلابها لجمال البهو والرواق والفنون؛ فطبيعي أن ينتسب هؤلاء لعنصر الجذب الذي أدهشهم في هذا الجوّ الملبد بالعلم والدقة والجمال، مما كان له أثر عظيم في نفوس الرواقيين عبر اهتمامهم الأصيل والجوهري بفن الأخلاق والجماليات والهندسة المعمارية.
ذهب الرواقيون إلى أن الطريق المؤدي لحياة طيبة هو الإيمان بالعقل وحده، وعدم الثقة في الانفعالات البشرية، لأن المشاعر في النهاية تجعلنا باستمرار تعساء
د. إمام عبد الفتاح Tweet
قامت الرواقية على يد الفيلسوف اليوناني “زينون” (334- 262 ق.م)، المولود في قبرص، تلك الجزيرة التي جمعت آنذاك بين الحضارتين “اليونانية والفينيقية”؛ فأثر ذلك على زينون بأن تبنى الروح المشرقية في البحث والعقل الهلليني اليوناني في المنطق، ويقول وول ديورانت في قصة الحضارة (9/26) إنه جمع بين الدم الهلليني والدم السامي؛ فهاجر إلى اليونان سنة 314 ق. م ليتأثر تلقائيًا بثقافة شعبها التي كانت تميل في مجملها لمدراس سقراط والكلبيين معًا، وهي فلسفة ثورية في مجملها تأثر بها زينون في البداية، ثم أعاد النظر فيها لاحقًا بشكل مُعاكِس.
وكطبيعة أي رأي ناقد للثورات؛ فهو معارض للانفعالات والغضب المؤدي لتلك الثورات أساسًا، وأن تحكيم العقل وحده والنظر بواقعية في الأشياء ومآلاتها هو الذي يجب أن يكون، ويشرح د. إمام عبد الفتاح هذا الأمر في سطرين اثنين: ” ذهب الرواقيون إلى أن الطريق المؤدي لحياة طيبة هو الإيمان بالعقل وحده، وعدم الثقة في الانفعالات البشرية، لأن المشاعر في النهاية تجعلنا باستمرار تعساء”. (أقدم لك الفلسفة صـ 42)، ومن تلك الزاوية لا يثق الرواقيون بالمشاعر؛ فيتخذون موقفًا معارضًا أو معاكسًا يتسم بالعقلانية وضبط النفس؛ فهم يرفضون قيادة المشاعر والعواطف للإنسان، وبالتالي لا يسيرون مع التيار والأغلبية؛ بل يقومون بعملية “تقييم عقلاني” للسلوك من أجل الفضيلة والقيم، لأن الأخلاق عندهم أولية بينما العواطف ثانوية.
تأثر زينون في البداية بالفيلسوف الكلبي “أقراطيس” الذي أعجب ببساطته وحياته التقشفية الزهيدة، وفي ذلك يقول ديورانت: “أخذ زينون عن الكلبيين المبادئ الأولية لنظامهِ الأخلاقي، ولم يحاول قط أن يخفي ما هو مدين بهِ إليهم. وقد تأثر بهم في أول كتاب له وهو كتاب “الجمهورية” تأثرًا جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي لا تكون فيها نقود، ولا ملكية، ولا زواج، ولا دين، ولا شرائع. ولما أدرك أن هذه الطوبى، ونظام التغذية الكلبي، لا يصلحان لأن يكونا منهاجًا علميًا للحياة؛ فارق أقراطيس وأخذ يدرس مع زنوقراطيس في المجمع العلمي ومع استبلو المغاري” (قصة الحضارة 9/ 28)، ويُضيف: “بعد أن قضى زينون كثيرًا من السنين تحت وصاية غيره من الفلاسفة أنشأ أخيرًا مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام 301، وذلك بأن أخذ يتحدث إلى الطلاب وهو رائح غادٍ تحت أعمدة الاستواء بوسيلي Stoa Poecile أو المدخل المحدد، وكان يرحب بالفقراء والأغنياء على السواء، ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تلاميذهِ، لأنه كان يشعر بأن الفلسفة لا يفهمها إلا الرجال ناضجي العقل. وحدث أن أطال أحد الشبان في الكلام فقال له زينون: “لقد خُلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيرًا ونتكلم قليلًا” (نفس المصدر 9/ 29).
ومن كلام ديورانت وإمام عبد الفتاح ثم قراءة تاريخ الرواقية في العصرين اليوناني والروماني وتطورها، يظهر لي أن الرواقية تقوم على أربعة محاور:
أولا: التناغم مع الطبيعة حيث هي وليس كما يجب أن تكون، ومن ذلك رآها البعض “فلسفة جبرية” تؤسس للخنوع واللامبالاة، نظرًا للدكتاتورية التي ميزت العصرين اليوناني والروماني، والقيود التي فرضها الأباطرة الرومان بالخصوص على الحياة السياسية، وفي رأيي هو عدم فهم لفكرة التناغم التي شرحها فلاسفة الصين ومفكرو الأديان الشرقية بالعموم، حيث إن التناغم بين الإنسان والطبيعة يلزمه فهم آلية عمل تلك الطبيعة كمقدمة للعلم بمكوناتها، ومن ثم استشراف المستقبل؛ فالرواقية هنا فلسفة تنبؤية تقول إن محاولات تغيير ما لا يمكن تغييره عبث وفوضى يؤديان لحدوث العكس، كأمثال الثورات مثلاً التي قامت على مبادئ العدل والحريات؛ فإذ بها تطيح بما تبقى من العدل والحريات، وهذا لا يعني الانبطاح والجبر مثلما وصفت بهما الرواقية؛ بل العمل على التغيير الإيجابي مما هو ممكن ومتاح، ولا يعني ذلك الرضا أو الدفاع عن الظلم والبطش بل الواقعية في مواجهته.
تقول فكرة التناغم أن الإنسان ليس مُسيّرًا ولا مخيرًا دائمًا، هناك ما هو مسير فيه الإنسان ولا يقدر على اختياره، وهناك من يُخيّر فيه والرأي مفتوح، والذي شرح هذه الفكرة أكثر الفيلسوف الرواقي “أبكتيتوس” المتوفى عام 135م؛ فالتعاسة والحزن والفشل إذًا هما نتاج عمل الإنسان بالأساس، الذي لم يفهم أو عجز عن التفريق بين ما يمكن اختياره وما لا يمكن؛ فهو إنسان جهل بأبسط شيء مطلوب فهمه وفقًا للرواقية، وهو (آلية عمل الكون) أو الطريقة التي يمكن بها الإنسان أن يفرق بين ما يمكن التحكم فيه وما لا يمكن، وأظن أن ملمح هذا القول كان في اندفاع فلاسفة الرواقية لعقلنة الأديان، لأنهم رأوا بأن الدافع الذي يؤثر في الناس لترك أديانهم هو (عجز الآلهة)؛ فالرواقي يريد إيصال فكرة أن عجز الآلهة المتخيل هو نتاج فكرة مضللة عن إمكانية التحكم وتغيير ما لا يمكن تغييره أو التحكم فيه.
أو بعبارة أخرى أن مشاكلنا ليست في الأشياء نفسها، ولكن في “كيفية إدراكنا” لها؛ فهم يُفرّقون بين الذاتي والموضوعي من تلك الجهة، لأن الشيء/ الذات ليس هو جوهر المشكلة، ولكن موضوعه/ رؤيتنا له، مما يعطي للإنسان أهلية وقابلية لإجراءات وقرارات صحيحة تتفق مع مصالحه وسعادته، ومن تلك الزاوية أقرّت الرواقية المبدأ البراجماتي العملي قبل ظهوره ب 2000 عام في القرن 19م.
الرواقية لا تهتم بالرد على الخصوم، ولكنها تهتم بالبحث عن المعرفة التي بمجرد الوصول إليها والتلذذ بها يعني الشعور بالسعادة آليا
ثانيا: السعادة ليست هدفًا للفكر؛ بل هي نتيجة للأخلاق والفضيلة وعدم الانفعال والغضب، وفي هذا المحور مالت الرواقية للفلسفة الهندية والمشرقية التي قالت (بالكارما)، أو المبدأ الإسلامي (كما تَدين تُدان)؛ فظروف نشأة الرواقية وقت الحروب الأهلية اليونانية وصراع الأوربيين مع الفرس الذي ختمه الإسكندر الأكبر باحتلال بلاد فارس والشام ومصر؛ فرض عليهم الاهتمام بالقيم الإكسيولوجية (الحب والخير والجمال)، كتعويض عن القُبح والظلم والشر الذي صاحب تلك الحروب اليونانية، وفي فلسفة التاريخ اعتبرت الهلنستية مؤثرة في الفكر الديني المسيحي الذي جمع بين (العقل والروح)، لهذا السبب وهو أنها جاءت في أعقاب حروب مريرة ودمار هائل صاحب قدوم اليونان للشرق؛ الأمر الذي تكرر في بدايات القرن 19 ردًا على حروب القرن 18 القاسية، وبعد الحرب العالمية الثانية الذي نشط فيه الفكر الرومانسي ردًا على مجازر هتلر وروزفلت من نفس الزاوية.
تأثر الرواقيون بحروب الإسكندر دفعهم ذلك للنظر بطريقة مختلفة؛ فهم لن يُغيّروا من الأمر شيئًا؛ نظرًا لأن السياسة قام عليها مستبدون ومُجرمون لا يعطون الأولوية للإنسان بل لمصالحهم وأهوائهم؛ فالمفكر لا وزن له إطلاقًا ولا يقوم بأي دور سياسي، ومعارك الدول يقوم عليها حمقى وشباب عديمو الخبرة، أو متطرفون مُشبعون بالكراهية؛ فصار الانشغال بالسياسة على حساب الأخلاق والفضيلة لا جدوى منه؛ فالمطلوب إذًا أنه لم تعد الحقيقة المعرفية، بل الانسجام مع المجتمع وقبول الواقع كما هو وليس كما يجب أن يكون؛ فسواء قبلت أو لم تقبل لن يتغير شيء؛ فحسب رأي زينون والرواقيين أن قبولك بالأصل علامة انفتاح وسعادة داخلية تحملك على العيش الآمن، ومن ثم إمكانية التغيير بالأخلاق.
استفاد زينون هنا من الفيلسوف “أبيقور” (341- 270 ق.م) بحكم المعاصرة رغم اختلاف فلسفتهما نسبيًا؛ فالرواقية والأبيقورية متشابهتان في اعتزال السياسة والاهتمام بنشر الفضيلة والأخلاق، وهي سمة عامة للعصر الهلنستي أثرت على تفكير الناس وأصبحوا بناء عليها أقل ثورات توازيًا مع ارتفاع ملحوظ لصراعات النخب، وهو تعبير عن حقيقة تاريخية في المادية الجدلية تقول (بحتمية الصراع)، أي أنه لو رأى زينون وأبيقور أن أفكارهما ذهبت إلى (اللا صراع)؛ ففكرهما نفسه سيتصارع مع بعضه، وهي نقطة فلسفية رآها الماديون والماركسيون في عصر لاحق.
أما خصوم الرواقية فوجدوا في هذا المحور مادة خصبة لإسقاطها ، مثلما حدث مع الفلسفة الكلبية التي أسسها الفيلسوف اليوناني “أنتيس تنيس” (445- 365 ق.م)، الذي ورث من سقراط عقلانيته الأبستمولوجية وثوريته السياسية، وقال إن الفضيلة مقدمة على اللذة، وباعتبار أن التناغم مع الطبيعة والصمت عن شرور السياسيين هو بحث أصلاً عن اللذة؛ فبالتالي أصبحت أقوال أبيقور وزينون هي عند الكلبيين (أصل الشرور)، أو بالأحرى إعانة الشرير على شره؛ فالقول بالانسجام مع الشر وترك مقاومته غير متحقق أصلاً مع الحكام، لأن الواقع يشهد بأن الصراع معهم حتمي، وإسقاطهم لا مفر منه؛ فلو كان زينون يقول (أطيعوا المستبد وأولي الأمر منكم)؛ فأنتيس تنيس قال” (لا طاعة لمخلوق في الجهل والظلم)، وسيظل البشر في صراع أبدي بين القبول بالأمر الواقع ومقاومته حتى يتغير التاريخ ويصبح الواقع القديم شرًا وتجربة لا يجب أن تتكرر.
ثالثا: السلمية التامة واعتزال السياسة وكل ما يؤدي للصراعات؛ فالرواقية من هذا المحور تعطي للعقل فسحة من التأمل والهدوء لتمكنه من البحث المنطقي والعقلاني الجاد لمشاكل الطبيعة، لأن الثورات والصراعات والانشغال بالسياسة تؤثر سلبًا في حجم إدراكنا للواقع وفقًا لحتمية تأثير العاطفة والأهواء والميول الشخصية على الحقيقة؛ فالمطلوب إذًا وفقًا للرواقيين أن يتجرد الإنسان من الصراعات وأجوائها قبل البحث، لأن الرسالة الأساسية للرواقية هي أن تساعدك في حل المشاكل لا أن تُصبح جزء منها؛ فالكثير ممن يتصدون للمشكلات بغرض حلها يصبحون بشكل أو بآخر طرفًا في المشكلة دون وعي، لأن النفس حينها لا تتمتع بالهدوء والاستقرار الكافي للحكمة، وطبيعي أن يؤدي التوتر الناتج عن هذه الصراعات لأحكام وصور مزيفة.
شخصيًا؛ فهمت من هذا المحور للرواقية أن الانشغال بتصحيح الأكاذيب والانتقام لا يجلبان السعادة؛ فالرواقية لا تهتم بالرد على الخصوم، ولكنها تهتم بالبحث عن المعرفة التي بمجرد الوصول إليها والتلذذ بها يعني الشعور بالسعادة آليا، وهذا المعنى الذي شرحته في المحور الثاني مرتبط شرطيًا بالثالث؛ فلو لم تكن مسالمًا لن تشعر بالسعادة، ولو أصبحت جزءً من أي صراع وأصبحت دمية لعواطفك وأحكامك المسبقة وميولك الشخصية وتصوراتك الوهمية؛ تصبح غير قادر على التحكم في دوافعك، ومن ثم تنفعل وتغضب ويصدر منك أشياء مزعجة لك وللآخرين، ومن ثم لن تحصل على السعادة المطلوبة كهدف للفلسفة بشكل عام.
رابعًا وأخيرًا: النقد الذاتي؛ وهذا المحور أعتبره أهم محاور الرواقية على الإطلاق، وهو الذي يعطيها معنى الفلسفة، لأن مجرد سرد المحاور الثلاثة الأولى يعني أن الرواقية لا تعدو كونها طريقة عيش لا أكثر، وأسلوب حياة للبعض حتى ممن لا يملكون العلم والعقل، لكن المحور الرابع من فرط أهميته انشغل به الرواقيون حتى مارسوا التفلسف ورؤية العالم بمنظور مختلف..
استخدمت كلمة "لوجوس" في الفلسفة الرواقية في عبارة «لوجوس سبرماتيكوس logos spermaticus» بمعنى «الكلمة التي تعطي الحياة»
رابعًا وأخيرًا: النقد الذاتي؛ وهذا المحور أعتبره أهم محاور الرواقية على الإطلاق، وهو الذي يعطيها معنى الفلسفة، لأن مجرد سرد المحاور الثلاثة الأولى يعني أن الرواقية لا تعدو كونها طريقة عيش لا أكثر، وأسلوب حياة للبعض حتى ممن لا يملكون العلم والعقل، لكن المحور الرابع من فرط أهميته انشغل به الرواقيون حتى مارسوا التفلسف ورؤية العالم بمنظور مختلف..
النقد الذاتي ليس أمرًا بسيطًا بل يتطلب الوعي بالذات أولاً، وبالأخطاء الشخصية للوقوف على حجم إمكاناتك والفصل ما بين الممكن والمتاح وما بين غيره ثانيًا؛ فضلاً عن ضرورة اكتساب المعارف وسعة الاطلاع من أجل إبصار العيوب لتغليب الشؤون العملية على النظرية ثالثًا؛ فالرواقية متماسكة جدًا في هذا الجانب، لأن المحور الأول في التناغم مع الطبيعة، وقبول ما لا يمكن تغييره يلزمه الوقوف على حجم وقدرات الإنسان، والواقع يقول أن الأغلبية تعطي لنفسها قدرات ومواهب غير حقيقية، هي التي تصنع المشكلات وتضع الناس في صراعات ومتاهات؛ فالحروب – مثلاً – لا يمكن أن تحدث سوى بصور ذهنية مزيفة عند الطرفين تجاه بعضهم البعض، ولو تواضع أحد الأطراف وصار أكثر تهذيبًا ونقدًا ذاتيًا سيمنع الحرب في الغالب؛ فالرواقية قبل أن تبحث في التناغم مع الطبيعة تبحث أولاً في قدرات الإنسان الحقيقية، والعمل على تحسينها والشك فيها وتطويرها لتناسب الواقع لا أكثر.
ومن شدة حرص الرواقيين على انتقاء كلماتهم وعباراتهم، اعتبروا أن الكلمة هي سر الحياة؛ فالإنسان كثير التجارب والصدمات قليل في عباراته وكلماته ويغلب عليه الصمت والتأمل قبل التورط بحديث لا جدوى منه، أو يتورط على إثره في صراعات يرفضها، وقد أحدث ذلك لبسًا عند الإسلاميين ورأوا أن منزلة الكلمة عند الرواقيين جعلتهم مؤمنين بالحلولية والاتحاد الصوفي مع الإله، وفي تقديري أن هذا سوء فهم للكلمة مثلما ذكر عبد الوهاب المسيري تلك العبارتين:
“وقد استخدمت كلمة “لوجوس” في الفلسفة الرواقية في عبارة «لوجوس سبرماتيكوس logos spermaticus» بمعنى «الكلمة التي تعطي الحياة»، وهي عبارة تعني أن الكلمة بمنزلة البذرة أو المنيّ أو سائل الحياة الذي يُنثَر في العالم بأسره فيسبب الولادة والنمو والتغيُّر في كل الأشياء، (وهنا تظهر واحدة من أهم مفردات الحلولية).” (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 1/ 409)، وقال أيضًا “إن الفلسفات والعبادات التي انتشرت في العالم الوثني الروماني بعد أفلاطون وأرسطو (الرواقية ـ الأبيقورية ـ الفيثاغورثية الجديدة ـ الأفلاطونية الحديثة ـ الغنوصية ـ الأورفية… إلخ). كانت فلسفات وعقائد حلولية، وفيلون السكندري جزء من هذا التيار الحضاري العام بغض النظر عن البُعد اليهودي في تفكيره ووجدانه، وتأخذ الحلولية عند فيلون طابعًا كوزموبوليتانيًا كونيًا كما هو الحال في الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية الحديثة” (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 8/ 56)؛ فالمسيري ينطلق من فكرة حلولية الرواقية (دينيًا) لسببين:
الأول: ربطه المحذوف بين ظهور المسيحية وبين فلسفات العصر الهلنستي بالعموم – ومن ضمنها الرواقية –؛ فكلمة الله المتجسدة في الواقع بالناسوت في الدين المسيحي هي التي دفعت الرواقيين للقول بطاعة الطبيعة والتفكير في عدم التحكم فيها أو السيطرة عليها، بيد أنك لا تجد في مصنفات الرواقيين أو المأثور عنهم حديثًا دينيًا يقول بالحلول؛ بل هو استنتاج من المسيري بمقدمة مُضمِرة رأى فيها – حسبما أظن – ربطًا بين الديانة الأورفية وبين الفلسفة الرواقية، باعتبار أن زينون مؤسس الرواقية هو من أحد مؤسسي ونشطاء الأورفية التي اعترف وول ديورانت في قصة الحضارة أن الرواقية تقول بوحدة الوجود في معرض حديثة عن قيامها على أصل أورفي (5/ 435) (9/ 15).
إضافة لما عُرف عن الفيلسوف الرواقي “سينكا” المتوفى عام 65 م أنه كان متأثرًا بروحانية بولس الرسول، والقول بثنائية النفس والجسد وتغليب المحبة على الكراهية والصراع؛ مما يعطي طابعًا مسيحيًا على الرواقية في هذا الجانب، لكن المسيري صمت عن الإمبراطور الروماني “ماركوس أوريليوس” (121- 180م) الذي كان فيلسوفًا رواقيًا شهيرًا ومؤثرًا ولم يكن مسيحيًا؛ بل كان يدين بعقيدة اليونان، وإن كان يغلب عليه طابع المحبة وكراهية الحروب واعتقاده بأخوة البشر وفقا للدكتور “مصطفى النشار” في كتابه “الفلسفة اليونانية بعد أفلاطون صـ 155″، وهي أمور جوهرية في الدين المسيحي عرفها البعض أنها كانت مؤثرة في صياغة عقائد الرهبان المسيحيين في القرون الأولى، وإن كان شارحها لم يكن مسيحيًا.
الثاني: لم يناقش أبعاد ظهور الرواقية – وسائر فلسفات العصر الهلنستي – السياسية والاجتماعية والتاريخية التي جعلت من الفيلسوف الرواقي أشبه بحكماء الصين في ترك النزاعات، والتنزه عن الصراعات والترفع عن المشكلات، إنها مرحلة دفعت حكماء هذه الحقبة للقتال ضد تحيزاتهم الشخصية وميولهم التي تتفق حتمًا مع أحد أطراف الصراع، لكن الطريقة الجديدة للتفكير دفعتهم للتواضع واعتبار ما يجري لا يستحق الانشغال به على حساب القيم والجماليات والأخلاقيات؛ فقد أعطوا جهدهم الرئيسي للفصل بين ما هو كائن من صراعات، وبين ما يجب أن يكون من جماليات، مما كان له أثر كبير في إقناع الكثيرين بهم وتبني وجهات نظرهم، والبحث في الأولويات والتخلي عن الثانويات ولو مؤقتًا.
عامل الوقت عند الرواقية مهم جدًا في الإنجاز والإنتاج؛ فالذي يحملهم على ترك الصراعات والانشغال بالجماليات والأخلاقيات، هو إدراكهم لقيمة الوقت وأهمية القرار الصحيح والمناسب للحصول على السعادة
وجوهر هذا التحليل للمسيري أنه اختصر الرواقية في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود كشعار ومبدأ أولي يعبر عن انشغاله هو برؤية الرواقيين بمنظور ديني لا بمنظور سياسي وعلمي واجتماعي، كما هو مفترض أن ينظر إليها في موسوعته، وطريقته في التفكير تشبه طريقة الإسلاميين في النظر للعلماء بمنظور ديني مثلما رأوا كارل ماركس ملحدًا رغم أن معتقد ماركس الديني لم يكن هو الذي صاغ نظريته في علم الاجتماع والاشتراكية ورأس المال؛ بل ثوريته ورفضه للطبقية والأثر النفسي والاجتماعي والمادي الناجم عنها، وتشارلز داروين أيضًا بنفس الصورة برغم أن عقيدته الدينية لم تكن هي الحافز له على اكتشاف وتطوير رؤيته للتطور؛ فقد سبق داروين العديد من علماء المسلمين الحديث عن التطور بشكل بدائي مختلف، ولو كان ذلك صحيحًا فما الذي منع ملحدي القرون السابقة قبل داروين في التوصل لنظريته في الأحياء بتلك الدقة وهذا العُمق؟
فالرواقية – وإن قال بعضهم بالحلول والاتحاد -؛ إلا أن ذلك لم يكن شغلهم الأول، ولم يتصرفوا بناء عليه لمركزية الرؤية الاجتماعية في تصورهم لمشاكل العالم؛ فهم يبحثون في حل المشكلات أكثر من بحثهم في الدين والميتافيزيقا، ويرون أن السؤال الواجب عليهم هو التفكير فيما يجب الالتزام به، والسبب للقيام بذلك من الأساس ، ثم وضع الأخلاق والفضيلة مُثلاً عليًا حاكمة ومعيارًا مثلما وصفها ديورانت: “لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى الهدف الذي عجز أفلاطون عن الوصول إليهِ – يقصد المدينة الفاضلة” (قصة الحضارة 9/ 26).
لكن ثمة اعتراضًا على هذا القول بأن ديكارت شبّه الفلسفة بالشجرة التي جذرها الميتافيزيقا، ويعني أن مناهج الفلاسفة تنبع أوليًا من تصورهم الديني للكون، والرد على ذلك أن في العصر الرواقي لم تكن الفلسفة قد انفصلت بعد عن العلم بشكل كلي مثلما عليها الآن؛ فالرياضيات انفصلت أولا على يد أرشميدس وفيثاغورث وإقليدس، والرواقيون شهدوا هذا الفصل بالتأكيد، لكنهم لم يلحظوه، لأن البشرية لم تدرك حينها ماهية ذلك الفصل بالعقل التحليلي الذي نفكر به اليوم والذي ظهر في القرن 19، (انظر مقالنا على مواطن بعنوان “الفلسفة التحليلية والفكر الإسلامي. عالم ما بعد الشمولية)، أما الفيزياء فقد انفصلت على يد جاليليو ونيوتن في عصر النهضة، والكيمياء انفصلت على يد “لافوازيه”، وعلم الاجتماع انفصل على يد “أوجست كونت وسان سيمون وكارل ماركس”، والأحياء انفصلت على يد “تشارلز داروين”، وعلم النفس انفصل على يد “وليم جيمس وسيجموند فرويد”.
نخلص من هذا أن زينون وتلاميذه الرواقيين كانوا يملكون نظرة شمولية للكون والأشياء، هي التي ميزت رؤيتهم وجعلتهم في صراع لإثبات أولوية الأخلاق والفضيلة، والتأمل والزهد على الصراعات والسياسة والأهواء والميول البشرية؛ فهم لم يركنوا لمعتقد ديني لصياغة نظرية دينية ميتافيزيقية، مثلما حدث لأتباع الفلسفة المدرسية مثلاً أو علماء الكلام في الدين الإسلامي؛ بل تفاعلوا بواقعية مع أحداث سياسية واجتماعية جعلت من البحث المعرفي والفلسفي (سؤالًا موضوعيًا)، مما أكسبهم طريقة مميزة في التفكير لها أنصار بالملايين إلى اليوم، بل أزعم أن السياسة الدولية المعاصرة تقوم على مبدأين رواقيين بالأساس، وهما (الفصل ما بين القناعة والقرار) و (السيطرة على المشاعر)؛ فالقناعة تخص المعتقدات والميول، لكن القرار يخص المصالح، ومن ذلك تتولد الأسئلة حول المصلحة والحقيقة التي حكمت معظم الشرائع الحالية وكانت سببًا أصيلاً في صياغة ميثاق حقوق الإنسان العالمي في الأربعينات، وكذلك فكرة الدستور والعقد الاجتماعي في القرنين 17، 18 م
أخيرا؛ إن عامل الوقت عند الرواقية مهم جدًا في الإنجاز والإنتاج؛ فالذي يحملهم على ترك الصراعات والانشغال بالجماليات والأخلاقيات، هو إدراكهم لقيمة الوقت وأهمية القرار الصحيح والمناسب للحصول على السعادة، ومن تلك الزاوية فالرواقية هي فلسفة إنسانية بشكل عام تعمدت ذكرها على مواطن بشكل منفرد؛ كونها تناقش سلوكيات وعقل البشر في كل زمان ومكان، بيد أن هذا التفلسف الرواقي موجود في اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو موجود أيضًا في الأديان الشرقية والآسيوية، وموجود أيضًا في فلسفات الحداثة وما بعدها؛ فالعقبات أمام حل المشاكل كثيرة، لكن أهمها هو الانشغال بالحكم على الآخرين وعدم الاهتمام بالوعي الذاتي والتفكير في مآلات السلوك البشري وانعكاسه على مستقبلهم، وأن التركيز على الفعل الصحيح في الوقت المناسب هو قمة الحكمة والنُضج الذي من أجله وُجِدَ التفلسف، ولغايته وجد الإنسان ليشعر بالسعادة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.