في عمومها أوجاع البشرية طويلة الأمد، متوارثة، لو كانت حظًا سيئًا؛ فهو يتبع النسل إلى آخر رمق، ولو كانت وازرة فهي تزر وزر أخرى، ولو كانت خطأ غير مقصود؛ فآثاره ستظل تنقط على رأس السلالة ظلمًا وألمًا وسمعة متوارثة، هكذا يبدو مسار وجع البشرية الأكبر، وجع انعدام الجنسية.
هذا الوجع الذي لا يريد أن يختفي بعد، ولم تتمكن كل المدنية والحضارة الإنسانية والمنظومة الحقوقية الصارمة التي تتشدق بها الدول “العظمى”، وتتمسح بها الدول “الصغرى”، من أن تطويه في صفحات الكتب؛ تاريخًا أسود محرجًا، كما فعلت مع أحداث وأوجاع أخرى تحولت كلها من جرائم ملموسة، إلى اعتذارات مكتوبة يقدمها البشر ولا يتحملون فعليًا مسؤوليتها، متنصلين من هذه المسؤولية بحكم مرور الزمن، وبحكم أن الجريمة لا تورث؛ إنما نتاجها وأوجاعها هي التي تُوَرَّث للطرف المكلوم.
لا دولة تقبل استقبالهم، لا أرض تريد احتواءهم، لا مجتمع قادر على رؤية الثروة الحقيقية في وجودهم كبشر، كل جرم هؤلاء أنهم ولدوا بين الحدود، بين القوانين؛ في عمق الخلافات الكبرى التي عادة ما تطحن المنظومات الصغرى.
هناك ما يزيد عن اثني عشر مليون إنسان لا يزالون معلقين بين حدود الدول، أحيانًا رمزيًا، وأحايين فعليًا، يسيرون في هذه الحياة بلا هوية، بلا أرض يأمنون لها أو نظام سياسي يحتمون به، بلا مجتمع يتمتعون بالانتماء إليه والتفاخر بعاداته وتقاليده؛ بل والتعنصر اللذيذ له كما تفعل الأغلبية الغالبة من البشر، تحيا أعداد كبيرة من هؤلاء في أوضاع مزرية، وفي حالة فقر حقوقي، وإفقار اقتصادي متعمد من الأنظمة السياسية المحيطة، والتي تعاملهم على أنهم عبء يرمون بكل الوسائل والحيل القانونية وغير القانونية للتخلص منه.
الكثير منهم يقضون سنوات من أعمارهم في سجون الإبعاد “بجرم” السقوط في الشقوق التاريخية والقانونية العميقة بين الدول، منذ فجر تكونها في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لتُهدر حيوات هؤلاء انتظارًا في “زنازين الأبرياء والضحايا”، لا دولة تقبل استقبالهم، لا أرض تريد احتواءهم، لا مجتمع قادر على رؤية الثروة الحقيقية في وجودهم كبشر وعقول وأجساد، كل جرم هؤلاء أنهم ولدوا بين الحدود، بين القوانين؛ في عمق الخلافات الكبرى التي عادة ما تطحن المنظومات الصغرى؛ في متاهة لا حل لها ولا أحد يريد أن يتكفل بها.
إلا أن انعدام الجنسية الخليجي هو أكثر وجعًا وخطورة؛ ذلك أن أصحابه واضحو الهوية في الغالبية العظمى من الحالات، يتكلمون بذات اللسان، يدينون بذات الدين، يحيين بذات العادات والتقاليد؛ بل ويستقرون على ذات الأرض منذ أن وجدوا في الحياة؛ فما المطلوب أكثر ليحققوا معنى الانتماء؟
سقط هؤلاء خارج المنظومة المدنية القانونية؛ ليس بسبب حرب، كما هو حاصل مع الأغلبية من حالات انعدام الجنسية العالمية؛ إنما سقطوا بسبب ظروف المعيشة البدائية التي كانت تسيطر على منطقة الخليج، حين دخلت عليه المنظومة المدنية بادئة خطواتها بتحديد الحدود وإقرار قوانين الجنسية.
ومثلهم كذلك عرب حدود سوريا وبعض الدول العربية الأخرى، التي كانت الجموع المرتحلة تستقر أحيانًا ومؤقتأً على حدودها. معظم عديمي الجنسية في منطقة الخليج هم من القبائل الرحَّل، أو من كان يطلق عليهم أهل البادية، وهي قبائل متنوعة التصنيف، منها قبائل الشمال وقبائل الجنوب، منها من ينتمون للمذهب الشيعي ومن ينتمون للمذهب السني، منها من لهم أصول عراقية، إيرانية، سعودية وكذلك سورية، هؤلاء كانوا مستمري التنقل؛ حيث تسبب عدم استقرارهم الطويل في منطقة واحدة، لأن تفوتهم فرصة التقديم في دولة ناشئة معينة، كما وأن تفوتهم فرصة أن توثقهم هذه الدولة وتحسبهم ضمن أهلها.
كذلك فإن عددًا جيدًا من عديمي الجنسية كانوا من أهل المدينة، من المستقرين على الأرض، والذين تخطوا أهمية “ورقة الجنسية” بعقلية ما قبل تخطيط الحدود، وتمدين معاملات الدول الوليدة عن الإمارات القديمة، لم يكن هؤلاء يعون أهمية التقديم لورقة تثبت الانتماء؛ فالانتماء بالنسبة لهم وجود واستمرار وإخلاص للأرض، ولغة ودين وعادات وتقاليد، وبما أنهم يحوزون كل ذلك؛ فأي أهمية هناك لاستخراج ورقة؟
ما يزيد عن اثني عشر مليون إنسان لا يزالون معلقين بين حدود الدول، أحيانًا رمزيًا، وأحايين فعليًا، يسيرون في هذه الحياة بلا هوية، بلا أرض يأمنون لها أو نظام سياسي يحتمون به، بلا مجتمع يتمتعون بالانتماء إليه.
هناك كذلك أسباب أخرى غير متوقعة لانعدام الجنسية، كوجود ضغائن وخلافات بين العائلات، مما جعل عملية قبول التقديم للجنسية، والتي كانت تتطلب شهودًا على الوجود على الأرض وإثباتًا للمعرفة بالأشخاص، تعرقل بالوسائط والمحسوبيات تصفية للضغينة؛ بل إن بعض الروايات تقول بأن بعض الآباء منع الجنسية عن بعض الأبناء نكاية بأمهاتهم وعقابًا لهن إذا ما اختلفوا معهن.
وبكل تأكيد لا يمكن نفي عمليات التسلل بين الحدود ومحاولات الهروب من الدول الأم بسبب الفقر أو المعاناة أو الخوف أو غيرها، وهي وإن كانت ممارسات غير قانونية؛ فهي أولًا تسببت في تشكيل عدد محدود من عديمي الجنسية في الخليج، وهي ثانيًا لا تزال مفهومة ومبررة بالدوافع الإنسانية في السعي للأمان والعيش الكريم، ولا تزال تتحمل مسؤولية معالجتها الدول المعنية بكل مقدراتها وأجهزتها، لا الأفراد بقدراتهم المحدودة ومعاناتهم المستمرة.
المحصلة أنه مهما كان السبب هينًا أو خطيرًا؛ فإن النتائج لن تكون هينة أبدًا، عديمو الجنسية في الكويت، أو من يطلق عليهم البدون، وكما بقية عديمي الجنسية في منطقة الخليج والشرق الأوسط بل والعالم كله بلا صوت مسموع. إلا أنهم في الكويت وبسبب الديمقراطية النسبية مسموعون وقادرون على إبراز قضيتهم.
فهؤلاء لا يعانون فقط من انتقاص الحقوق الإنسانية، والتي أهمها حق الانتماء والحصول على هوية. لا يقاسون فقط من صعوبة الحصول على الحقوق الأساسية بالتعليم والطبابة وحرية التنقل وفرص للعمل، وتلك الأخيرة تحديدًا شائكة ومريرة؛ ذلك أنه لا أسوأ من محاربة الإنسان في لقمة عيشه، فوق كل ذلك، يعاني البدون من حملة ممنهجة عنصرية لتشويه صورتهم الهوياتية وسلوكهم القانوني المدني وتاريخهم العائلي الخاص، وحتى شعورهم الانتمائي، وسلوكهم الإخلاصي للأرض التي عليها يحيون.
تقول الحكايا إن هؤلاء عديمي الجنسية الذين عاشوا على أسطح السفن وقضوا حياتهم في البحار، ودفنوا في مياهها كانوا أشبه بالأشباح، ضاعت حياتهم وذاكرتهم وأرواحهم وابتسامتهم، ولم يتبق منهم سوى أجساد مهترئة، أشباه بشر.
وعلى الرغم من أن العدد الأكبر من البدون في الكويت تحديدًا كانوا يعملون في جيشها وشرطتها وحراساتها الخاصة، وعددًا كبيرًا منهم فقدوا حيواتهم في الحروب التي خاضتها الكويت، وإبان ظروفها القاسية مثل الهجوم الغاشم على موكب الأمير الشيخ جابر في 1985، وخلال الغزو العراقي في 1990، والذي أُسِر واستشهد إبانه عدد واضح من البدون، إلا أن كل ذلك لم يشفع لهم، لم يثبت إخلاصهم وولاؤهم، كل ذلك، وإن تصاحب مع أوراق ثبوتية قديمة، وإقامة تاريخية ممتدة ولسان ودين مطابقين لأهل البلد، لم يولهم الورقة المطلوبة ليحيوا بها الحياة الإنسانية الطبيعية محفوظة الكرامة والحقوق.
إن لانعدام الجنسية آثارًا خطيرة، منها المعروف والملحوظ، ومنها ما يسري كالحمض الأسيدي في الأبدان والأرواح خفية وسرًا، لا يستشعر حرقتها وأذاها القاتل البطيء سوى أصحابها؛ فبخلاف تخلف كل الظروف الحياتية لعديمي الجنسية عن المسار الطبيعي؛ فيتخلفون في فرص التقدم الوظيفي، وتتوه منهم وأبناءهم فرص التعليم الجيدة، وتضيع منهم فرص التنقل، ورؤية أي أجزاء أخرى من العالم ولو الأماكن الدينية التي يتمنون زيارتها ورعًا وعبادة.
ويعانون صحيًا من تعسر الحصول على الرعاية الطبية، ومن الاضطرار للسكن، عادة؛ في مناطق فقيرة مكتظة مرتفعة التلوث قليلة النظافة والخدمات، إلا أن أسوأ ما يصيب هؤلاء، هو هذا الشعور المسموم المتوارث عبر الأجيال بالضياع والانعزال والوحدة وغياب الأمان.
في عالم اليوم، لا يستطيع الفرد أن يعيش منفردًا؛ بل لم يعد يستطيع العيش في مجموعة صغيرة عشائرية كانت كافية ووافية ذات زمن، ما يحتاجه إنسان القرن العشرين والحادي والعشرين، هو منظومة سياسية مدنية في شكل دولة كاملة متكاملة معترف بها ذات سيادة، وحكومة ومؤسسات فاعلة، لكي يعيش في ظلها، تعترف به وتحميه وتنظم شؤون حياته وعلاقاته بالأفراد؛ بل وبالدول الأخرى.
وحين نسافر نحن، لأي مكان في العالم، يلازمنا عادة شعور بالأمان، في وجود جواز سفر يثبت انتماءنا، وسفارة لدولتنا تحيطنا برعايتها وتنقذنا في المآزق؛ فهل لنا أن نتخيل شعور الإنسان عديم الجنسية، الذي إذا ما كان له حظ أفضل، واستطاع أن يسافر إلى مكان ما وحلت عليه مشكلة؟ لأي ملجأ يلجأ؟ وأي شعور بالوحدة والتوهان سيعاني؟
ليست قصص مثل هذا التوهان غريبة أو حتى قليلة؛ فتاريخنا البشري الحديث يقول بقصص أفراد تاهوا في العالم ودفنوا بين الحدود؛ بل ومنهم من عاش حياته كلها في البحر، على أسطح السفن، غير قادر رمزيًا وفعليًا على العثور على ميناء يستقبله، وأرض يرخي عليها قدميه البشريتين المعتادين على اليابسة.
تقول الحكايا إن هؤلاء عديمي الجنسية الذين عاشوا على أسطح السفن وقضوا حياتهم في البحار، ودفنوا في مياهها كانوا أشبه بالأشباح، ضاعت حياتهم وذاكرتهم وأرواحهم وابتسامتهم، ولم يتبق منهم سوى أجساد مهترئة، أشباه بشر.
لا أحد يعرف معنى الحياة بلا هوية، بلا ورقة انتماء تسمح للشعور الداخلي بالارتباط والأمان والاستقرار، سوى من عاشوا هذه الحياة، لا أحد يعرف كيف تمر الأعياد الوطنية على عديمي الجنسية، وهم بين حب الأرض التي عليها يحيون، وبين قسوتها عليهم وحرمانها لهم من حبها، وارتداء اسمها على صدورهم، سوى من عانوا قسوة هذه الاحتفالات التي تذكرهم بالحرمان والظلم.
لا أحد يعرف معنى التوهان سوى من ضاع في الصحاري، ليس فقط في حياته، وإنما على مدى أجيال من أسرته وعشيرته، على مدى امتداده التاريخي. لا أحد يعرف معنى الإهانة كما يعرفها من يعيش على الأرض، يتكلم لغتها، يدين بدين أهلها، يتمسك بعاداتها وتقاليدها، يعشقها ولا يعرف غيرها، يسكنها في أرواح أجداده الذين غادروا وفي أرواح أحفاده القادمين، سوى من عاش هذه الإهانة بالرفض واللفظ والطرد والنظرة الدونية.
كيف تبرر دول العالم المدينة “المتحضرة” المتشدقة بالحقوق الإنسانية وجود اثني عشر مليون إنسان خارج منظوماتها، يعيشون على حدودها، ويتوهون في صحاريها ويموتون بحسرات يورثونها لسلالاتهم، حسرات تدفع أعدادًا كبيرة من هؤلاء للتخلي الفعلي الإرادي عن الحياة؟
ربما هناك شيء من تحريك الساكن اليوم؛ فسنة 2024 هي الموعد العالمي لإنهاء انعدام الجنسية؛ فهل نستطيع؟ هل سننهي هذه الكارثة الإنسانية المخزية، بعد أن طال أمدها وانتشر سمها وحصدت ما حصدت من أجساد وأرواح؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
hello there and thank you for your information – I’ve definitely picked up anything new from right here.
I did however expertise some technical points using this site, as I
experienced to reload the web site a lot of times previous to I could get it to load correctly.
I had been wondering if your web host is OK? Not that I am complaining, but
slow loading instances times will sometimes affect
your placement in google and could damage your high
quality score if advertising and marketing with Adwords. Anyway I’m
adding this RSS to my e-mail and can look out for a lot more of your
respective fascinating content. Ensure that you update this
again very soon..