تقارب كبير تشهده العلاقات بين تركيا من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، في محاولة للتغلب على عشرية التوتر التي سادت علاقات أنقرة مع الدولتين الخليجيتين. يظهر هذا التقارب في زيارة محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات إلى أنقرة في أكتوبر 2021، ورد الزيارة من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأبو ظبي، وكذلك زيارة أردوغان لجدة في نوفمبر الماضي ولقائه مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وانعكس هذا التقارب بشكل جيد على وضع أنقرة الاقتصادي؛ حيث ارتفع التبادل التجاري مع أبو ظبي بنسبة 40% خلال العام الماضي، كما أودعت السعودية 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي قبيل التوجه نحو الانتخابات العامة.
عشر سنوات من اختلاف الرؤى
على مدار عقد كامل كانت البلدان الثلاثة على طرفي النقيض في مواقفهم من أحداث الربيع العربي، ذهبت تركيا إلى دعم جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، بينما كانت السعودية والإمارات في الطرف الذي يواجه هذا التمدد الإخواني في كل من مصر وتونس وليبيا.
هذا الخلاف على المصالح أدى إلى إحداث شروخ كبيرة في العلاقات بين الدول الثلاث، أثر على العلاقات السياسية والاقتصادية، وكانت الساحة الإعلامية هي المسرح الأكبر لهذا الخلاف، وعلى مدار عشر سنوات لم ينته التراشق بين المؤسسات الإعلامية المملوكة لكل منهم.
يرى المحلل السياسي التركي، هشام غوناي أن ” تلك الخلافات كان لأسباب إيديولوجية في الأساس؛ فبعد الربيع العربي بادرت حكومة العدالة والتنمية إلى دعم الحركات الإسلامية، ولا سيما الإخوان المسلمين في البلدان التي شهدت الثورات.
ويضيف غوناي، لـ “مواطن“، “اعتبرت كل من السعودية والإمارات أن ما جرى هو تدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتسبب الأمر في تعكير صفو العلاقات بين البلدان الثلاثة؛ حيث كانوا على طرفي نقيض مما حدث بعد الربيع؛ فبينما ذهبت تركيا إلى الإسلاميين، كانت السعودية والإمارات تدعم الأنظمة والأحزاب المناهضة لهذه الحركات”.
انعكس هذا التقارب بشكل جيد على وضع أنقرة الاقتصادي؛ حيث ارتفع التبادل التجاري مع أبو ظبي بنسبة 40% خلال العام الماضي.
بدوره يقول المحلل الاستراتيجي السعودي، الدكتور فواز بن كاسب، إنه “إبان الربيع العربي، كانت لتركيا مطامع سياسية واقتصادية في الإقليم العربي، وذلك من خلال محور التغيير في بعض الأنظمة في دول الخليج أو دول عربية أخرى، بدعم جماعة الإخوان في المنطقة، وهو ما خلق فجوة كبيرة جدًا، وحدث تصادم بين مصالح هذه الدول مع المصالح التركية، ولا سيما وأن الأنظمة السياسية في دول الخليج كانت مستهدفة من هذا الحراك الذي قادته تركيا.
ويتابع “ابن كاسب” لـ “مواطن“، “كانت هناك خلافات جذرية حول توجهات تركيا في عدد من الملفات الإقليمية في سوريا وليبيا والعلاقات مع مصر، وكذلك الملف القطري الذي شهد خلافًا كبيرًا، وكذلك تزعم تركيا للتيار العثماني الجديد، الذي أراد نشر نفوذه في المنطقة العربية، ولكن السعودية قادت الجهود التي قاومت هذا التوجه وتمكنت من التصدي له”.
ويشير إلى أن موت المواطن السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول أثناء التحقيق معه من بعض العناصر السعودية، أسهم في زيادة الفجوة التي كانت موجودة بين الدولتين؛ خاصة أن هذا الملف استثمرته تركيا ضد الأمير محمد بن سلمان.
الانقلاب التركي ومقتل خاشقجي
وشهدت العلاقات مع كل دولة على حدة نقطة بارزة بلغ التوتر فيها حده الأقصى، شهد العام 2016 نقطة الذروة في تأزم العلاقات التركية الإماراتية؛ فعقب الانقلاب الفاشل في تركيا وجه الرئيس رجب طيب أردوغان أصابع الاتهام بشكل صريح ومباشر إلى دولة الإمارات بأنها العقل المدبر للمحاولة الانقلابية.
واتهم وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، دولة الإمارات “بإيواء إرهابي” أثناء حديثه عن القيادي الفلسطيني محمد دحلان المقيم في دولة الإمارات، كما اتهم الإمارات بمحاولة استبدال دحلان بالرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وفي فبراير 2020 أتى دور وزير الداخلية سليمان صويلو، الذي اتهم الإمارات بمحاولة النيل من تركيا وإثارة الفوضى والإضرابات فيها، وقال إن الإمارات تسعى لإثارة البلبلة وزرع الفتنة وإلحاق الضرر ببلاده.
أما العام 2018 فقد شهد ذروة الخلاف بين تركيا والسعودية، على خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في اسطنبول على يد بعض العناصر الاستخباراتية، والتي وصفتها المملكة بأنها “عملية مارقة”، ومثلت القضية فرصة ذهبية للحكومة التركية للضغط على السعودية؛ حيث تزامنت القضية مع المقاطعة التي اتخذتها أربع دول عربية ضد قطر حليف تركيا في المنطقة.
وقال الرئيس التركي في مقال بصحيفة واشنطن بوست وقتها: “إن الأمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي جاء من “أعلى مستويات” الحكومة السعودية، وإنه قتل بدم بارد على يد فريق قتل، وكان القتل عمدًا مع سبق الإصرار”.
وأكد أردوغان، على أن بلاده لن تسمح بما وصفه بـ”التستر” على قضية مقتل جمال خاشقجي، مطالبًا بـ”محاسبة كافة المسؤولين عن الجريمة من أعلى الهرم إلى أسفله، وأنها مهمة ذات أولوية تقع مسؤوليتها على عاتق المجتمع الدولي، وكذلك محاكمة المتورطين في قتل خاشقجي بإسطنبول، لأن الجريمة وقعت فيها.
واستمرت المناوشات بين البلدين على خلفية القضية قرابة ثلاثة أعوام حتى ظهرت بوادر التقارب بين البلدين فأخدت في الخفوت شيئًا فشيئًا، حتى تم إغلاق الملف نهائيا في 7 أبريل 2022، عندما قرر القضاء التركي، إحالة قضية محاكمة المتهمين بجريمة مقتل خاشقجي إلى السلطات القضائية السعودية مما يعني إغلاق هذا الملف من جانب القضاء التركي.
التحول وأسبابه
شكلت زيارة رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان – كان يشغل منصب ولي عهد أبو ظبي وقتها – إلى تركيا، التي جرت في 24 أكتوبر 2021، تلبية لدعوة الرئيس أردوغان، الحدث الأبرز على صعيد تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو ما أدى مستقبلا إلى تقارب سعودي تركي مشابه، توجته زيارة الرئيس التركي للسعودية ومقابلة الأمير محمد بن سلمان في بعدها بقرابة عام في 15 نوفمبر 2022.
زيارة بن زايد، كانت الأولى منذ عشر سنوات، وشهدت توقيع حزمة كبيرة من الاتفاقيات بين البلدين، حيث تعهد رئيس الإمارات باستثمار 10 مليارات دولار في تركيا.
وخلال الزيارة، وقّع الطرفان 10 اتفاقيات ومذكرات تعاون أمنية واقتصادية وتكنولوجية، وقد سبقت زيارة بن زايد لقاءات واتصالات مهمة بين الجانبين، ولعل أهمها الذي جمع الرئيس التركي بمستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد بأنقرة، في 18 أغسطس 2021.
ويعلق هشام غوناي، على هذا التحول الكبير في العلاقات قائلا “بعد 10 سنوات من الربيع العربي وتوتر العلاقات أدركت الحكومة التركية، أنه لابد من تغيير السياسات التي كانت تتبعها، وبالتالي ذهبت نحو تقارب العلاقات مع السعودية والإمارات وقبلهما مع مصر، التي نرى تحسنًا كبيرًا في العلاقات مؤخرًا”.
ويفسر غوناي لـ “مواطن”، أن هذا التغير في السياسات التي مثلت تغييرًا دراماتيكيًا، كان سببه تغير موازين القوى الداخلية في البلاد؛ حيث تشكل الانتخابات القادمة مرحلة حرجة في عمر حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ عام 2002، والآن تشير استطلاعات الرأي إلى تحالف أحزاب المعارضة “تحالف الامة”، هو الأقرب للفوز في الانتخابات، وبالتالي أراد أردوغان العودة إلى سياسة “صفر مشاكل” كانت تتبعها في الفترة بين 2002 و2010 حتى لا تستغلها المعارضة في حملتها الانتخابية.
أعلن الصندوق السعودي للتنمية، في 6 مارس 2023، إيداع خمسة مليارات دولار في البنك المركزي التركي من خلاله، ما يؤدي إلى تحسين الوضع المتأزم قبل الذهاب نحو الانتخابات.
ويرى “ابن كاسب”، أن التقارب يؤدي إلى تحقيق المصالح بين المشتركة بين الجانبين، وللسعودية يأتي ضمن تحقيق رؤية 2030 التي تعتمد على التنوع في التسليح والاستثمار والسياحة، كما تستفيد تركيا من عودة السياح الخليجيين مرة أخرى إليها، وكذلك عودة العلاقات التجارية والاقتصادية التي كانت متوقفة بسبب توتر العلاقات.
ويضيف لـ”مواطن”، أنه كما أدى شبه الخروج للنفوذ الأميركي من المنطقة إلى وجود فراغ، تعمل السعودية على ملء الفراغ وأصبحت دولة محورية في المنطقة، تعمل على تقوية علاقاتها مع باقي دول الإقليم؛ سواء اقتصاديًا أو أمنيًا أو عسكريًا، وربما سيؤدي إلى حلحلة الأمور في الملف السوري.
وشمل التقارب أيضًا زيادة التعاون الاقتصادي؛ فقد وقعت الإمارات وتركيا على اتفاقية للشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين، وشهد عام 2022 نموًا في التبادل التجاري بين البلدين بلغ 40%، مقابل حجم التجارة المسجل في العام 2021 والبالغ 49.5 مليار درهم. ومن المتوقع أن ينمو التبادل التجاري المتوقع إلى 40 مليار دولار سنويًا في غضون 5 أعوام، ما يؤدي إلى توفير ما يزيد عن 25 ألف وظيفة في البلدين بحلول العام 2031.
بدوره أعلن الصندوق السعودي للتنمية، في 6 مارس 2023، إيداع خمسة مليارات دولار في البنك المركزي التركي من خلاله، ما يؤدي إلى تحسين الوضع المتأزم قبل الذهاب نحو الانتخابات.
يقول المحلل الاستراتيجي السعودي، الدكتور فواز بن كاسب، إن “الدعم المقدم لتركيا في هذا التوقيت سيفيد في إنعاش الأوضاع الاقتصادية المتردية قبيل الانتخابات العامة، وخلال الزلزال بادرت الدولتين إلى تقديم مساعدات كبيرة لمساعدة المتضررين من الكارثة”.
بينما يرى المحلل الترك، هشام غوناي، أن “السعودية والإمارات يريدان فوز حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان خلال الانتخابات العامة التي تجرى يوم 14 مايو الجاري، وتتضح نوايا البلدين من خلال الدعم الاقتصادية الذي تم تقديمه قبل الانتخابات مباشرة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي المتردي، والذي يمثل ورقة ضغط تلعب بها المعارضة للفوز في الانتخابات”.
ويكشف غوناي، أن الدعم الخليجي المقدم للحكومة يمكن أن يقلل الضغوط الاقتصادية بشكل مؤقت، من خلال الحفاظ على نسب التضخم ومنع انهيار صرف الليرة أمام الدولار، حتى مرور فترة الانتخابات وفوز الرئيس الحالي.
خاتمة
العلاقات الخليجية التركية أساسها المصالح المتبادلة، وقد أثر الربيع العربي على مدار عشر سنوات على العلاقات بين تركيا والسعودية والإمارات، كما شكلت أحداث الانقلاب الفاشل ومقتل جمال خاشقجي ذروة التوتر مع الإمارات والسعودية، وساهمت زيارة الشيخ محمد بن زايد لأنقرة في ذوبان جليد العلاقات مع أنقرة، وفتحت بابًا جديدًا للتقارب بين أنقرة ودول الخليج، مما أدى على تطبيع العلاقات مرة أخرى وزيادة التبادل التجاري بشكل كبير.