وجد جيجس، أحد قادة جيش داريوس الأكبر، ذات يومٍ خاتماً يخفي من يقوم بلبسه، ليستطيع باستخدامه قتل الملك والزواج من زوجته والاستيلاء على الحكم. يذكر أفلاطون هذه القصة في كتابه الجمهورية كمقارنة بين القمية الأخلاقية والقوة. الفيلسوف الفرنسي أندريه سبونفيل يضعها أمام سؤالٍ أخلاقي محرج للبشر. ما الذي يمكن أن تفعله إذا امتلكت هذا الخاتم؟. ستسرق، تغتصب، ترتكب المحرمات، أم أنك ستبقى ممتثلاً للقيم الأخلاقية التي تؤمن بها؟.
إذا كان خيارك الأول، فأنت من البشر الذين لا يرتكبون الجريمة لأنهم يؤمنون بالفضيلة الخلقية في رفض ارتكاب القبيح، وإنما من أولئك الذين يخافون العقوبة التي يقرها القانون والعرف الاجتماعي، الخوف من الفضيحة. ولذا أتمنى أن تقرأ مصاحباً لهذا السؤال.
الإباحية ومعايير المجتمع
لازال هنالك الكثير من الخلط بين الإباحية كمظهر من مظاهر السلوك الإنساني، نمارسه جميعًا كجزءٍ من حاجاتنا الجنسية، ومظهر من مظاهر الحرية الجنسية، وبين الإباحية كصناعة رأسمالية. وبعيدًا عن إطلاق الأحكام على الاثنتين واختلاف مواقفنا تجاه ظهور كلٍ منها، تمنع كبريات مجتمعات التواصل الاجتماعي أي مظهرٍ من مظاهر الاثنتين؛ سواءً الإباحية كموضوع من مواضيع حريتنا الجنسية، أو الإباحية كصناعة رأسمالية.
ممارستنا لحريتنا الجنسية على وسائل التواصل الاجتماعي محظورة؛ بل وحتى أحاديثنا عليها تتسم بالمثالية وتبتعد كثيرًا عنها في العالم الواقعي. وصل الأمر بموقع فيسبوك مثلًا أن يجمع قاموسًا للشتائم لمختلف اللغات واللهجات، سلوكٌ لم تقم به بعد أي سلطةٍ شمولية أخلاقية في تاريخ المجتمع الإنساني؛ بل إن الكتب المقدسة نفسها تنضح بالشتائم كانعكاس لاستعمالنا لها كأدوات في التعبير عن أنفسنا كبشر.
تمارس سلطات مثل “ميتا وتويتر” رقابةً قمعية على أفراد المجتمع الافتراضي تصل لحد الرقابة على الكلام؛ فربما أصبح ضرورةً لإنسان مجتمع التواصل الاجتماعي على هذين الموقعين تكوين خلفيةٍ ثقافيةٍ موسوعية عن الشتائم في اللهجات المختلفة، لتفادي التعرض للعقوبة التي قد تصل لإنهاء وجوده في المجتمع، حتى إنني فكرت أن أفتتح مركزًا تعليميًا لهذا الهدف.
لإيجاد أرضيةٍ ثابتةٍ للنقاش؛ يجب أن نضع في الاعتبار بعض القواعد في مقام المسلمات؛ مثل أن نعتبر الليبرالية أنسب الأنظمة البشرية التي توصلنا لها، ليست مثالية، لكنها الأنسب بالتجربة حتى الآن. هذه التجربة في كل الأحوال تنتهي في صورتها الكلاسيكية لاستمرار حلقات التمايز الاقتصادية بين أوليغارش أقلية، وديموقراطيين فقراء أغلبية، ولكن في زيها الديمقراطي. تلك الطبقة التي يقول عنها نيتشه في مينولوجيا الأخلاق بانتساب القيم الأخلاقية في تقييدها بمسماهم اللغوي، النبل والنبلاء والشرف والأشراف، وأصحاب رأس المال بعد الليبرالية الاقتصادية.. إلخ.
ترتبط حالة مجتمع التواصل الاجتماعي بسلسلة تطور أنظمة الاجتماع الإنساني، ولذا فهي مسألة في المحفزات الداخلية لنتائج التجربة الليبرالية الغربية وحركتها، وهو ما نشير إليه بمحفزات التغيير في قواعد الاجتماع. هل إتاحة الحرية في المجتمع الليبرالي مطلوبةٌ لذاتها، أم أنها نتيجةٌ طبيعية لمبرراتها النفعية وعوائدها المادية؟
استطرادًا لمثالٍ عن ذلك؛ في العام 2022 استقبلت قطر كأس العالم في أكثر النسخ التي أظهرت أن هيمنة القيم الأخلاقية الجغرافية هي أكثر ما يمكن أن تقدمه هكذا مجتمعات مكبوتة للتعريف عن نفسها. في هذه النسخة المونديالية وجدل الأخلاق القطرية، دعا مسؤولون في دول ليبرالية مثل ألمانيا والمملكة المتحدة إلى مقاطعة الحدث الرياضي في قطر. كان رد وزير الخارجية القطري أن هذه الحكومات الليبرالية منافقة؛ فهي تدعو شعوبها لمقاطعة قطر، لكنها تتسابق لعقود الطاقة والاستثمار معها.
كان القطريون محقين في هذا الشأن؛ فهذه الدوافع الليبرالية نفسها قائمة على الانتفاعية، المصلحة الخاصة في المحيط الدولي والعامة في الوضع الداخلي منها. ولذا فإن المصلحة تبقى أولويةً تهيمن على صناعة قرارها قبل القيمة الليبرالية نفسها. الأزمة الأوكرانية الروسية وسياسة مصادرة الأموال والممتلكات الروسية والسياسات الحمائية الاقتصادية الغربية تجاه النفوذ الصيني مثال على تقديم هذه المصلحة على القيمة الليبرالية نفسها.
وإذا ما أسقطنا هذا بالقياس في قواعد الاجتماع الجديدة في المجتمعات الافتراضية “التواصل الاجتماعي”، والتي هي أكثر تفاعليةً من أي اجتماعٍ إنساني عرفناه من قبل، سنطرح التساؤل نفسه: “ما الدوافع التي تقف خلف قرار سلطات هذه المجتمعات في مسائل حريات أفرادها؟”.
مواقع التواصل الاجتماعي، سلطة سياسية بأبعاد أخلاقية
في دراسته للجنسانية، قدّم ميشيل فوكو الموقف الليبرالي من الحرية الجنسية والإباحية بأنه موقفٌ، كما هو عليه في سائر مواقفها من الحريات العامة والشخصية، خاضع للمصلحة؛ حيث إن هذه المساحة من الحرية تخلق الأعمال وتعود بالمال، ولكن لأن للطبقية الناتجة عن الليبرالية “قيمًا”؛ فهي لن تقبل بها في مركز المدينة: “اذهبوا ومارسوا الجنس بعيدًا عن مناطقنا، ادفعوا لنا الضرائب وابنوا مواخيركم خارج مدننا”.
من هنا اتخذ الموضوع مدخلًا مع ميشيل فوكو. على فيسبوك، وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، يُصنف المحتوى الإباحي بغير الآمن كما على جوجل أو مؤذٍ كما في فيسبوك. تحضر هذه المواقع المحتوى الإباحي وتمنع تداوله، وهو موقفٌ يتعارض مع القوانين في العالم الحقيقي؛ على الأقل في البلدان التي تضم مقرات هذه المواقع والقوانين الدولية.
في العام 2021، دفعت شركة مايند جيك، التي تملك شبكةً افتراضية من المجتمعات الإباحية، ضرائب للحكومة الكندية بما يقارب 460 مليون دولارٍ كندي. هذا يعني أن الإباحية مربحة، أي أن الحرية الجنسية مربحة، لكن لماذا لا توجد في مجتمع التواصل الاجتماعي؟
في العالم الحقيقي، يمكن للبالغين أن يمارسوا حرياتهم الجنسية في المجتمعات الليبرالية، وبإمكانهم الوصول إلى المنتجات الإباحية كجزءٍ من هذه الحرية، ويجدون هذه المنتجات متاحةً في عالمهم الواقعي، لكن هذا ليس حالةً طبيعية لمجتمع الألفية الثالثة، وإنما نتيجة مسار طويل من النضال المدني لتقديم القيمة الليبرالية على النفعية السلطوية.
قبل أن أتحدث عن هذا الموضوع، تبادرت إلي الكثير من الاعتراضات التي لا أظن منشأها عقلانيًا أو محيطًا بفهم القضية؛ منها أن المحتوى الإباحي غير مناسبٍ لكل الأعمار، وهي مسألة يمكن لبضعة أكواد تنظم وصول المحتوى له في هذا المجتمع، أو أنه بالفعل هناك مجتمعات تواصل اجتماعي إباحية مخصصة لهذا الأمر، وفي الحقيقة هنا يكمن الخطر في هذا الشأن.
تمارس سلطات المجتمعات الإباحية سياسةً رومانية بهذا الرد؛ فهي في حين تمنعنا من التعبير عن أنفسنا جنسيًا في مواقع التواصل الاجتماعي، لا تتورع عن إظهار إعلانات التطبيقات والسلع الجنسية لنا على مواقعها؛ فهي مربحة على العكس من الإباحية في صورتها الأولى كحرية جنسية فردية. ولا أغفل أيضًا تشبيهها بأن يبيعك رجل الدين الكحول التي يتحدث في مواعظه عن حرمتها، ليست أخلاقية بقدر ما هي استغلال للقيمة الأخلاقية مهما كان موقفنا الفردي من مدلول القيمة الخلقية.
لكن سؤالًا اعتراضيًا آخر قد يتبادر إليك عزيزي القارئ، يقول بأننا مخطئون هنا أيضًا؛ فإذا كانت دوافع سلطات مجتمعات التواصل الاجتماعي في مواقع مثل فيسبوك وتويتر، تقف وراءها غايات نفعية وليست القيمة الأخلاقية نفسها التي تتحجج بها؛ فلماذا لا تتيح الصناعة الإباحية في مجتمعاتها؟ وهو اعتراضٌ وجيهٌ أيضًا، ولكنه قائم على سوء فهم.
تهيمن الذات القيمية النفعية للشركة بغرض حماية مصالحها؛ فعالم المجتمعات الإباحية الافتراضية ليس بهذه المثالية والأمان؛ فهو الآخر مليءٌ بالفساد والاحتكار، ولا تقوم عليه مبادئ قيمية ليبرالية بقدر ما هي نفعية هي الأخرى، ووجود هذا المجتمع نفسه مُحاربٌ لوجوده في العالم الواقعي على الرغم من القوانين التي تنظم وجوده، ما يجعل فتح مواقع التواصل الأخرى مثل فيسبوك لهذه المساحة في مجتمعاتها أمرًا غير مربح؛ بل ومهددًا لمصالحها، كما حدث مع موقع بورن هوب بعد إيقاف شبكات مالية التعامل معه.
الإباحية حرية تعبير
في فيلم السيرة الذاتية ” The People Vs. Larry Flynt “، الذي يقدم قصة صراع أحد أشهر صناع المحتوى الإباحي في الولايات المتحدة في القرن الماضي، لاري فلينت، يظهر لاري فلينت في مشهدٍ أسطوريٍ أخيرٍ ساخرٍ بالقدر الذي هو عليه سيرة هذا الرجل، الذي تحول لمظهر مهمٍ من مظاهر القيمة الليبرالية الفردية وحرية التعبير، يقف “لاري فلينت”، بعد سجلٍ حافلٍ من المحاكمات ومحاولة اغتيالٍ انتهت بإقعاده أمام المحكمة العليا ويقول كلمته الشهيرة: ” أنا أقدم شيئًا هابطًا، لكنه يعني حرية التعبير، أنا أدافع عن التعديل الأول في الدستور الأميركي”.
"لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف".
التعديل الأول للدستور الأميركي Tweet
لكن لماذا يجب أن تكون الإباحية موجودة في مجتمع التواصل الاجتماعي؟ لأن الفارق هنا هو أن الخيار في هذه المسألة ليس لنا نحن كأفراد، وإنما للسلطة التي تسلبنا حق حكم أنفسنا في هكذا مجتمعات، ثم ترسم حدود خياراتنا وتنتقي الكلمات التي نستعملها والمواضيع المسموح بتداولها؛ بل يصل الأمر لأبعد من ذلك؛ في أن تقوم هي نفسها بتشكيل أذواقنا وآرائنا. هم وليس نحن كأفراد، يجب أن توجد كما في العالم الواقعي لأكثر المجتمعات ليبرالية، وليس أن نجعلها ذات معنى سلبي بقيمة خلقية يختارها فيسبوك وليس نحن.
في العالم الواقعي، لا يفرض عليك ممارسة الإباحية أو أنماط ممارستك لحريتك الجنسية وأساليب تلبيتك حاجاتك لها، ولا يتم إجبارك على مشاهدتها، ولن يحدث ذلك؛ فأنت حر في شرائها أو مشاهدتها. لكن هذا ليس ما يحدث في السوشيال ميديا؛ فهي ممنوعة ومقموعٌ وجودها في صورةٍ سلبية ومؤذية تقدمها سلطات فيسبوك الأخلاقية (الشمولية).
هذا الخطاب ليس تشجيعًا على الإباحية أو حكمًا عليها؛ فهذه مسألة خياراتٍ فردية، ولكنني أود أن أقول لك إنك لست حرًا في مجتمع السوشيال ميديا ولا تملك هذا الخيار. هناك في الحقيقة فرقٌ بين الاختيار وعدم القدرة على الاختيار، إنها عملية سلب إرادة وحق.، شيءٌ أشبه بأن يتم حبس أعضائك التناسلية للتأكد من عدم ارتكابك الزنا الذي يجرمه القانون حتى تتزوج، مع أن الإباحية ليست بالقدر السلبي الذي يوضع فيه الزنا في كثير من الأنظمة الاجتماعية وقوانينها.
"أين صوت أفراد المجتمع؟"
الإجابة على هذا السؤال تتعلق في رغبة الفرد نفسه في الحرية؛ فهي ما سيجبر سلطةً افتراضية لا تجني من وراء ممارسة حريةٍ كهذه مكاسب مادية، وأعني بذلك أنها بلا مكاسب في الصورة الأولى من الإباحية كموضوع من مواضيع “حريتنا الجنسية” وليس الصناعة الرأسمالية لها.
سلطة الاجتماع الأخلاقية في العالم الواقعي تمتد بدورها لهذا العالم الافتراضي؛ ففي حين تبقى مسائل الحرية الجنسية والفردانية خاضعةً لتصنيفها كـــ “تابوه اجتماعي” يرفضها المجتمع ويطالب بتدخل سلطوي لمنعها في الفضاء العام والخاص، سيبقى صوت هذا المجتمع مصادرًا ومسلوبًا من صناعة القرار في سلطة المجتمع الافتراضي. لماذا نريد مؤسسةً سلطوية تمنعنا من ممارسة حريتنا وترسم لنا الحدود، في حين أن لدينا القدرة على تحديد اختياراتنا وممارساتنا بشكلٍ شخصي وفردي، إلا إذا كنا مقتنعين من عجزنا عن ذلك.
لبعض الجماعات والمجتمعات التي تمارس هذه الحريات الجنسية (الإباحية) في صورٍ أكثر سلبية من تلك التي قد نجدها في الصناعة الإباحية في أكثر المجتمعات الواقعية ليبراليةً، تصورٌ سلطوي في فرض الرقابة الجمعية على أفراد المجتمع والسيطرة على متاحات اختياراتهم، ولذا فهي مجتمعات ترفض أي مظهرٍ للحرية الجنسية في هذا العالم الافتراضي، ما يعني أنها لا تمانع هذه القيود التي تفرضها سلطات وسائل التواصل الاجتماعي.
ما لا تفهمه هذه المجتمعات السلطوية، هو أن قبول امتلاك سلطةٍ شمولية في مجتمع العالم الافتراضي قوةً كهذه لن يجعلها تقف عن حدود جماعاتنا الأخلاقية؛ وإنما ستتعداها بمراحل؛ فاستنكارك لمقتل أطفال على يد دولة احتلال سيكون ممنوعًا، والقضية التي لا تتناسب ومصالح سلطة الشركة ستكون ممنوعةً من الحديث؛ بل وحتى حقوق الإنسان نفسها ستخضع لمعيار مصلحة السلطة الافتراضية فيها.
تخسر هذه المجتمعات حريتها في الوقت الذي يستحيل عليها التخلي عن مجتمع التواصل الاجتماعي الذي يتحول الوجود فيها تدريجيًا لسببٍ للبقاء والنجاة، ولن يكون هناك لاري فلينت ليقف أمام المحكمة العليا في واشنطن ويدافع عن التعديل الأول للدستور الأميركي في حق الكلام والتعبير. وتحضرني جملةٌ يقولها محامٍ في فيلم نتفلكس الوثائقي عن موقع “بورن هاب”: ” الإباحية جرس إنذارٍ مبكر لحرية التعبير”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.