كان العصر الأموي مؤثرًا للغاية في صناعة عقائد ومذاهب المسلمين، تلك التي سادت وبادت منذ قرون، وتلك الباقية إلى اليوم تستمد منه قوتها ومعينها الأول؛ ففي ذلك العصر حدثت الفتنة الكبرى بين الصحابة وأنفسهم من جانب، وبين الأمويين والهاشميين من جانب آخر، ثم مجزرة كربلاء الشهيرة، وحروب عبد الملك بن مروان وأولاده، وظهور فرق وتيارات سياسية وعقائدية وفكرية ردًا على هذا الصراع في انعكاس مباشر للمرحلة العصيبة التي عاشها المسلمون والعرب آنذاك.
على جانب مختلف خرجت من رحم آل البيت عدة مذاهب تتصارع فيما بينها على أحقيتها بتمثيل بني هاشم ونسل الرسول وابنته فاطمة، الوحيدة التي ظلت على قيد الحياة، علمًا بأن هذا الصراع كان موازيًا في التاريخ لصراع بني هاشم ككل ضد الأمويين؛ فتأثر كغيره بعوامل الزمان والمكان والمصلحة والثقافة الشائعة آنذاك، والتي كانت تعتمد رؤية القبيلة والنسل فوق الحقيقة والمصلحة، والفارق أن هذه الرؤية الضيقة للقبيلة قد تتفق وتختلف مع المصلحة، لكن الرباط الشرطي بينها وبين الحقيقة المُتخيّلة تجعلها في صدام مع الحقيقة الواقعية أحيانًا، ومع المصالح الخاصة والعامة في أحيان أخرى
وقد كان ولا يزال هذا المطعن هو العامل الأبرز في الثورة، والتمرد على القبلية والعشائرية، وعدم التفاضل بين الناس على أساس النسب، حتى القرآن الكريم حين أقر تلك الحقيقة بتوسع، وتشربها المسلمون آنذاك في القراءة اليومية لكتاب الله؛ لم يولِّ هؤلاء أنظارهم نحو الكتاب في ظل السيطرة المعنوية والمادية والشاملة لزعماء القبيلة، وميول العرب للطاعة المطلقة لكبرائهم دون النظر في ماهية تلك الطاعة أو الشكوك التي تعتريها.
انشق الهاشميون إلى ثلاثة فرق كبيرة؛ هي “الإمامية والزيدية والإسماعيلية”، وقد شرحنا هنا في مواطن فرقة الزيدية بدراسة تحت عنوان “أضواء على الزيدية“. واليوم مع الإمامية، التي أستهل الحديث عنها بتبيان الفارق بين الثلاث:
أولا: الخلاف بين الزيدية والإمامية سياسي، وكلتاهما تنازعتا على شقيقين، الإمام زيد والإمام الباقر ابني زين العابدين بن الحسين؛ فاتبع الإمامية محمد الباقر كإمام خامس، واتبع الزيود الإمام زيد بن علي دون الإيمان بعدد معين من الأئمة.
ثانيا: الخلاف بين الإمامية والإسماعيلية سياسي أيضًا، وكلتاهما تنازعتا على شقيقين، الإمام إسماعيل، والإمام موسى ابني جعفر الصادق حفيد زين العابدين؛ فآمن الاثنا عشرية بموسى ولقبوه بالكاظم، ثم آمن الإسماعيلية بإسماعيل وانتسبوا إليه. وهم الذين خرج منهم النسل الفاطمي وأسسوا ما عرف بالدولة العبيدية الفاطمية، وحكموا أغلب بلاد المسلمين عدة قرون. والإسماعيليون يصفون الإمامية (بالموسوية) ذمًا باتباعهم الإمام موسى الكاظم على حساب شقيقه إسماعيل؟ أي أن هذه التسميات (إمامية – موسوية – اثنا عشرية – جعفرية) هي لفرقة واحدة تشكل حاليًا 80% من أعداد شيعة العالم.
المذهب الإمامي تشكل فقهيًا من القرن الثاني الهجري على يد الإمام "جعفر الصادق"، وهو القرن الذي ظهرت فيه أغلب المذاهب الفقهية المعتمدة إلى اليوم، كالحنفية والشافعية والمالكية
ومن الإمامية جرى رسم الصورة الشيعية اليوم؛ فعندما يُشار إلى الشيعة فعلى الأعم الأغلب يكون الحديث عن الإمامية، لتصدرهم الواقع السياسي والاقتصادي من ناحية، وبصفتهم ورثة وجيران أقوى دولة شيعية على المذهب الإمامي في الخمسة قرون الأخيرة في إيران، وتقوم الأصول العامة للفكر الإمامي عدة أمور سنذكرها في السياق، لكن ما ينبغي الإشارة إليه الآن، هو الحدث المحوري الأهم في تاريخ الشيعة الإمامية، وهو “الغيبة الكبرى” للإمام المهدي سنة 329هـ، وسأترك أحد المنتمين للمذهب، وهو الدكتور “موسى الموسوي” يحكي هذه القصة باختصار:
” بعد الإعلان الرسمي عن غيبة الإمام المهدي عام 329 هـ، حدثت في التفكير الشيعي أمور غريبة، أدعوها (بالصراع بين الشيعة والتشيع)، أو عهد (الانحراف)، وكانت أولى هذه الأمور في الانحراف الفكري ظهور الآراء القائلة بأن الخلافة بعد الرسول كانت في “عليٍّ”، وبالنص الإلهي، وأن الصحابة ما عدا نفر قليل منهم خالفوا النص الإلهي بانتخابهم “أبا بكر”، كما ظهرت في الوقت نفسه آراء أخرى تقول: إن الإيمان بالإمامة مكمل للإسلام، وحتى إن بعض علماء الشيعة أضافوا الإمامة والعدل إلى أصول الدين الثلاثة التي هي: التوحيد – النبوة – والمعاد، وقال بعضهم بأنها من أصول المذهب وليست من أصول الدين، وظهرت روايات تنقل عن أئمة الشيعة فيها تجريحًا للخلفاء الراشدين وبعض أزواج النبي.
ومن الجدير بالذكر أنه حتى في خلافة “معاوية بن أبي سفيان “، وعندما كان يأمر بسب الإمام “علي” على المنابر، وحتى بعد مقتل الإمام “الحسين” وظهور الثورات الداعية إلى الأخذ بالثأر، وفي العهود التي كان التشيع يعصف بالخلافة الأموية، ويقصم ظهرها ويمهد الطريق للخلافة العباسية، لم نجد أثرًا لدى المتشيعين ” لعلي” وأهل بيته للآراء الغريبة التي ظهرت فجأة في المجتمع الإسلامي بعد الغيبة الكبرى، تلك الآراء التي ساهم بعض رواة الشيعة وبعض علماء المذهب في بثها ونشرها وغرسها في عقول الساذجين من أبناء الشيعة.” (الشيعة والتصحيح صـ 9).
ويظهر من كلام الموسوي أن أصول المذهب تطورت وتبدلت؛ فلا يمكن اعتماد أصلها مطلقًا كي نعرف به المذهب الشيعي الإمامي؛ بل الضرورة حتمية لتعريف الشيعة فقط بالولاء وحب آل البيت، والإيمان بالأصول العامة للدين الإسلامي ممثلة في (التوحيد والنبوة والمعاد)، دون ذلك من تعريفات نسبية تدخلنا في منعطفات تاريخية وصراعات بشرية وتنظيرات كانت كلها متأثرة برغبة السلطان وذوي النفوذ، شأنهم شأن أي مذهب آخر، ولعل ذلك يتفق مع تفريق البعض بين التشيع المحمود والتشيع المذموم؛ فالأول برأيي يمارسه عوام وغالبية الشيعة، أما الثاني فيمارس على نطاق ضيق بين الإخباريين والمتطرفين والأحزاب السلطوية، التي اشتبه البعض فيها وأطلق بناء عليها حكمًا عاما على كافة وعموم المذهب بأن جوهره يقوم على الخلط بين الدين والسياسة.
علاوة على ما تضمنه بعض التراث الإمامي من إساءات وشتائم للصحابة، وتكفيرًا لعموم أهل السنة، مما أصبح به مادة خصبة لدى الأحزاب الشيعية والتيار الإخباري الذي اصطلح عليه نظيرًا لتيار المحدثين في الفكر السني، وأوضح مثال على ذلك ما حدث في كتاب “بحار الأنوار” لمؤلفه “محمد باقر المجلسي” (1627- 1699م)، الذي يُعد أكبر كتاب في التراث الإسلامي بالمطلق؛ سنة وشيعة من حيث الحجم، حوالي 110 جزء/مجلد يضمون فيه أغلب أحاديث وآثار آل البيت.
يحوي الكتاب جزئين 32، 33، تم منع طباعتهما في إيران لما يتضمناه من أحداث وروايات طاعنة وشاتمة لبعض الصحابة، وتكفيرًا لعموم أهل السنة، لكن تمت طباعتهما وتداولهما في دول أخرى، وجمعهما بعض المعاصرين في برامج إلكترونية سهلة، وقد اطلعت على الكتاب منذ أعوام فوجدت فيه الغث والسمين، وإن كان أكثره في رأيي يحكي قصصًا غريبة وخرافية، مما دفع بعض المراجع كالسيد “أبو القاسم الخوئي” (1899- 1992م) للحكم على ثلاثة أرباعه بالضعف، لقطع الطريق على خصوم الإمامية للطعن في عموم المذهب، وهذا لا ينفي اعتقاد بعض المتشيعة به – من الإخباريين – أو بالموضوعات محل الخلاف خصوصًا الجزئين 32 و 33، وبالنظر لتاريخ تدوينه فقد صنف في عصر الدولة الصفوية من مؤلف إيراني أصفهاني، وفي أثناء الحروب الصفوية العثمانية، أي أن أجواء الحرب المذهبية كانت مؤثرة على باقر المجلسي شأنه شأن أي كاتب يتأثر بالواقعين؛ المادي والمعنوي من حوله.
المذهب الإمامي تشكل فقهيًا من القرن الثاني الهجري على يد الإمام “جعفر الصادق” (80- 148 هـ)، وهو القرن الذي ظهرت فيه أغلب المذاهب الفقهية المعتمدة إلى اليوم، كالحنفية والشافعية والمالكية والمعتزلة، ويمكن اعتبار أن هذه الفترة – أي القرن 2هـ – كانت جذرية في تاريخ المسلمين؛ حيث نشأت الدولة العباسية الثائرة على الظلم الأموي، مما شجع بعض المفكرين على الظهور بمعتقداتهم الحقيقية، ثم شرعوا في التنظير الفكري لآرائهم، وقد نقلت كتب التراث عديدًا من هذه المناظرات والسجالات التي برأيي لم تكن لتحدث لولا وجود سلطة تحميها وتدعمها، خلافًا لما حدث بعد معارك النفس الزكية والمنصور مثلاً؛ حيث إنه وبعد مقتل النفس الزكية عام 145هـ وفشل تمرده العلوي جرى قمع الشيعة مرة أخرى، ولو بنسبة أقل مما كانت تحدث في العهد الأموي كما حكاها “أبو الفرج الأصبهاني” في كتابه (مقاتل الطالبيين).
علمًا بأن مركزية الصادق في الفكر الإمامي كمركزية الشافعي عند الشافعية وأبي حنيفة عند الحنفية وهكذا، عدا أن مركزية الصادق هي جزء من مركزية أعلى هي الولاء للإمام الحسين ونسله في الأئمة الاثني عشر، ومركزية أعلى وأشمل منها هي الولاء لنسل فاطمة بالمجمل؛ سواء الحسن أو الحسين، ومرجعية تهيمن على كل ذلك هي الإمام “علي بن أبي طالب”، ثم قيادة روحية وبعثة إلهية لرسول الله “محمد بن عبدالله”، وهكذا ينطلق التفكير الهرمي الإمامي من فكرة إحياء وتقليد جعفر الصادق، إلى قيادة روحية ومرجعية علمية متصلة بالسماء هي التي أوحت إليهم بفكرة “الإمامة “، واعتبارها ركنًا من أركان الدين الإسلامي، والتي تقوم في جوهرها على النص الديني.
تبلور المذهب الإمامي الآن إلى عقيدة خاصة تؤمن بأصول خمسة في المشهور؛ هي “التوحيد – والنبوة – والمعاد – والعدل – والإمامة” ولأن سائر هذه الأصول معروفة عدا الإمامة، وددت الحديث عن الإمامة منفردة كونها التي تميز في الواقع بين الإمامي وأي مسلم آخر، ولأن سائر المذاهب الإسلامية تؤمن “بالتوحيد والنبوة والمعاد”، وأضاف المعتزلة “العدل”، وبات شرح هذه الأصول نوعًا من التكرار والحشو الذي لا داعي له.
و(الإمامة) تعني أن الإيمان بالله وصدق رسوله يلزمه الإيمان بإمامة 12 إمامًا من نسل السيدة فاطمة الزهراء وفرع الحُسين تحديدًا، أولهم “عليّ بن أبي طالب”، وآخرهم “محمد بن الحسن العسكري” الذي عاش في القرن 3 الهجري، ويعتقد الإمامية أنه لا زال حيًا في غيبته الصغرى التي ناب عنه فيه أربعة نواب؛ هم “عثمان بن سعيد الأسدي” (توفى عام 280 هـ)، و”أبو جعفر محمد بن عثمان” (توفى 305 هـ)، و”أبو القاسم حسين بن روح النوبختي” (توفى عام 326 هـ)، وأخيرًا “أبو الحسن علي بن محمد السمري” (توفى عام 329هـ).
كما أن الله عيّن لكتابه أوصياء ورسلاً ودعاة، فقد عيّن أيضًا خلفاء وأئمة للرسل يقومون بنفس المهمة، ويحققون الغرض من الدعوة وضمان استدامتها في إرساء العدل والخير
وبموت السمري بدأت (الغيبة الكبرى) التي لا نوّاب فيها أحياء للإمام، وسيعود المهدي آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلاً وقسطًا كما ملأت جورًا وظلمًا، ولهذا الجانب يمكن القول بإن الإمامية تقوم في أحد أصولها العامة على “المهدوية” المرتبطة آليا بالإمامة.
أما فلسفة الإمامة فهي تقوم على أصل آخر هو النبوات، ومختصر فلسفة الإمامة أن الله فرض على نفسه إرسال الرسل والأنبياء ليُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، مصداقًا لقوله تعالى: ” كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور” [إبراهيم: 1]، وحملة ذلك الكتاب هم دعاته بمجموع الوسائل العملية الدنيوية، وهي البشرى بالجنة والنذير من النار، ولأن تمام العدل واستقامة الرسالة يلزمهما حفظ الكتاب وعدم تحريفه؛ فقد تكفل الرب بحفظ هذا الكتاب مصداقًا لقوله تعالى: ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” [الحجر: 9].
فكما أن الله عيّن لكتابه أوصياء ورسلاً ودعاة، فقد عيّن أيضًا خلفاء وأئمة للرسل يقومون بنفس المهمة، ويحققون الغرض من الدعوة وضمان استدامتها في إرساء العدل والخير، ولن يحدث هذا سوى بالاتصال الدائم بين السماء والأرض، حتى بعد نهاية الدعوة النبوية عند خاتم الأنبياء والمرسلين؛ فالله لن يترك البشر ضحايا لبعضهم البعض، القوي يأكل الضعيف. والظالم يتجبر دون عقاب، والمخطئ يفسد في الأرض دون قوانين؛ فكان ولابد أن يكون هناك إمام متصل بالسماء لضمان هذا العدل؛ فيتصدى للقوي وينهره عن طغيانه، وللظالم ينهاه عن ظلمه، ثم يصيغ القوانين والتشريعات اللازمة لبقاء الإنسان ومصالحه العامة.
ثم وضعوا شروطًا لذلك الإمام؛ أن يكون مجتهدًا في الدين وعالمًا في الشريعة والسياسة، ويدرك متشابهات العقيدة ومحكماتها، ولديه قدر من التأويل بما يكفي لرسوخه في العلم، مصداقًا لقوله تعالى: ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب” [آل عمران : 7]؛ فالإمام هو الذي يعلم تأويل الكتاب، وهو الذي يتحقق لديه الرسوخ الكافي للعلم بمقصود وماهية الدين وشريعته، ومن ثم يبدأ في صياغة القوانين المُنظّمة للحياة.
وأخيرا وصلوا إلى أن ذلك الإمام هو من ذرية الرسول وآل بيته، مصداقًا لتأويل بعض الآيات القرآنية وصريح الأحاديث، كقوله تعالى: ” يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك” [المائدة : 67] “، وأنذر عشيرتك الأقربين” [الشعراء : 214]، “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” [الأحزاب : 33]؛ فيكون البلاغ الخاص لآل البيت هو جوهر الرسالة العامة لكل البشر بوصفهم الذرية الطاهرة من الرجس المعروف بالخطايا والفواحش؛ فأوّلوها بأن بلاغ الرسول للناس لا يتحقق سوى بولاية آل البيت الطاهرين مصداقًا لرؤيتهم للقرآن، ومصداقًا للحديث الشهير الثابت عند السنة والشيعة، والذي صرح لهم بهذا التفسير: “إني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي”.
السلطة عند الشيعة (الإمامية) دينية وليست دنيوية، وبالتالي لا يجوز فيها الخطأ مثلما يجمع شيعة العالم، مثلاً على خطأ الصحابي أبي بكر في حروب الردة ومانعي الزكاة
من هنا يتبين أن الإمامة هي سلطة سياسية مُقدّرة دينيًا، واعتبارها أصلاً في الإسلام، هو الذي أوجد الخلاف في كون الإمامة قائمة على الخلط بين الدين والسياسة، وسوف أنقل نصًا من مقالي: “أضواء على الشيعة الإمامية” المنشور في يناير 2020 على موقع الحوار المتمدن لشرح وتفنيد هذه الجزئية بتصرف ليس بسيطًا:
“السلطة عند الشيعة (الإمامية) دينية وليست دنيوية، وبالتالي لا يجوز فيها الخطأ مثلما يجمع شيعة العالم، مثلاً على خطأ الصحابي أبي بكر في حروب الردة ومانعي الزكاة، وخطأ عمر بالفتوحات ونشر الدين بالسيف. وخطأ عثمان في عدم استكمال طريق عمر عِوَضًا عن تفضيله بني أمية في الحكم الذين يخاصمون الهاشميين قبليًا منذ الجاهلية، وتمس العصمة هنا جانب النص الديني من ناحية أن للإمام حقًا حصريًا في تفسير القرآن والنُطق به، أي لا عمل بظاهر النص دون الرجوع للإمام فيما اصطلح عليه بمؤسسة “المرجعية”، وهي الناطقة باسم النص رسميًا ولا يجوز الإفتاء خارجها. وقد يعد البعض هذه المركزية فضيلة شيعية حفظت أتباع المذهب من الانشقاق على مدار عدة قرون.
أما التقية فليست حِكرًا على المذهب الشيعي الإمامي؛ فهي سلوك إنساني بالعموم دفعًا للأخطار الظاهرة، ولأن فهم التقية الآن لا يقودنا لفهم الإنسان الشيعي المعاصر، لأنه لا يعمل بها نظرًا لقوة إيران وحلفائها سياسيًا، واعتماد معظم الدول العربية مبدأ حقوق الإنسان في القوانين بما يُساوي بين الإمامي وغيره في المواطنة، وكذلك فأهل السنة من الذين يُجيزون التقية مثلما أفتى بذلك الإمامان أبو حامد الغزالي في المستصفى وابن حزم في المُحلّي، وإن كان على نحو مختلف مما أفتى به العديد من مرجعيات الإمامية؛ بأن التقية تمثل تسعة أعشار الدين، علما بأن التقية في الإمامية على قسمين
الأول: ما قاله السنة، وهو درء الخطر حين المجاهرة بالدين، وبذلك عملت كل الأديان دون استثناء في وصف يُشير بأنه سلوك بشري ونزعة وجودية ليست محصورة في الإنسان؛ بل تفعلها بعض الحيوانات، أما القسم الثاني: وهو القول بوجوب التقية فرضًا، وهذا ما حمل بعض المستشرقين كجولدتسيهر في كتابه “العقيدة والشريعة” للقول بأن الشيعة انفردوا بالتقية كخصيصة دينية وصفة بارزة لهم طبعت روحهم بطابع معين، وبحسب جولدتسيهر فالشيعة أصبحوا مميزين عن سائر متديني العالم بالتقية.
أما الإمام عند الشيعة الإمامية فهو الوصي على الدين من نسل عليّ وفاطمة، وهو معصوم في (العقيدة والسلوك والبلاغ)، وهناك من يضيف قسمًا رابعًا وجدت عليه خلافًا، وهو “عصمة القضاء” التي تعني عصمة الحُكم. وبرأيي أن هذا النوع من عصمة الأئمة يُخرِج الإمام من كونه بشرًا إلى كونه إلهًا أو نصف إله، لأن الطبيعة البشرية في عمومها تتسم بالنقص المعرفي؛ خصوصًا ناحية علوم الغيب وما دار بشأن الأمم السابقة، ولأن هذا الإمام قد يحكم بالهوى والمصلحة أحيانًا.
لذلك وجدت خلافًا حول هذا النوع بين الإمامية والجمهور فيهم لا يقول بعصمة القضاء، التي هي مختلفة عن عصمة السلوك المقصود بها عدم فعل الكبائر والخطأ والنسيان، وهي العصمة التي يتفقون فيها مع أهل السنة بخصوص الأنبياء عدا الخطأ والنسيان، علمًا بأن للإمام لديهم منزلته كبيرة؛ فقد تجري المعجزات على يديه بوصفه المعصوم نصًا من وحي معصوم، وثمة مراجعات لهذا المعتقد عند بعض الشيعة المعاصرين كالشيخ “كمال الحيدري” الذي قال: إن عصمة الأئمة بهذا الشكل كان مختلفًا عليها بين سلف الشيعة في القرون الثلاثة الأولى “. انتهى.
أما التقية فليست حِكرًا على المذهب الشيعي الإمامي؛ فهي سلوك إنساني بالعموم دفعًا للأخطار الظاهرة
أما الإمام عند الشيعة الإمامية فهو الوصي على الدين من نسل عليّ وفاطمة، وهو معصوم في (العقيدة والسلوك والبلاغ)، وهناك من يضيف قسمًا رابعًا وجدت عليه خلافًا، وهو “عصمة القضاء” التي تعني عصمة الحُكم. وبرأيي أن هذا النوع من عصمة الأئمة يُخرِج الإمام من كونه بشرًا إلى كونه إلهًا أو نصف إله، لأن الطبيعة البشرية في عمومها تتسم بالنقص المعرفي؛ خصوصًا ناحية علوم الغيب وما دار بشأن الأمم السابقة، ولأن هذا الإمام قد يحكم بالهوى والمصلحة أحيانًا.
لذلك وجدت خلافًا حول هذا النوع بين الإمامية والجمهور فيهم لا يقول بعصمة القضاء، التي هي مختلفة عن عصمة السلوك المقصود بها عدم فعل الكبائر والخطأ والنسيان، وهي العصمة التي يتفقون فيها مع أهل السنة بخصوص الأنبياء عدا الخطأ والنسيان، علمًا بأن للإمام لديهم منزلته كبيرة؛ فقد تجري المعجزات على يديه بوصفه المعصوم نصًا من وحي معصوم، وثمة مراجعات لهذا المعتقد عند بعض الشيعة المعاصرين كالشيخ “كمال الحيدري” الذي قال: إن عصمة الأئمة بهذا الشكل كان مختلفًا عليها بين سلف الشيعة في القرون الثلاثة الأولى “. انتهى.
ومما سبق تبين أن الاجتهاد في الدين عند الإمامية كان محصورًا في طبقة الأئمة “الاثني عشر”، ومن هذا المنطلق ظهر تيار في الفكر الإمامي يذم الاجتهاد عدا هذه الطبقة في سلف الإمامية، حتى كتب أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي كتاب ” الرد على أصحاب الاجتهاد في الأحكام “، والشيخ المفيد كتاب “النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي”، وفي ذلك يكتب السيد “محمد باقر الصدر” (1935- 1980م): “أن السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس يقول: ” إن الاجتهاد باطل، وإن الامامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد “. وكتب في كتابه الفقهي ” الانتصار ” معرضًا بابن الجنيد – قائلاً: ” إنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر”، وقال في مسألة مسح القدمين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: “إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به”.
كذلك فالشيخ الطوسي يكتب في كتاب العدة: “أما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين؛ بل محظور في الشريعة استعمالهما”. وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عددًا من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى، ثم يعقب ذلك قائلا: ” ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا”. وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة الاجتهاد كانت تعبيرًا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لونًا مقيتًا وطابعًا من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية، نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانه”. (دروس في علم الأصول 11/3،4).
لكن الأمر صار مختلفًا الآن؛ فالاجتهاد عند الإمامية أخذ منحى آخر رأيناه في وليّ الفقيه، مستندًا على فهم خاص للنصوص الدينية؛ في إشارة ذكية لمحمد باقر الصدر أن الاجتهاد في الفكر الشيعي الإمامي كان على مرحلتين:
الأولى وهي المذكورة في النص أعلاه، والدالة على تحريم الاجتهاد والعقل بالمطلق؛ بينما الثانية التي عليها التيار الأصولي الحالي، وتعني الاجتهاد وفق أدلة ونصوص المذهب المعتمدة، وفي ذلك يقول الصدر:
” المصطلح الأول للاجتهاد – أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص؛ فإذا قيل له: ما دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص، وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الأحكام بالاجتهاد، لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدرًا للحكم؛ بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها؛ فإذا قال الفقيه “هذا اجتهادي” كان معناه أن هذا هو ما استنبطه من المصادر والادلة؛ فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلنا على تلك المصادر والأدلة التي استنبط الحكم منها”. (دروس في علم الأصول 11/ 5).
الاجتهاد في الدين عند الإمامية كان محصورًا في طبقة الأئمة "الاثني عشر"، ومن هذا المنطلق ظهر تيار في الفكر الإمامي يذم الاجتهاد عدا هذه الطبقة في سلف الإمامية
وفي كلام الصدر إشارة لثقافة أهل الحديث السنة والإخباريين الشيعة بالمُجمَل، أن جوهر رفضهم للعقل كان منشؤه في مبدأ “عدم تقديس الرجال”؛ إذ لو جاز الاجتهاد وفقا لذلك سيكون رأي المجتهد مقدسًا ومفروضًا على العامة، بينما أصل الإسلام في النبوة يفرض أن يكون الاجتهاد محصورًا فقط في النبي، وعند الإمامية يمتد في نسله الاثنى عشر، وردًا على ذلك تبنى السنة معيارًا جديدًا للاجتهاد هو فعل الصحابة وأقوالهم، لكن ونظرًا للصراعات التي حدثت بين الصحابة وأنفسهم من جانب، وبين عدد منهم ضد آل البيت من جانب آخر، توقف جمهور السنة على رأي حاسم في تلك المسألة لضبط علم الأصول، وهو أن رأي الصحابة دليلٌ نعم، لكنه متوهم وليس أصيلاً في الدين، يجوز الاحتجاج به إذا عدم خلافه.
سنرى أن الفكر الإمامي بناء على ذلك تبنى أصلاً جديدًا غير منصوص عليه في الكتب بتوسع، لكن معمولاً به في الواقع، وهو (تقليد الإمام الحيّ)، ويعنون بذلك أن المرجعية العلمية هي الوحيدة واجبة التقليد؛ فيكون الاستدلال الحديث عند الإمامية من الأحدث للأقدم وفقًا لدليل الأقدم إلى الأحدث، بما يعني تمثيل المرجعية للرأي الإمامي الحديث والمستند على الأصول والنصوص القديمة للمذهب. وهذا مختلف عن الفكر السني بشكل كبير الذي يعتمد سلوك الاستدلال من الأقدم للأحدث، وفقًا لدليل الأقدم إلى الأحدث أيضًا، وقد أعطى هذا الاختلاف مرونة في الفكر الشيعي أكسبته نوعًا من المعاصرة والبرجماتية في التعامل مع المستجدات والظروف الطارئة، وأزعم أنها التي خرجت بمفهوم التقية وأدت لحماية المجتمع الشيعي الإمامي في عصور الاستضعاف من الأغلبية السنية.
كذلك فجزئية تقليد الحي هي التي أدت لخروج ثورة “الوليّ الفقيه” في مجتمع إيران بالقرن العشرين، وهي تعني مشروعية حكومة الفقيه إذا فرض الشريعة الإسلامية وعمل بموجبها، وهي حكومة تستمد شرعيتها من الله مصداقًا لقوله تعالى: “لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير” [المائدة : 120]، فيكون مُلك الله في الآية أمرًا تنفيذيًا بحاجة لحكومة إسلامية تحقق معنى “توحيد الملكية”، وهو نوع من التوحيد عرفه الإماميون الذين يقولون بوليّ الفقيه في دولة إيران مع أربعة أنواع أخرى؛ هي توحيد “الذات والصفات والأفعال والحاكمية”، وقد شرح ذلك الشيخ “آية الله ناصر مكارم الشيرازي” في كتابه (أمثال القرآن 24/ 5).
ويختصر ذلك “د. زهير الأعرجي” بقوله: “إن الولاية التكوينية المطلقة لله سبحانه وتعالى، وهو الذي منح الولاية التشريعية الكبرى للأنبياء والأوصياء المعصومين (ع)؛ وجعلها نيابة خاصة مباشرة من قبله؛ ومنح الولاية العامة لإدارة شؤون المسلمين الى الولي الفقيه الجامع لشرائط الولاية في عصر غيبة المعصوم (ع) ـ الذي ينحصر دوره في الإشراف على تنفيذ الشريعة فحسب، وليس التشريع كما هو معلوم”. (النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم 11/ 9)، وهو أمر مستجد على الفكر الإمامي الذي لم يعرف مسؤولاً سياسيًا ينوب عن الإمام الغائب في غيبته؛ إذ لو حدث ذلك قبل العلم بوليّ الفقيه لحدث نزاع على هويته ونسله؛ فكان الفقهاء الإمامية في الماضي يصمتون عن الاختيار إيثارًا لسلامتهم من جانب، ومنعًا للشقاق والنزاع بين الإماميين من جانب آخر.
أخيرا كانت هذه جولة قصيرة في الفكر الإمامي وفق المسموح به، على وعد بمناقشة بعض القضايا تفصيليًا على حدة، والتي تشكل ركائز أساسية في هذا المذهب، الذي أعتبره من أغنى وأثرى المذاهب وأوضحها في الفكر الإسلامي، ويشكل مع نظيره السني وجهة النظر العظمى والأساسية في الدين الإسلامي، وأكثرها شيوعًا وانتشارًا حول العالم، وسنُحاول قدر الإمكان تجنب قضايا السياسة الخلافية المعاصرة وتأثيراتها التي تُبعدنا عن جوهر المناقشات الهادفة للتعرف على المذاهب والديانات والأفكار من أصحابها، عملا بمبدأ (نسمع منهم ولا نسمع عنهم)، وهو واجب كل مثقف؛ أن لا يضع نفسه حَكَما على الآخرين إلا بما يتضمن اعترافًا بوجاهة رأيه عند ذلك الآخر، وهو ما فعلناه هنا؛ فقد طرحنا بعضًا من النقد الذاتي للإمامية من الإمامية أنفسهم، منعًا لاتخاذ وتبني مواقف خاطئة من القارئ، قد تدفعه للانحياز والتعصب ضد هذا المذهب، أو ضد أي من نناقش أفكاره ونشرح طبيعته المعرفية على مواطن.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.