في وصيته لحفيده، ترك الجد ميراثًا في المزرعة السعيدة على فيسبوك؛ مجموعة صور “NFTs” وعقارات في عالم الميتافيرس. هذه ليست مزحةً أو مشهدًا كوميديًا؛ إنما مظهرًا من مظاهر مستقبل الاجتماع الإنساني ما بعد العالم الافتراضي، واجتماع وسائل التواصل الاجتماعي. تحول يعرض إشكالياتٍ جديدة على الفلسفة التي بدورها تضيف المعنى الإنساني للظاهرة، إشكاليات تجعل المفاهيم التقليدية التي كونتها الفلسفة في تفسير ظواهر الاجتماع الإنساني وتعريف مفاهيمه، والتي تنعكس بدورها في تشكيل الأنظمة والقوانين والنظم والمناهج النقدية لإنتاجات البشر، غير متناسبة مع مصداق الظاهرة في العالم الجديد؛ مشكلة الإنسان في رحلته من الاجتماع الطبيعي إلى الاجتماع الافتراضي.
رحلةٌ من الأرض إلى السلطة
قبل آلاف السنين، وفي يومٍ ما وقفت جماعةٌ وقالت هذه الأرض ملكنا، تعجبت الجماعات الأخرى من فكرة امتلاك الأرض؛ بل وفكرة الملكية نفسها. وفي زمنٍ لاحق، أعلن أحدهم ملكيته لها كما يمتلك وعاء طعامه، وعقده المؤلف من تذكارات الصيد والأحجار الملونة، ويغير مسار التاريخ، أو ربما ساقته الطبيعة لذلك، الأرض هي ذاتها الأرض، لا يقتنيها الفرد ويحملها معه، ولم يقم بصناعتها أو إنتاجها بجهده، ولكنه قرر أن يمارس العنف لمنع غيره من الاستفادة منها، واحتكار فائدتها لخيارات حاجته.
فكرة الملكية، والتي مرت بمراحل عدة من التطورات، لم يكن العنف العامل الوحيد لظهورها، ولكنه عامل الاعتراف بها؛ ففي حين يعجز باقي الأفراد عن سلب الأرض اتقاء عنف من أعلن ملكيته عليها؛ ينشأ اعترافٌ منهم بملكيته لها؛ أي أن الملكية ليست وجودًا حقيقيًا في الخارج؛ إنما اعترافًا اجتماعيًا بسيطرة الفرد عليها وحقه في توريثها بعد رحيله. هنا ظهرت الدولة.
مع أن أرسطو يراها امتدادًا للسلطة الأبوية في الأسرة والزعامة في القرية، كانت السلطة السياسية أيضًا كما يعرفها الفيلسوف الألماني “ماكس فيبر” (الدولة) بأنها المؤسسة التي تحتكر العنف المشروع وتمارسه، وهو العنف الذي سيمارسه هؤلاء الأفراد لفرض سيطرتهم على ما يعتبرونه ملكهم، وينتزعون به الاعتراف بملكيتهم له. تحتكر هذه المؤسسة التي نسميها الدولة العنف وتكتسب غرض وجودها من هذا السبب “سلب باقي الأفراد ممارستهم للعنف” بإيجاد نظام قانوني وإجرائي متفق عليه، أو موجود بسلطة الأمر الواقع، مقابل منح الاعتراف والإبقاء عليه للأفراد الملاك، ومنعهم من ممارسة العنف ضد بعضهم لنيل هذا الاعتراف؛ الأمر الذي ينتهي إلى وجود كل هذه الكائنات المجردة بالاتفاق على وجودها.
كانت هذه هي السلطة السياسية لاجتماعنا في العالم الواقعي، تطورت عبر التاريخ في صور وأشكال مختلفة؛ ناقلةً الصراع الاجتماعي لمستوىً آخر في السيطرة على هذه السلطة وتطبيق النظرية الخاصة بالجماعة الحاكمة في عملية الإدارة ونظام العيش فيها. طوال مرحلة تطورها هذه، وفي تجاربها المختلفة التي انتهت بالمدنية التي نعرفها اليوم في شكل الدولة الحديثة، بقيت أصول الملكية هي نفسها؛ فعلى الرغم من خلق كيانات مجردة أخرى مثل الشركات، ابتداءً من أول شركة في اليابان “كونغو غومي” قبل 1400 عام، إلا أنها بقيت محصورة باعتمادها على تملك الأصول المادية الواقعية في العالم الواقعي، كأن تكون للشركة ممتلكاتها من المنشآت والأراضي التي تثبت قيمةً مادية حقيقية، وحتى مع اختراع المال، بقيت قيمة المال المتداول مقرونة بقيمة المعادن التي تساوي قيمته، ثم الناتج القومي لنظام العملة السياسي، لكن في العالم الافتراضي نحن نشهد تحولًا آخر في أصل الملكية نفسها يعيد تعريفنا لها.
ملكيات العالم الافتراضي
في العام 2003، نشأت شركة “Decentraland” الافتراضية، والتي تحوي عالمًا ثلاثي الأبعاد، يقوم فيه المستخدمون بإنشاء عقاراتهم الخاصة داخله، وتداولها وفق قيمةٍ سوقية تفرضها السوق الافتراضية، وهي قيمة تتحقق على الأمر الواقع. هذه القيمة تتحول لأصول حقيقية في العالم الواقعي، على الرغم من أنه ليس لها وجود مادي، وإنما افتراضي، نقلةً أخرى في صورة الملكية فرضتها ثورة العالم الرقمي والتواصل الاجتماعي، انتقلت الملكية فيها من “Physical real estate” إلى ” Virtual real estate “.
على فيسبوك، وفي واقعه المعزز، يتجه المجتمع الافتراضي لخلق هذا الشكل من الملكية. ” Horizon Workrooms“، والتي هي مكان عملٍ افتراضي في عالم فيسبوك الافتراضي، ستتجه مستقبلًا لتكون عقارًا تمتلكه الشركات. مسألة وقت في فرض أمرٍ واقع أمام سلطات العالم الواقعي التي ينسحب البساط من تحتها لسلطات العالم الافتراضي.
يمكن للشركات أن تنشئ مبانيها في عالم فيسبوك الافتراضي، والمهتمون بعالم الألعاب يستثمرون جهودهم ومواهبهم وأموالهم للتملك في هذا العالم، لكن تخضع هذه الملكيات أيضًا بشكلٍ محدود للسلطات الواقعية التي تنتمي هذه الشركات التي تدير عوالمها الافتراضية ومجتمعاتها لنظامها، لكن هذا ليس أمرًا ثابتًا؛ فالمجتمعات الافتراضية هي مجتمعات لا تخضع لحدود الجغرافيا أو الثقافة واللغة، أو التأثير التي تمتلكه سلطات العالم الواقعي، الأمر الذي يجعلها تخلق أسواقًا موازية تفرض فيها قيمتها كما حدث مع تجربة العملات الرقمية، أي إثبات واقع جديد للملكية.
عملات رقمية.. مظهر السلطة الافتراضية
تتكون الدولة من مواطنين، جغرافيا، حكومة، سيادة، واستمرارية نظام سياسي، تقوم بذلك بممارسة مهام إدارية وسياسية واقتصادية، ولتحقيق هذا الشق الاقتصادي في شكل الدولة الحديث، تمتلك عملتها الخاصة التي تتعامل فيها في العمليات الاقتصادية في عمليات التبادل التجاري، ليس بالضرورة أن تكون هذه العملة صادرةً منها، ولكنها بالتأكيد تمتلك قيمتها خارج حدودها الجغرافية.
على غرار العملات الرقمية كبتكوين، تعمل شركة “ميتا” على إصدار عملتها العالمية المعروفة بـ “ليبرا”؛ عملةٌ رقمية تمتلك قيمةً حقيقية يحتفظ بها أفراد مجتمع التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي، ويمارس بها الأفراد عمليات التبادل التجاري. سلطات العالم الواقعي المهيمنة على الاقتصاد العالمي تنظر بتوجس لهذا التطور الذي يبدو كمظهر من مظاهر السلطة السياسية في العالم الافتراضي غير المحدودة وتأثيرها على سلطاتها في العالم الواقعي.
مفارقة أخرى؛ هي أن ممتلكات العالم الافتراضي في أول الأمر ليست مشاعًا من حيث الوجود دون مالكٍ أصليٍ لها كما هي الأرض في العالم الواقعي، أي أنها كما المجتمعات الافتراضية لم يسبق لها عيش حالة طبيعية تسبق وجود السلطة السياسية كما في مجتمعات العالم الحقيقي، ولكنها تعود لمالكٍ أصلي هو خالقها في العالم الافتراضي، بالإضافة إلى أن مسألة أصالة الملكية في العالم الافتراضي لا يحركها العنف لنزع الاعتراف؛ إنما خلقها، كما يحدث في عملية تعدين العملات الرقمية.
لكن هل هذا يعني بأنه لن يكون هناك داعٍ لمؤسسةٍ افتراضية نسميها الدولة في العالم الافتراضي لغياب الحاجة للعنف لإثبات الملكية؟ في الحقيقة إن غرض المؤسسة الافتراضية التي سنسميها دولةً هنا في العالم الافتراضي ليس احتكار العنف الذي يمارسه الأفراد لحماية مصالحهم؛ إنما المصلحة بحد ذاتها.
أي أن السلطة السياسية في العالم الافتراضي تضعنا في موقف نحتاج فيه لإعادة تعريف مفهوم الدولة ومكوناتها؛ فهي لا تمتلك جغرافيا كما هو شرط الدولة في العالم الحقيقي، لكنها تشرف على عملية اقتصادية، وتخلق ملكيات افتراضية وتمتلك عملاتها الرقمية العالمية، وهي ليست سلطةً تحتكر العنف المشروع؛ إذ إن العنف ليس عامل الاعتراف الأصلي بالملكية الافتراضية أو العلة الأصلية وراء ظهورها. سؤالٌ يحيلنا مجددًا لانتظار قراءةٍ فلسفيةٍ جديدة لظواهر العالم الجديد، وإعادة تعريف هذه المفاهيم، كما يضع الفلسفة أمام اختبارٍ حقيقي في قدرتها على تحليل الظاهرة في الثورات المتسارعة للعالم الجديد، أو الفشل في وضع المعنى الإنساني لظواهر العالم الجديد.
دولة العالم الافتراضي والإقطاعيون الجدد
عقارات وممتلكات العالم الافتراضي غير موجودةٍ في الواقع كما هي عليه الموجودات الواقعية؛ من أرض وماء وهواء وكائنات مادية، كما أنها لا تعد مملوكةً لمؤسسة “الدولة”؛ إنما لأفراد مجتمعها. أما في مجتمع الواقع المعزز والعالم الافتراضي، كما هو مستقبل فيسبوك أو مجال الـ “NTFs” مثلًا؛ فهذه الممتلكات ليس لها وجودٌ واقعي، وإنما وجود اتفاقي يفرضه إمكان استبداله بقيمةٍ مادية في العالم الواقعي. وهذه الملكية وإن بدت في ظاهرها شبيهةً للملكية في العالم الواقعي؛ فهي امتدادٌ آخر في مراحل تطورها في مسار الحضارة الإنسانية، وأحد مظاهر ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الجديد.
تظهر سلطة العالم الافتراضي في شركات وسائل التواصل الاجتماعي من حيث مبدأ وجود العالم الافتراضي نفسه، وليس فقط حماية الملكية فيه؛ ما يجعلنا أمام سلطة كهذه في حاجة لإعادة الاتفاق على مفهوم مؤسسة الدولة في العالم الافتراضي نفسه؛ فالملكية في هذا العالم هي ما ينتهي بالاتفاق على وجود هذه السلطة؛ لكن يبقى السؤال دومًا هو ذاته؛ من يختار هذه السلطة؟ وهل لا زال لنا كأفراد حق حكم أنفسنا فيها؟