دائمًا ما يتردد هذا السؤال في الدوائر المهتمة بحقوق الإنسان وحقوق المرأة؛ “هل يتعارضُ الإسلام مع النسوية؟“، وكثيرًا ما يوجّه لي، “هل يتعارض كونك مسلمة مع كونك نسوية؟”
دعوني أقرُّ بدايةً بأنني لستُ “نسويةً”، رغم كفاحي من أجل حقوق المرأة في كتبي ومقالاتي ولقاءاتي الفضائية وجولاتي الميدانية؛ فأنا ابنةُ المدرسة “الإنسانية”، لا المدرسة “النسوية”، ومناداتي بحقوق المرأة ينطلق من صُلب مناداتي بحق الإنسان، بصرف النظر عن نوعه أو عِرقه أو طبقته أو لونه أو انتمائه العَقَدي.
هل نقصدُ بالإسلام: السنة بطوائفها وفرقها؟ أم الشيعة بطوائفها وفرقها؟ أم الجهادية التكفيرية؟ أم السلفية الوهابية؟ الأشعرية أم المعتزلة؟ الإخوانية أم فصيل الإسلام السياسي؟ الإسلام الأزهري أم الإسلام الداعشي أم الإسلام القرآني؟ أم إسلام المتصوفة؟
ولإدراك مدى تعقيد السؤال وصعوبة وضع إجابة بسيطة عليه بــ (نعم – لا)، دعونا في مُستهلّ الحديث نقف على أرض واحدة ونضبط مصطلحاتنا على بوصلة واحدة؛ علينا بدايةً تحديدُ طرفيْ المعادلة: (الإسلام- النسوية)؛ بتأمل هذين السؤالين: عن أي نسخة من “الإسلام” نتحدث؟ ما التعريف الذي سوف نعتمده لمصطلح: “النسوية”؟
عن أي "إسلام" نتحدث؟
لا شكَّ أن الإسلامَ واحدٌ، لكنّ الناسَ على مرّ السنين والعقود والقرون جعلوه نُسخًا كثيرة، ومذاهبَ، ونِحلًا، ومِللا، وطوائفَ، وجماعاتٍ، وأحزابًا، وشِيعًا، وفِرقًا شتى، ترى كلٌّ منها أنها “الفرقةُ الناجيةُ” من النار؛ باعتبارها “الفريق الأوحد” الذي يعتنقُ الإسلام الصحيح كما أقرّه الرسولُ حين قال: “ما أنا عليه وأصحابي”.
فهل نقصدُ بالإسلام: السُّنّة بطوائفها وفرقها؟ أم الشيعة بطوائفها وفرقها؟ أم الجهادية التكفيرية؟ أم السلفية الوهابية؟ الأشعرية أم المعتزلة؟ الإخوانية أم فصيل الإسلام السياسي؟ الإسلام الأزهري أم الإسلام الداعشي أم الإسلام القرآني؟ أم إسلام المتصوفة؟
وإذا نظرنا إلى الإسلام “جغرافيًّا”؛ فهل نتحدث عن الإسلام في إيران، أم أفغانستان، أم ماليزيا، أم الهند، أم باكستان، أم تركيا، أم في السعودية (قبل ثورة التنوير الراهنة وبعدها)؟ أم في مصر؟ وفي كل جغرافيا نجد نسخًا مختلفة للإسلام ما قبل عام 1979 وما بعدها!
النسوية، ما هي؟
وأما السؤال الثاني: “ما التعريفُ الذي سوف نعتمده لمصطلح: النسوية؟”؛ فلا يقلُّ كثيرًا في تشعبه عن الأول؛ فالمطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والكفاح من أجل تحرير المرأة لم تبدأ مع نشأة مصطلح “النسوية” Feminism مع ستينيات القرن الماضي؛ بل قبل ذلك بقرون طوال.
فهل نقصد النسوية بمفهوم عام 1890، أم قبل ذلك كما أقرّه دستور اسبرطة مع الملك ليكرجوس Lycurgus في القرن الثامن قبل الميلاد؛ حيث تمتعت المرأة الاسبرطية بكافة الحقوق في العمل وحيازة الأملاك والمشاركة السياسية، أم وفق فلسفة “أفلاطون” في القرن 4 ق.م. الذي نادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، على نقيض تلميذه “أرسطو” الذي أقرّ بحتمية تهميش المرأة في كتابه: “السياسة”.
أو بالمفهوم الأحدث في القرن الماضي مع “هدى شعراوي” و”قاسم أمين”، و”سيمون دي بفوار”، و”نوال السعداوي”، وغيرهم من المنادين بحقوق المرأة؟ أم بالمفهوم البسيط كما أقرته الروائية النيجيرية “تشيمامندا نجوزي آديتشي” في خطابها على منصّة TEDx عام 2012 وكتابها: “علينا جميعا أن نكون نسويين” We Should All be Feminist؟
أم أننا نتحدث عن المجتمعات “الأمومية”؛ حيث سلطانُ المرأة في النظام الأمومي Matriarchy يُخوّلُ لها أن تحكم وتقود المجتمع وتصطاد وتدافع عن القبيلة، بينما يمكثُ الرجلُ في البيت لتربية الصغار، كما في قبيلة مينانجكاباو بأندونسيا، وقبيلة بريبري في كوستاريكا، وقبيلة موسو بالصين، وغيرها؟
هل نتكلم عن “النسوية” بالمفهوم الفكري الفلسفي الإنساني الراقي؟ أم في ثوب الشطط المتطرف الذي يجعلُ من المرأة “سلعة جسدية”، وهو يزعم أنه يحاربُ أن تغدو المرأة “سلعة جسدية”؟
بتأمل كل ما سبق من سيولة التعريفات وشطط المتغيرات، وتشعُّب المفاهيم وتباين المصطلحات، ندرك مدى هيولية طرفي المعادلة (الإسلام- النسوية)، دون الوقوف على صور محددة نقيس عليها؛ فندركُ من ثَمّ كم هو سؤالٌ شديدُ التعقيد والتشابك حين نتكلم عن معادلة ثنائية من طرفين يتشعّبُ كلٌّ منهما إلى العديد من الأشكال والألوان والنسخ!
نحن إذًا بصدد متوالية هندسية من توافيقَ وتباديلَ معقدةٍ، تنفرطُ مع النقاش والجدال إلى عدد لا نهائي من الاحتمالات، وبالتالي عدد لا نهائي من الإجابات.
ولتيسير الأمر؛ دعونا نعتمد النسخة الأصلية من الإسلام، وهي التي وضعها وأقرَّها واعتمدها الرسول خلال سنوات الدعوة؛ الثلاثة وعشرين عامًا منذ “إقرأ”، وحتى “خُطبة الوداع”، قبل انقسامات مَن يطلقون على أنفسهم “رجال الدين والفقهاء” الذين أوسعوا الإسلام تشعيبًا وتفريقًا.
كانت السيدة سكينة بنت الحسين أديبة وعالمة لُغة وشاعرة، وامرأة ذات ثقافة وفصاحة ورأي ورؤية نقدية نافذة؛ إلى درجة أنها كانت محكمة بين الشعراء، وكان الشعراءُ يحجّون إلى صالونها الأدبي لتُحكّم بينهم على أسس علمية لغوية سديدة؛ فتمنح عطاياها للأشعر بينهم.
ثم دعونا نعتمدُ “النسوية” في تعريفها الأبسط والأرقى والأكثر شيوعًا واتساقًا وهي: “الإيمان بالعدالة (وليس المساواة) بين الرجل والمرأة في الحقوق الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية.” وتلك العدالة في نظري هي: الرجوع إلى الفطرة الإنسانية الأولى قبل أن يزجَّ فقهُ المصالح والاستقواء والتسيّد بأنفه في الحكاية، لكي يقتل العدلَ الفطريَّ بين الرجل والمرأة، وكلاهما “إنسان”. أما الفارق بين “المساواة” و”العدالة” فله حديث آخر.
الإسلامُ وحقوقُ المرأة، هل يتعارضان؟
سوف أُجيبُ عن هذا السؤال: بثلاثة أمثلة، الأول: في فجر الإسلام، والثاني: في بدايات إشراقه الأولى، والثالث: في اللحظة الزمنية الراهنة، وبهذا نكون قد أغلقنا القوسَ الزمني ومدته 1444 عامًا، وهي روزنامة التاريخ الإسلامي منذ الهجرة، أضف إليهم عشر سنوات ما قبل الهجرة؛ التي قضاها الرسولُ في “مكة المكرمة” منذ لحظة الوحي وحتى الهجرة إلى “المدينة المنورة”؛ حيث بدأ التقويم الهجري.
في المثال الأول دعونا نتأمل حالة نسائية عاشها الرسولُ محمد، قبل الوحي وبعده؛ وهو نموذج السيدة “خديجة بنت خويلد” زوجة الرسول الأولى، والتي لم يُعدِّد عليها الزوجاتِ في حياتها أبدًا، سيدة أعمال لها شأنٌ رفيع في المجتمع القُرشي؛ فكانت امرأةً قوية الشخصية ذات بأس ونفوذ ورأي وقرار، تحوزُ الأملاك وتُدير تجارتها بنفسها، اختارت زوجَها بنفسها ولم يُرغمها عليه أحد، لم تُقمع ولا قُهرت.
لم تُهَن ولم تُعيَّر بنوعها أو تُستضعَف، لم ينظر إليها المجتمعُ القُرشي بوصفها كائنًا ناقصَ الأهلية تستوجبُ الاتكاء على ذراع رجل، أو الاختباء والاحتماء بظلّ ذكر. جُماعُ ما سبق يُلخصُ فلسفة النسوية ويحقق جميع شروطها في أجلى وأرقى صورها، كانت هكذا قبل الإسلام، وظلّت هكذا بعد نزول الوحي على الرسول واعتناقها الإسلام، وحتى لحظة وفاتها.
والمثال الثاني أسوقُه لكم من آل البيت النبويّ الشريف، من الجيل الخامس، كريمةُ حفيدِ الرسول، الإمام “الحُسين” سيد الشهداء، وقد شهدت استشهاد والدها في كربلاء وعمرُها لم يتخطّ الأربعة عشر عامًا، ومع هذا فقد غدت امرأة قوية الشخصية ذات بأس، هي السيدة “سُكينة” ابنة “الحسين بن علي بن أبي طالب” و”فاطمة الزهراء” كريمة الرسول.
إن العقائدُ في جوهرها المكين لابد أن تنتصرَ لحقوق الإنسان، وإلا كانت عقائدَ زائفةً كذوبًا.
كانت أديبة وعالمة لُغة وشاعرة، وامرأة ذات ثقافة وفصاحة ورأي ورؤية نقدية نافذة؛ إلى درجة أنها كانت مُحكِّمةً بين الشعراء، وكان الشعراءُ يحجّون إلى صالونها الأدبي لتُحكّم بينهم على أسس علمية لغوية سديدة؛ فتمنح عطاياها للأشعر بينهم.
ومن بين مَن احتكموا إلى رأيها النقدي من كبار شعراء العصر الأموي: “جرير” و”الفرزدق”، بأشهر ما بينهما من نقائض شعرية خلّدها التاريخ، كانت سيدةَ مجتمع من الطراز الرفيع ومحطّ أنظار النساء، إلى الحد الذي كانت به نموذجًا نسويًّا يُحتذى بين بنات جيلها؛ فكُنّ يُقلّدنها في أسلوب الحياة والملابس وحتى في تصفيف الشعر. في جميع البلدان التي ارتحلت إليها، -ومنها مصر- التي كانت -وفق بعض الروايات- محطتها الأخيرة وأرض مدفنها ومقامها الشريف، وفي روايات أخرى قيل إن وفاتها كانت بمكة، وفي أخرى بالمدينة، وفي أخرى بدمشق.
لكن الثابت أنها كانت سيدةً تملك زمام أمرها وتحتكمُ إلى عقلها، ومثلها العديد من سليلات البيت النبوي ذوات البأس، منهن سيدة من الجيل السادس؛ هي السيدة: “نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب”، ويُطلقُ عليها “نفيسة العلم”. وكان أهل مصرَ يذهبون إلى أفواجًا يلتمسون منها العلم؛ فكانت هي الأخرى قوية الشخصية ذات بأس لا تهاب السُّلطة وذوي النفوذ.
وأما المثال الأخيرُ فأسوقُه لكم من المملكة العربية السعودية الراهنة، في حقبة ولي العهد “محمد بن سلمان”، الذي انتصر للمرأة وردَّ إليها بعض حقوقها التي استلبها منها أدعياءُ الدين عقودًا طوالا، ومازالت المملكة السعودية حاضنة الحرمين الشريفين حصنًا للإسلام على الرغم من انتصارها لحقوق المرأة.
خلاصةُ الأمر، إن العقائدُ في جوهرها المكين لابد أن تنتصرَ لحقوق الإنسان، وإلا كانت عقائدَ زائفةً كذوبًا، لأن اللهَ العدلَ أحرصُ على حقوق عباده من عباده، وبالتالي لابد أن ينتصرَ الإسلامُ لحقوق المرأة بوصفها إنسانًا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.