في خطاب ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2021 قال: “أعتقد أن لديكم هنا شيئًا ثمينًا للمستقبل”، لم يكن ماكرون يتحدث عن ثروات المملكة الهائلة من النفط؛ بل الهيدروجين الأخضر؛ أكثر أنواع الطاقة المتجددة أهمية في المستقبل القريب.
رأي ماكرون الطريق ممهدًا أمام المملكة لتصبح مركزًا لإنتاج الهيدروجين الأخضر لما لديها من إمكانيات؛ حيث تتوفر لها عوامل طبيعية؛ كوفرة الرياح وأشعة الشمس، وهما العاملان الأساسيان لتوليد تلك الطاقة النظيفة والمتجددة، والأهم من ذلك توفر المال اللازم للاستثمار من فوائض إيرادات النفط، والذي تبحث له المملكة وبقية الدول الخليجية عن ملاذ استثماري آمن.
التقطت المملكة نصيحة ماكرون، وسريعًا أعلنت عن رغبتها في افتتاح أكبر مصنع للهيدروجين الأخضر في العالم على أراضي مدينة نيوم الوليدة، التي لم تكن قد تجاوزت بعد مرحلة التخطيط لها. وتهدف السعودية من خلال الاستثمار في تلك الطاقة الجديدة إلى توفير 750 ألف فرصة عمل في قطاع الطاقة المتجددة على مدى السنوات العشرة المقبلة.
بشكل عام، تدرك دول الخليج أهمية تنويع مصادر الدخل، وأن اعتماد الموازنات العامة على إيرادات النفط فقط أمر محفوف دائمًا بالمخاطر؛ نتيجة تقلبات أسعاره، إلى جانب الجهود التي تقوم بها الدول المستهلكة لتقليل الاعتماد على النفط واستبداله بالطاقة المتجددة، إلى جانب كون النفط مصدرًا غير متجدد، ونفاد احتياطيات النفط العالمية مسألة وقت.
من هنا تأتي أهمية توزيع الاستثمارات الخليجية لتنويع مصادر الدخل، ليأتي الاستثمار في الطاقة المتجددة، ومن بينها الهيدروجين الأخضر، بما يضمن استمرار الدور الاستراتيجي للدول الخليجية عبر السيطرة على سوق الطاقة العالمي؛ سواء كانت طاقة غير نظيفة بيئيًا كالبترول، أو نظيفة كالهيدروجين الأخضر.
ترغب المملكة العربية السعودية في أن تصبح المصدر الأول للهيدروجين الأخضر بحلول العام 2030، مثلما هي المصدّر الأول لخام النفط عالميًا الآن، كما كانت الإمارات ضمن الدول السباقة عالميًا في التوجه نحو الاعتماد على الهيدروجين الأخضر بهدف تقليل الآثار السلبية للتغير المناخي، بالإضافة إلى رغبتها في أن تكون لاعبًا عالميًا في سوق الهيدروجين الذي يشهد اهتمامًا عالميًا متزايدًا.
أما عمان فتواجه تحديًا أكبر، وهو أن العمر المتوقع لمواردها النفطية أقل بكثير من ذلك المتوقع لبقية دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يدفعها للسعي للتخلص من سطوة الاعتماد على النفط والغاز، والتغلب على محدودية مواردها منهما عن طريق التحول جهة النظيفة، وتسريع تغيير نموذج الأعمال نحو المزيد من الطاقة المتجددة والتقنيات المستدامة. لذا أعلنت عن اهتمامها ًبالهيدروجين الأخضر، وتعمل حاليًا على تقييم إطلاق مكونات هذا المورد في الاقتصاد العماني، بهدف توفيره للاستخدام محليًا وتصديره دوليًا.
ما هو الهيدروجين الأخضر؟
يمثل الهيدروجين الأخضر خطوة مهمة ومحورية في التحول من الوقود الأحفوري إلى الحلول الصديقة للبيئة في المستقبل، ويعد الهيدروجين الأخضر وقودًا فريدًا بسبب خلوه من الانبعاثات، وهو أول أخف عنصر كيميائي، وينتُج عن طريق التحليل الكهربائي للماء باستعمال الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، ولا ينتج عن هذه العملية أيٌ من الغازات الدفيئة، أو أي انبعاث كربوني.
يعمل الهيدروجين كناقل للطاقة، ويستطيع أن يربط بين القطاعات المستهلكة للطاقة؛ مثل المباني والنقل والصناعة مع قطاع صناعة الطاقة وتطويرها. ويستطيع كيلوغرام واحد من الهيدروجين تشغيل مركبة تعمل بخلايا الوقود لمسافة 100 إلى 131 كيلومترًا، مقارنة بـ 16 كيلومترًا للبنزين. كما يمكن أن تعتمد عليه الصناعات التي يصعب إزالة الكربون منها، مثل الصلب والطيران والشحن؛ مما يجعله مصدرًا نظيفًا ومستدامًا ومرنًا في الاستعمال، إضافة لسهولة تخزينه ونقله لمسافات طويلة، كما يستطيع حمل كميات كبيرة من الطاقة من خلال ضغطه وتحويله إلى سائل؛ وبذلك ينتج طاقة ووقودًا نظيفًا.
يرى خبير طاقة الهيدروجين الأخضر ” أسامة فوزي جورجي” في حديثه لـ “مواطن” أن: “الأهمية العالمية والتسابق العالمي نحو إنتاج الهيدروجين الأخضر ينبع من أن الدول الصناعية الكبرى تحاول أن تؤمن الطاقة بأية وسيلة، وفي نفس الوقت اتباع استراتيجية التحول نحو طاقة نظيفة وآمنة”.
وبالرغم من التحديات التي تواجه قطاع الهيدروجين في الوقت الحالي، ومنها ارتفاع تكلفته، تعتزم دول الخليج التوسع وتعزيز الاستثمارات فيه لترسيخ مكانتها في السوق العالمية، وتستغل كذلك التوجه العالمي نحو الاعتماد على هذا المورد الذي اكتسب أهمية بعد أزمة الطاقة التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية.
دور الخليج في التوجه العالمي
قبل عام 2022 واشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، كان التوجه الرئيسي للدول الأوروبية هو التحول للطاقة المتجددة، والبدء في خطط الاعتماد على الهيدروجين، بسبب امتلاكه القدرة على توفير طاقة نظيفة، مع تمتع الهيدروجين الأخضر بالحظ الأوفر الذي يجعله يحل محل الوقود الأحفوري. ومع حلول الحرب، أصيبت اقتصادات الدول الأوروبية بالصدمة بسبب اعتمادها على الغاز والنفط الروسي، الذي يُشكل حوالي 40 % من احتياجاتها؛ مما جعل أوروبا تعيش أزمة طاقة غير مسبوقة بسبب تضاعف أسعار الغاز والنفط.
وهزت الأزمة ثقة أوروبا في استراتيجية الطاقة التي تتبعها، ودفعها إلى التوجه نحو الهيدروجين بوتيرة أسرع، وازدادت أهميته وأصبحت الحاجة إليه أساسية، ولم يعد الأمر مقتصرًا على الرغبة في تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية؛ بل أصبح الأمر متعلقًا بتوفير الطاقة نفسها بعد حدوث أزمة لم تعشها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وأبدت العديد من الدول حول العالم اهتمامًا بالهيدروجين الأخضر؛ سواء كان الهدف منه للإنتاج المحلي أو تصديره، وهو ما أبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه منطقة شمال أفريقيا والخليج، بسبب ما تمتلكه من إمكانيات طبيعية، وعملت بعض هذه الدول على دراسة فرص الاستثمار في هذا المجال المزدهر، أبرمت العديد من الاتفاقيات والتفاهمات بما يضمن لها حصة في التجارة الدولية في كعكة الهيدروجين، وبحسب تقرير أوبك؛ فإنه بنهاية 2022 ارتفع عدد الدول التي أعلنت عن الاعتماد على استراتيجيتها الوطنية للهيدروجين إلى 24 دولة، وكانت سلطنة عُمان بين هذه الدول؛ فيما أتت الإمارات مع الدول التي أعلنت خارطة الطريقة إلى الهيدروجين الأخضر، وكانت السعودية والأردن مع الدول التي تقوم بإعداد خارطة ولم تعلن عنها بعد.
كشف تقرير رسمي لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول “أوابك”، عن موقف الدول العربية في المنافسة على سوق الهيدروجين، الذي تعول عليه غالبية دول العالم بصفته وقود المستقبل؛ حيث شهدت الدول العربية نشاطًا غير مسبوق في سبيل تعزيز الشراكة الدولية والتعاون في مجال الهيدروجين. ويشير التقرير إلى أنه بنهاية عام 2022، ارتفع عدد مشروعات إنتاج واستعمال الهيدروجين المعلنة في الدول العربية إلى 73مشروعًا؛ منها 51 مشروعًا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وكان نصيب الدول الخليجية منها 18 مشروعًا.
وتعمل هذه الدول على دراسة فرص الاستثمار في مجال إنتاج الهيدروجين بغرض التصدير إلى الأسواق المحتملة، بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات وتفاهمات أولية، بما يضمن لها حصة في التجارة الدولية للهيدروجين في المستقبل. لذلك تضع الدول الخليجية أهدافًا محددة بأطر زمنية لإنتاج الهيدروجين والحصة المستهدفة من التجارة العالمية، وهو الأمر الذي يعكس حرصها على التواجد في هذه السوق الواعدة مستقبلاً، والعمل على الظفر بحصة سوقية مهمة.
ينتقد جورجي مؤسس منصة “H2llegiance” المعنية بعرض استراتيجيات الدول العربية في الهيدروجين الأخضر وفرص الاستثمار، التوجه الحالي التي تمارسه الدول الصناعية الكبرى، من خلال دفع الدول الخليجية والدول النامية في أفريقيا لإنتاج الهيدروجين الأخضر؛ حيث يرى أن الاستجابة لهذه الضغوطات ترفع من شأن الصناعات الخضراء بأوروبا على حساب التكلفة المرتفعة التي تدفعها هذه الدول، ويؤدي هذا التوجه إلى أن تبيع الدول الخليجية المصادر الطبيعية؛ من طاقة رياح وطاقة شمسية بأرخص الأسعار للدول الصناعية الكبرى.
ويقترح خبير الهيدروجين الأخضر على الدول الخليجية سرعة إنشاء منظمة فاعلة للهيدروجين الأخضر ومشتقاته؛ مثل منظمة الدول العربية المنتجة للبترول “أوابك”، لتكون لها الكلمة المسموعة من خلال السيطرة على الأسعار وتثبيتها، وصنع توازن لسوق الهيدروجين ومشتقاته، وسط محاولة الدول الأوربية والآسيوية تخفيض أسعار الشراء من الدول الخليجية.
علمًا بأن الدول الأوروبية المستهلكة للهيدروجين قامت منذ فترة قريبة بقيادة ألمانيا الاتحادية بتأسيس منصة مشتريات لكل دول الاتحاد الأوروبي لشراء الهيدروجين والأمونيا الخضراء ومشتقاتها، وذلك لتكون لها اليد العليا في التفاوض لتحديد سعر الشراء من الدول المنتجة.
في 7 يوليو 2020، أعلنت المملكة من خلال شريكها “أكوا للطاقة” عن إقامة أكبر مشروع هيدروجين أخضر في العالم في مدينة نيوم، على أن يتم إنتاج 650 طنًا من الهيدروجين الأخضر يوميًا، مع إنتاج 12 مليون طن من الأمونيا سنويًا بحلول عام 2050 بغرض تصديره. وتتوقع المنظمة المصدرة للنفط “أوابك” أن يصل الطلب على الهيدروجين إلى 650 مليون طن سنويًا بحلول عام 2050. كما تهدف البلاد من خلال هذا المشروع إلى توفير 750 ألف فرصة عمل في قطاع الطاقة المتجددة على مدى السنوات العشر المقبلة.
وبدأت هذه الطموحات المتزايدة بشأن مدينة نيوم في 2017 مع إعلان محمد بن سلمان عن المشروع الذي يهدف إلى إنشاء مدينة جديدة بالكامل على مساحة 26500 كيلومتر مربع، إلى جانب واجهة بحرية بطول 1700 كيلو متر، تطل على سواحل البحر الأحمر، ويهدف المشروع الضخم الذي تبلغ قيمته 500 مليار دولار بتمويل من الصندوق السيادي السعودي، وهو المشروع الذي يعول عليه في إحداث ثورة في المجتمع السعودي، تمهيدًا للانتقال لمرحلة ما بعد النفط وتنويع موارد الدخل، وجعل البلاد مركزًا تكنولوجيا.
تُصنف عُمان كواحدة من ضمن أفضل 5 دول في تنافسية أسعار الهيدروجين في العالم.
كما تستهدف الإمارات الاستحواذ على حصة 25% من السوق العالمية للهيدروجين بحلول عام 2030، وهي نفس النسبة التي تستهدفها منافستها السعودية، وبحلول نفس العام وفق رؤية ولي العهد. وكان للإمارات السبق في الإعلان في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 عن خريطة الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين من أجل تحقيق الريادة في هذا المجال. وخلال عام 2022 أعلنت عن حزمة من المشروعات الجديدة بالشراكة مع شركات طاقة عالمية من بلدان اليابان وكوريا، بهدف وضع الاتجاه العام نحو بناء اقتصاد للهيدروجين.
عُمان: التحول نحو الطاقة المتجددة لم يعد رفاهية
لدى عُمان تحديدًا اسباب أكبر من غيرها في دول الخليج للتوجه نحو استراتيجية الطاقة المتجددة؛ نظرًا لاعتمادها المبالغ فيه على إيرادات النفط بنسبة تصل إلى 72٪، مع قلة حجم هذه الموارد مقارنة بجيرانها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى حدوث عجز في الموازنة العامة للدولة. يقول خبير طاقة الهيدروجين، أسامة فوزي جورجي: “إن وضع عمان يختلف عن بقية الدول الخليجية الغنية بمصادر النفط، والتي تمتلك مخزونات استراتيجية تتراوح بين 40 إلى 60 عامًا؛ فإن سلطنة عُمان ومعها البحرين مخزوناتها لا تتجاوز 10-12 عامًا، لذا كان لزامًا عليها التحول سريعًا نحو إنتاج الهيدروجين الأخضر.
الخبير الاقتصادي العماني محمد علي؛ في حديثه لـ”مواطن” يقول: “بحسب التقارير والدراسات الخاصة بالهيدروجين الأخضر فإن سلطنة عُمان واحدة من أكثر المواقع جاذبية على مستوى العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر بشكل تنافسي وعلى نطاق واسع؛ إذ تُصنف ضمن أفضل 5 دول في تنافسية أسعار الهيدروجين في العالم.
لذا تخطط عمان لإنتاج الهيدروجين الأخضر بمعدل 1 إلى 1.25 مليون طن سنويًا بحلول عام 2030، وزيادة الطاقة إلى 3.75 مليون طن سنويًا بحلول 2040، وسط خطط للوصول إلى حصة 8.5 مليون طن سنويًا بحلول عام 2050.
ووقعت مجموعة أوكيو” العمانية مع شركة “أكوا باور” السعودية اتفاقًا لتنفيذ مشروع ضخم لإنتاج الهيدروجين في محافظة “ظفار”، بغرض تطوير مصادرها من الطاقة المتجدد، واستغلال ما تملكه الدولتان من إمكانيات في الطاقة الشمسية والرياح، وقبلها كانت السلطنة قد قامت بإعادة تسمية الشركة الوطنية للنفط والغاز، وهي أكبر شركة تنقيب نفط في البلاد، “تنمية نفط عمان” (PDO) إلى اسم شركة “تنمية الطاقة عمان (EDO)، وهي الخطوة الأولى من هذا النوع في المنطقة، ويظهر استراتيجية التحول التي تتبناها الدولة، للانتقال مستقبلًا إلى مكانة تكون فيها مركزًا لتصدير الطاقة بكافة أنواعها، وألا يقتصر نشاطها على تصدير النفط فقط.
ويضيف محمد علي إن: “سلطنة عمان خصصت مساحة 50 ألف كيلو متر مربع لهذه المشاريع الضخمة، وهي أكبر من مساحة دولة مثل بلجيكا وهولندا، بالإضافة إلى وجود الاستقرار السياسي ووجود البنية التحتية، وامتلاك الدولة كافة المقومات التي تجعلها تلعب دورًا في هذا المجال المتنامي.