في إحدى مشاهد فيلم bullet train، كان القتال يدور بين عميل المخابرات الأمريكية وبين قاتلة محترفة، قامت القاتلة بمحاولة قتل العميل الأمريكي بحقنة سامة، إلا أنه نجح في غرس سن الحقنة برقبتها، وعندما بدت عليها تشجنات إثر سريان السم في دمائها، سألها هل تملك مصلاً مضادًا للسم، ثم انفعل لأنه كان عليها حمل مصل مضاد للسم.
يعبر هذا المشهد عن الطريقة التي نعامل بها -في الغالب- كنساء في البيت، بالشارع وأماكن الدراسة والعمل، وهكذا مع كل موقف التعامل معهن؛ أن يكون من منطلق أننا على خطأ ومذنبات، بسبب القصور العقلي، ما جعلنا لا نفعل بديهيات بالنسبة للرجال حين يلقون علينا وابلاً من سهام اللوم.
خلال فترة المراهقة، سألني والدي: “كيف ترين حياتك بعد الأربعين؟”، أجبته بأنني أريد شراء منزل صغير من مالي الخاص، وأن يكون لي مصدر دخل ثابت، وأنني لن أنتظر فارس الأحلام على حصان أبيض ليمنحني حياة مستقرة، ولن أخاف من لقب “عانس”، وأستطيع أن أتبنى طفلاً وأعيش معه دون أن أتنازل عن حريتي وأرضخ لمفهوم “ظل راجل ولا ظل حيطة”.
هذا النوع من الاستعلاء الذكوري برجاحة العقل، لم يبدأ مع أبي، ولست أول فتاة يقع عليها التأنيب واللوم لأنها تفكر بشكل يختلف عن تصورات الرجال لهن؛ فمن وجهة دينية يعتبر البعض النساء ناقصات عقل، وشرعًا فشهادة رجل بشهادة امرأتين.
فوجئ أبي بالإجابة، وظهر على وجهه بعض الامتعاض، ووجه نفس السؤال لأخي وكانت إجابته: “أريد أن أتزوج مبكرًا، لأنجب الكثير من الأطفال، وأعيش حياة زوجية هادئة وسعيدة”. ضحك أبي بسخرية ونظر لي قائلاً: “ياريتك كنتِ أنتِ الراجل وأخوك البنت!”.
على الرغم من أن والدي كان مثقفًا، ولا يفكر كأغلبية الرجال، لكنه يرى نمطًا محددًا يجب أن تطمح إليه الأنثى، وخاصة لو كانت هذه الأنثى ابنته، ولو خرجت عنه فتصبح مختلة. في بعض الأحيان أشعر أنني سجينة هذا النوع من الصور النمطية. وأمام كل الرجال وليس أبي وحده، علي أن أفكر بطريقة ما ترضي تصوراتهم، وإلا أصبح نفس المختلة، مثلما كنت في عين أبي.
هذا النوع من الاستعلاء الذكوري برجاحة العقل، لم يبدأ مع أبي، ولست أول فتاة يقع عليها التأنيب واللوم لأنها تفكر بشكل يختلف عن تصورات الرجال لهن؛ فمن وجهة دينية يعتبر البعض أن النساء ناقصات عقل، وحتى شرعًا؛ فشهادة رجل بشهادة امرأتين.
وحتى على مستوى صنعة العقل “الفلسفة”، رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون المرأة أقل من الرجل في العقل والفضيلة، وكان أكبر مظهر استعلائي قول تلميذه أرسطو: “إن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل”، وعلق الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، بأنه على الرغم من أن أرسطو تزوج مرتين؛ فلم يكلف نفسه عناء النظر في فم أي من زوجتيه ليبرهن على صحة مقولته! وهكذا نحن محاصرات بأحكام لا يبذل من يطلقها عناء التفكير فيها وإعادة نقدها.
تنقسم درجات الاستعلاء العقلى لدى الذكور إلى نوعين؛ نوع يهاجم النسوية والنساء على مستوى تنظيري، ونوع يتبع الثقافة السائدة بغض النظر عن أفكاره، يمارس هذا الاستعلاء بوعي أو دون وعي.
وعلى مستوى التنظير، يدعي هؤلاء الذكور أن مجال العلم مثلاً أو الفلسفة، حتى مجالات تشهد حضورًا قليلاً من النساء؛ بل ومنعدمًا في بعض فترات التاريخ.
، ويشير أستاذ الفلسفة د. إمام عبد الفتاح إمام في سلسلة المرأة والفلاسفة، إلى أن هذا الرأي بعدم اكتمال عقل المرأة، بحجة قلة عدد النساء العالمات أو الفلاسفة، لا يجب التعامل معه على أنه حقيقة؛ إذ إن الحقيقة لا تعتمد على استثناءات، ضاربًا مثالاً بتمدد الحديد من الحرارة، وأنه حال وجدنا قطعة واحدة من الحديد لا تتمدد بالحرارة، تسقط هذه الحقيقة فورًا، ما يعني أنه إذا وجدت امرأة واحدة قادرة على الاشتغال بالعلم أو الفلسفة؛ فلا يمكن القول بنقصان عقل النساء.
وفي رأيي أن قلة المشاركات النسائية تاريخيًا في مجالات محددة، معتمدة على ثقافة المجتمعات والأدوار التي تمنحها هذه الثقافة للمرأة؛ فمثلا في وقت غابت المرأة عن المشاركة في الحروب في أغلب المجتمعات، إلا أن مجتمعات مثل اسبرطة في اليونان وقبائل الفايكنج في اسكندنافيا، سمحت بالتحاق النساء بالجيوش، وهو ما ينعكس على مجالات أخرى كالعلم والاقتصاد خاصة.
من المخزي تكرار الحديث حول نقصان عقل المرأة؛ في عصر به العديد من العالمات، أبرزهم السيدة ماري كوري، عالمة الفيزياء، والتي حصلت على جائزتي نوبل، وحتى تاريخيًا هناك عالمات مثل هيباتيا السكندرية، وعلى مستوى الاشتغال بالفلسفة هناك نساء شهيرات في هذا المجال مثل الفرنسية سيمون دي بوفوار، والنمساوية حنة أرندت. وسيظل متاحًا للنساء المنافسة في كل المجالات حال تهيأت الظروف وتواجدت الفرص.
ومن جهة أخرى على مستوى ممارسة الاستعلاء العقلي، يعاني أغلبنا كنساء في حال فتح أي نقاش مع أغلب الرجال؛ ففي مساحات العمل يواجه أغلبنا تشكيكًا فيما نطرح من آراء، ويتعامل معنا معظم زملاء العمل بأننا غير قادرات على اتخاذ قرارات صائبة من وجهة نظرهم.
وحتى على مستوى العلاقات العاطفية والاجتماعية، نجد الأخ أو الشريك دومًا يفتخر بتعدد معارفهم من النساء؛ في ظل رفض نفس الأمر للمرأة التي تخصهم بحجة واحدة؛ ألا وهي أننا أقل خبرة في الحياة، ولا نستطيع تقييم الأمور، بدرجة تحتم علينا أن نتأذى، عملاً بمقولة الفيلسوف اليوناني سقراط بأن: “المرأة مجرد مخلوق مشوّه أنتجته الطبيعة، ولا يمكنه ممارسة الفضائل الأخلاقية مثل الرجل”. حسبما يعتقد بعض الرجال.
نحن كنساء لسنا ناقصات عقل، هذا الوصم جاء من صورة نمطية لدى بعض الرجال، يعتقدون بأنه علينا أن نفكر وفقًا لعقولهم وطرق تفكيرهم، لكننا في الواقع ندرك الحياة من زاوية مختلفة.
ألا أن هذا لا يجعل من كل الرجال غير قادرين على احترام تفكير النساء وقراراتهن، وخوضهن الحياة العامة، وقد تساءل قاسم أمين فيما يخص الوصم الأخلاقي المرتبط باستقلالية المرأة: “أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن ؟”.
الاستعلاء الذكوري لا يتم تأييده من الرجال ضد النساء فقط؛ فأحيانًا تأييده من بعض النساء دون وعي تجاه أنفسهن تجاه والأخريات من بنات جنسها، خاصة مع وجود تأويلات دينية، والكثير من الفتاوى التي تحطّ من عقل الأنثى وتفكيرها أمام الرجل، لتصبح الأنثى دائمًا محل تقييم أمام الرجل الذي يفوقها ذكاءً، وعقله الأكثر الرجاحة؛ فتستسلم المرأة لهيمنة ذكور العائلة، وثم هيمنة زوجها.
وعلى الرغم من مقولة د. نوال السعداوي: “ليس هناك أي دليل علمي في البيولوجي أو الفسيولوجي ما يثبت أن المرأة أقل من الرجال عقلاً”، في كتابها الأنثى هي الأصل، نجد من جهة آخرى رجل دين يخرج علينا ويقول: “المرأة ناقصة عقل بسبب غدة نسيت اسمها!”.
أتمنى التحرر من ضغوط هذا الاستعلاء، وألا أشعر أنني معرضة دومًا لسيل من اللوم والتقليل من شأني، حتى لو بشكل غير مباشر، مع كل قرار أتخذه في حياتي أو عملي، لمجرد أنني قد أكون محاطة برجال يعتقدون دومًا أنهم أكثر ذكاءً
نحن كنساء لسنا ناقصات عقل، هذا الوصم جاء من صورة نمطية لدى بعض الرجال، يعتقدون بأنه علينا أن نفكر وفقًا لعقولهم وطرق تفكيرهم، لكننا في الواقع ندرك الحياة من زاوية مختلفة مثلما برهنت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر.
من الصعب جدًا أن نعيد ونوجه عمل عقل المرأة وفق ما يعتقد بها الرجال حولها، لكنه من الأسهل أن يتعلم الرجال احترام عقولنا.
وعن نفسي أتمنى أن أتحرر من ضغوط هذا الاستعلاء، وألا أشعر أنني معرضة دومًا لسيل من اللوم والتقليل من شأني، حتى لو بشكل غير مباشر، مع كل قرار أتخذه في حياتي أو عملي، لمجرد أنني قد أكون محاطة برجال يعتقدون دومًا أنهم أكثر ذكاءً وفهمًا وخبرة مني.
إننا كنساء عندما نخطئ نصبح معرضات إلى اللوم أكثر من الدعم، مصحوبًا بمقولات مثل، كان يجب عليك، أخبرتك سابقًا، قلت لك أكثر من مرة؛ وكأنها تجربة ذات نتيجة واحدة، يستخلص منها الرجال أننا أقل عقلاً، وكأنه نوع من الإرهاب النفسي حتى نكف عن اتخاذ قرارات مثلما نرى وتقودنا عقولنا!
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
مقال اكثر من رائع
المقال حلو ورائع وممكن نتناقش فيه لساعات ولكن … الصدام مع الرجل في النقاط المذكورة وخصوصا جعل الزواج حياة نمطية والإشارة إلى التبني وجعله أمر دارج يمكن أن يكون بديلا للانجاب هنا وقعنا في الاستثناء الذي يعمل كغطاء للقاعده الاساسيه .. مقال جامد بس المناقشة فيه محتاجه ساعات وممكن ايام .
احسنتي