تاريخ من الدفاع عن حقوق الإنسان، مصحوبًا بسنوات من إثارة الجدل في كل مراحل حياته، التي تحمل في طياتها شدًا وجذبًا في كل موقع تواجد به وموقف مر عليه، من مقابلته في قناة روسيا اليوم مع مؤسس ويكيليكس جوليان أسانج، وصولًا إلى قضايا تعلقت بأفراد ينتمون إلى تنظيمات إرهابية وسجناء معتقل غوانتانامو، وضحايا أحداث 2011 في البحرين، بالإضافة إلى الكثير من الأفكار التي تثير الكثير من النقد والجدل، كما هو الحال عقب مرحلة خروجه الأخير من السجن.
احتجز من قبل السلطات البحرينية عام 2016، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة إذاعة أخبار كاذبة؛ إثر انتقاده مشاركة البحرين في العمليات العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، بالإضافة إلى تهمة إهانة وزارة الداخلية، جراء معارضته عملية التعذيب في السجون البحرينية، وتهم أخرى متعلقة بقضايا الرأي.
وفي 9 يونيو 2020 ، أطلق سراحه من السجن إثر قانون العقوبات البديلة، والذي سنته البحرين في 2018، ويسمح للمحاكم بتحويل أحكام السجن إلى أحكام غير احتجازية. جاء عفو ملكي بإنهاء فترة العقوبات البديلة، في مايو 2023 . -بعد أن أكمل شهره الأخير-. كما سبق اعتقاله في مايو 2012 وسجنه في نفس العام، وأفرج عنه في العام 2014.
لم يقف الأمر عند كونه أحد أبرز الشخصيات الخليجية في مجال حقوق الإنسان؛ فانتقل إثر تجربة السجن من كتابة التقارير الحقوقية إلى كتابة الرواية، وفي مارس 2023 صدرت رواية نبيل الأولى “رسالة بأثر رجعي”.
نبيل رجب، شخصية بحرينية عربية عالمية، اتفق البعض معه أو اختلفوا؛ إلا أنه يبقى شخصية قدمت الكثير في الدفاع عن حقوق الإنسان والنضال والتضحية من أجل التغيير ورفع الظلم. التقت “مواطن” به وحاورته حول روايته الأولى وحياته وأفكاره.
- أنجزت المسودة الأولى لرواية “رسالة بأثر رجعي” على سريري في خلوة السجن.
- تكمن أهمية الرواية في أنها قصة حقيقية عشتها منذ زمن طويل، وتركت آثارًا كبيرة على حياتي.
- الهجوم الأوسع والانتقادات الأشرس هي التي تلقيتها من قبل بعض أفراد التيار الشيعي حول جمعية التجديد.
- مبادئي الحقوقية وقيمي الإنسانية، لا أستطيع التخلي عنها محاباة لهذا الطرف أو ذاك.
- ستكون المسطرة واحدة دائمًا؛ سواء كان الضحية سلفيًا أو شيعيًا أو لا دينيًا.
- صحة الموقف وصوابتيه لا يحددها الفعل ورد الفعل أو حجمه، ولا دعم هذا التيار أو خسارة ذاك.
- المسطرة يجب أن تكون واحدة، سواء كان الضحية سلفي – شيعي أو لا ديني.
من هو نبيل رجب؟
ناشط حقوقي بحريني المولد والأصل، مسلم الديانة والمعتقد، ليبرالي الفكر والمنهج، مناضل من أجل مجتمع يُحترم فيه الناس وحقوقهم الإنسانية دون تمييز أو استثناء على أي أساس كان.
ولدت في العاصمة المنامة، المدينة ذات الحيويّة الاجتماعيّة والنسيج الدينيّ والعرقيّ المتنوّع؛ حيث لا يفصل عن الكنيسة المسيحية والكنيس اليهودي أو المعبد الهندوسي سوى مئات الأمتار.
غادرت للهند لدراسة العلوم السياسية ومكثت هناك أربع سنوات، كانت مليئة بالتجارب التي فرضها التفاعل مع مجتمع متعدد الثقافات. كنت دائمًا منخرطًا في الأنشطة المتأثرة بالأوضاع السياسية في المدرسة والجامعة، أو ما بعد ذلك.
حول الرواية
"لا أعتبر نفسي كاتبًا، ولو أنني أطمح في الاستمرار في الكتابة؛ حيث صرت على قناعة بأنّه قد جاءت المرحلة العمريّة التي عليَّ فيها توثيق ما عندي من مخزون تجارب راكمتُها عبر السنين، وتكون مقروءة كي يطّلع عليها الجميع"
عرفنا أنك كتبت مسودة روايتك “رسالة بأثر رجعي” داخل السجن، كيف كانت تجربة الكتابة؟
نعم، لقد أنجزت المسودة الأولى لرواية “رسالة بأثر رجعي” على سريري في خلوة السجن التي كانت لي مكانًا مناسبًا، لاسترجاع الذاكرة وتحفيز المشاعر والخيال، ولمرارة العزلة الاضطرارية دورها في إشعال شرارة الكتابة، التي لولاها لانشغلت كعادتي في هموم الدنيا.
كنت أعيش سنواتي على ما أمتلكه في مخزون ذكريات، أو ما تُنتجه مخيلتي من تصوّرات وأفكار مرتبطة بمعتقداتي ورؤيتي الأخلاقية للحياة، وهي حالة نفسيّة خاصّة يشعر بها كلّ من عاش العزلة التي ساهمت في تحفيز الذاكرة واستحضار الماضي.
وكنت أعيش القلق الدائم من مصادرة عملي الذي اشتغلت عليه ليلًا ونهارًا خلال العامين الأخيرين؛ لا سيما أنه لم يكن من الواضح، إن كان سيسمح لي بإتمامه والخروج به من السجن أم لا، كان أمرًا مبهمًا، سمعت كثيرًا حول مصادرة بعض الأعمال الكتابية لسجناء آخرين، لكنني غير متأكد من الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
كيف أتممت عملك الروائي بعد خروجك من السجن؟ ولماذا كتبت هذه الرواية بالتحديد؟
لم تكن الأمور بالسهولة التي توقعتها حين ظننت أنه سيكون أمرًا يسيرًا؛ بل استغرق منّي وقتًا وجهدًا فاق تصوّري، ووجدتُ نفسي واقعًا بين أمرين كلاهما ضروري: الحاجة إلى عزلة جديدة وغياب عن التفاعل الاجتماعي مقابل ضرورة قضاء الوقت مع أفراد أسرتي، الذين كانوا يعدون الأيام لعودتي، وتطلّعوا إلى أن أعوّضهم عن سنوات بعدي عنهم، لاسيّما ابني آدم وابنتي ملَك؛ فقد حرمني السجن من أن أكون معهما في أجمل سنوات طفولتهما، صرت أطمح إلى قضاء ما تبقى من العمر معهما وزوجتي، لهذا قرّرت الموازنة بينهما قدر الإمكان، ولو جاء ذلك على حساب الوقت والجهد.
تكمن أهمية الرواية هذه في أنها قصة حقيقية عشتها منذ زمن طويل، وتركت آثارًا كبيرة على حياتي، تجربة مليئة بالدروس الإنسانية والقصص الملهمة والمغامرات الخطيرة، إلى جانب أحداثها التي تنتقل من البحرين بداية، إلى مقر دراستي الجامعية في الهند، ثم النيبال وجمال الطبيعة وجبال الهملايا، وأخيرًا السعودية التي كُشف فيها الغموض الذي صاحب القصة.
وهناك حقيقة لا بد من الإشارة إليها؛ وهو أن بعض أفراد أسرتي دائمًا ما طلبوا مني كتابة هذه التجربة، حرّضوني على استثمار عزلتي في توثيق شيء منها، بدلاً من تبديد الوقت في لا شيء، وحرصت خلال السنوات الأخيرة من سجني على الاستفادة بما تيسّر من ظروف وإمكانيّات، من أجل تحويل واقع عزلتي المرير إلى عمل روائي، يبقى ذكرى يطّلع عليها الناس.
هل حولتك الرواية من حقوقي إلى كاتب؟
لا أعتبر نفسي كاتبًا، ولو أنني أطمح في الاستمرار في الكتابة؛ حيث صرت على قناعة بأنّه قد جاءت المرحلة العمريّة التي عليَّ فيها توثيق ما عندي من مخزون تجارب راكمتُها عبر السنين، وتكون مقروءة كي يطّلع عليها الجميع؛ خاصّة الذين يشاركونني الاهتمامات والقيم نفسها، قبل أن تُدفن معي تحت التراب، أو تمحوها الشيخوخة من الذاكرة.
أشعر بالندم لأنّني لم أبدأ بالكتابة إلّا في وقت متأخر من عمري، رغم تراكم تجاربي التي تحتاج أنْ توثق أو يُكتب عنها، تقصير أعزوه لسببين: الأول انشغالي بالحياة وأحداثها المتتالية، وعملي الحقوقي الذي شغل جلّ وقتي في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، والسبب الثاني أنّني لم أمارس الكتابة إلّا في الأربعين من العمر، حين وجدت نفسي، مُجبرًا على كتابة التقارير الحقوقيّة في الداخل، أو حول البلدان التي أُغطيها ضمن عملي الدولي، أو بعثات تقصّي الحقائق، ومنه بدأتُ المشوار الذي أرجو ألّا يتوقّف.
ولماذا اخترت القالب الروائي؟
ربما وجدت فيه السبيل الأفضل لتمرير بعض القيم والمبادئ والأفكار التي أود نشرها وتعزيزها، ومن دون تبنيها صراحة أو تحمل تبعاتها على شتى المستويات.
ما الأشياء التي ترددت في طرحها في روايتك؟ ولماذا جاء التردد؟
هناك الكثير من القيود الذاتية التي على الكاتب أخذها في الاعتبار في سبيل الحصول على موافقة الطباعة والنشر محليًا، وهي الإجراءات التي أصررت على إتمامها حتى أستطيع النشر في المنطقة، وهذا يتطلب التنازل عن بعض العبارات، وسقف المطروح وتجنب الخوض في كل ما من شأنه أن يعطل عملية النشر؛ عملية لم تكن صعبة؛ خصوصًا وأن ما تطلب حذفه أو التنازل عنه كان شيئًا يسيرًا لا يضعف من أصل المحتوى أو يغير من سياقه.
يبقى أنه على الدولة متمثلة في وزارة الإعلام، تسهيل الإجراءات وتشجيع الكتاب والمؤلفين والمبدعين، ودفعهم إلى النشر في داخل البلاد، عوضًا عن النشر في دول أخرى، وهو ما يفعله بعض الكتاب والروائيين.
أشرت في روايتك إلى تجاربك في الهند والنيبال، ما الرسالة التي أردت إيصالها من هذه الإشارات؟
لقد عشت في الهند عدة سنوات لدراستي الجامعية، وهذا البلد الفقير اقتصاديًا، يعدّ من أكثر دول العالم ثراءً في تعدديته العرقية والإثنية والثقافية والدينية واللغوية، تعلّمت وتأثرت منه الكثير، رأيت الأحياء الفقيرة البائسة وبيوت الصفيح، كما رأيت الغنية التي تبرز التفاوت الطبقي الفاقع بين الثراء الفاحش والفقر المدقع.
وهناك الكثير من القضايا الإنسانية التي وجدتها أثناء وجودي هناك، وظلت عالقة في ذهني، منها حياة البؤس والفقراء، والاتجار بالأشخاص أو النساء ودفعهن لممارسة البغاء، واستغلال العمالة المهاجرة المتوجهة للخارج وانتهاك حقوقهم الإنسانية، وكذلك استغلال مقاتلي الكوركا النيباليين من قبل بعض الجيوش والمؤسسات العسكرية الغربية.
لقد حرصت على حقن روايتي بهذه المواضيع الإنسانية وغيرها من الأحداث السياسية التي لا نكاد نتذكرها.
هناك ذكر في روايتك للجدة معصومة وأثرها في حياتك، حدثنا عن ذلك الأثر؟
كانت جدتي معصومة قد علمتني منذ طفولتي ألّا أتنازل عن حقي بسهولة، ولا أترك من يسلب حقي يستمتع به، عليَّ التنغيص عليه قدر الإمكان في حال استحالة استرداده، وأن أجعله يدفع ضريبة تفوق الغنيمة التي كسبها. وهو ما كانت تفعله بي وإخوتي حين نسرق بعض علب البسكويت التي تخفيها تحت سريرها أثناء نومها، ما إن تلتفت إلينا ونحن نتسلل تحت سريرها، حتى تسحب عكّازها وتلقمنا وجبة من الضرب تجعلنا نفرّ هاربين متألمين، توقفنا بعدها عن تلك الممارسة، بعد أن استوعبنا أن ضريبة العكّاز وألمه، تفوق غنيمة البسكويت.
يجب أن تكون الغنيمة أكبر من الضريبة، وإلا لا فائدة منها. وتعلمت هذا الدرس بصورة أعمق في رحلة حياتي.
سنوات السجن
"كانت تجربة غنية بقصصها، ملهمة بدروسها التي أود يطلع عليها أجيال الحاضر والمستقبل؛ لا سيما المهتمين بالعلوم النفسية والاجتماعية والإنسانية؛ فهناك الكثير الذي أود قوله وكتبته"
ما أسباب سجنك؟ وكيف كانت تجربتك مع السجن؟
منذ عام 2012 صدرت ضدي مجموعة من الأحكام القضائية حول بعض أنشطتي المتمثلة في مشاركاتي في تظاهرات أو دعوتي لها، أو حول عبارات كتبتها على مواقع التواصل الاجتماعي أو تصريحات أدليت بها لمحطات تلفزيونية، وقد تجاوزت مدة هذه الأحكام القضائية التسع سنوات، قضيت منها حوالي السبع سنوات خلف القضبان؛ في حين أمضيت بقية المدة في برنامج العقوبات البديلة، وهو برنامج جديد عملت به الحكومة منذ العام 2018، ونلت كامل حريتي قبل بضعة أسابيع، وهذه المقابلة الصحفية الأولى التي أجريها منذ سنوات طويلة.
لقد كانت تجربة السجن مريرة، لكنها غنية بتفاصيلها، تحتاج أن توثق وتروى في يوم من الأيام، وهو ما سأحاول العمل عليه في الأشهر القادمة، لم تكن كبقية تجارب السجناء؛ إنما شيئًا مختلفًا، من حيث مكان الاحتجاز وطبيعة من احتجزت معهم، عشت متنقلاً بين الحبس الانفرادي أو العزل في زنازين خاصة، منفصلة عن مباني السجن الأخرى، وأعدت لفئات مختلفة على المستويات الفكرية والسلوكية والاجتماعية.
ومعظم الفترة التي قضيتها في سجن جو، كانت مع فئتين من السجناء؛ سجناء من ذوي الميول المثلية والمتحولين جنسيًا، وكذلك سجناء “داعش”، الذين انخرطت معهم في حوارات مستمرة وعلاقات طيبة إلى ما بعد السجن.
لقد كانت تجربة غنية بقصصها، ملهمة بدروسها التي أود يطلع عليها أجيال الحاضر والمستقبل؛ لا سيما المهتمين بالعلوم النفسية والاجتماعية والإنسانية؛ فهناك الكثير الذي أود قوله وكتبته، بدءً من حياتي اليومية داخل السجن، وطبيعة التفاعلات الاجتماعية والنفسية مع السجناء والسجانين، والتغيرات الفكرية والسلوكية التي تفرضها الظروف والمكان والتحديات وأثرها على العلاقات مع الآخرين.
كما أود مناقشة آثار التجربة على شخصيتي ومعتقداتي الأخلاقية والإنسانية، والآثار التي تركتها على المحيطين بي.
إذا دونت فعلاً يومياتك داخل السجن، هل سترخص لك الجهات الرسمية مثل هذا العمل؟
سأسعى جاهدًا لاستصدار رخصة هذا الكتاب محليًا ونشره كذلك، لا أتصور أن يكون هناك مشكلة في ذلك، لا سيما أنه ليس تقريرًا حقوقيًا كالذي توثقه المنظمات الحقوقية، كما أنه ليس مادة لانتقاد أحد أو إدانته؛ إنما كتاب يتحدث عن الحياة اليومية داخل السجن من عيون سجين، يبرز فيه طبيعة التفاعلات والآثار النفسية والاجتماعية والفكرية، ومن خلال مجموعة من القصص والتجارب التي يعيشها.
سجنت مع أعضاء تنظيم داعش، حدثنا عن تلك التجربة؟
كان في قرارة نفسي منذ اليوم الأول توظيف الزمان الذي سأقضيه معهم بصورة مثمرة، تخدمهم وتخفف من حدة أفكارهم، ساعدني في ذلك المسعى ما أحمله من منطلقات إنسانية متجردة من أي عصبيات قبلية أو دوافع دينية ومذهبية، مع إدراكي التام أن هويتي كشيعي المذهب، ستبقي بعضهم في ريب مني، وقد أدركت من خلال تجربتي أن الجهد الذي عليّ اتباعه سيكون مختلفًا من شخص لآخر، بناءً على عمر الفرد حينها أو عند انضمامه للتنظيم.
وكان واضحًا أن فقدان بعضهم لأخوة أو رفاق درب في الحرب المستعرة في سوريا والعراق، قد جعل من تراجعهم العلني أو الإقرار بخطأ منهجهم أمرًا بالغ الصعوبة؛ فأرواح ودماء من قتلوا من أحبتهم قد صنعت حاجزًا نفسيًا كبيرًا يحول دون تراجعهم بسهولة؛ حيث يشكل تخليهم عن هذه الأفكار في وعيهم خيانة لدماء الذين فارقوا الحياة.
لكن ومع مرور الوقت لمست في معظمهم شيئًا من التَّغيير الخجول، إقرارًا بعدم صوابية أفعال التَّنظيم أو بعضها، اختلفت نسبة هذا التَّغيير من شخص لآخر؛ فقد بدأت تتشكل لديهم قناعات جديدة فرضتها المرحلة السياسية وظروف السجن، كذلك الأنباء القادمة عن الحرب الخاسرة وتقاتل زعامات التنظيم مع بعضهم البعض. ظروف لا شك أنها دفعت كل واحد منهم إلى مراجعه قناعاته السابقة.
صرت أرى شيئًا من الإحراج لدى بعضهم نتيجة العمليات الإرهابية التي كنَّا نتابع أخبارها على جهاز التلفاز، كالتَّفجيرات التي تشهدها مساجد الشيعة والصوفية، أو السنية أثناء الاحتفالات بالمولد النبوي في باكستان وأفغانستان، وكذلك مشاهدة البرامج الوثائقية عن التنظيم، أو عمليات القتل التي تستهدف المخالفين لهم.
برامج ذات محتوى قاس، لكنَّها أثارت بعض الحوارات الجادة التي تلامس أصل الفكر وتناقش صوابية حججه الشرعية ومنهجه الدموي، صحبها تراجع ضمني غير معلن عن الأفكار المتشددة لدى البعض، تفهمت جيدًا عدم إعلانها، والحذر من رفاق الدرب؛ حيث إن المكان ليس للاختلافات الحادة أو الخصومات بين رفاق الأمس؛ فقد كنت أتجنب وضع أي منهم تحت المساءلة أو المحاسبة الاجتماعية العلنية أو غيره، تجنبًا لأي إحراج يمكن أن أتسبب فيه.
تسلل التَّغيير بهدوء وسلاسة للأفراد المنضمين حديثًا، أو أولئك الذين دفعهم حماس الشباب وأججتهم خطابات المنابر الدينية؛ ودفعتهم لاعتناق هذه الأفكار والسير في هذا الدرب، أو أولئك الذين لم يفقدوا أحبة لهم مع التنظيم، مع ذلك كانت مراجعة خفية عن بعضهم البعض. والمهم أنني لا زلت على تواصل مع من خرج منهم وتغير؛ حيث نلتقي أحيانًا على فنجان قهوة كرفاق سجن وحقبة من الزمان.
جدل مثار
"كانت الحملة الأقسى التي أواجهها، اشترك فيها رجال دين شيعة ونواب سابقين والكثير من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة تسقيط لا تختلف عن تلك التي واجهتها من قبل جمهور الحكومة في عام 2011"
دافعت عن مختلف الأعراق والأديان، وتتعرض من وقت لآخر لنقد وتشهير من مجموعات مختلفة، كيف تتعامل مع ذلك؟
نعم، هناك محطات في عملي الذي تلقيت فيها بعضًا من الانتقادات؛ ليس من الحكومات فقط؛ إنما من بعض الجماعات الشعبية أيضًا، معظمها ناتج عن فهم قاصر أو مسيس ومغاير للقيم الإنسانية التي نسعى إلى تعزيزها، مبادئ حقوق الإنسان للجميع من دون استثناء، ديني أو عرقي أو اجتماعي أو لأي اعتبار آخر، إلا أنها لا زالت ثقافة غير متجذرة عند بعض مجتمعاتنا المحلية، وإن أبدت أحيانًا غير ذلك، لا سيما حين تستهدفها تلك الانتهاكات، وتكون أو بعض أفرادها هم الضحايا، وفي هذا كانت لي تجارب كثيرة.
حين دافعت عن سجناء القاعدة القابعين في سجون غوانتنامو وحقهم في المعاملة الإنسانية والمحاكمات العادلة، واجهت بعض الانتقادات من بعض الجماعات الشيعية والليبرالية؛ في حين صرت محبوبًا عند الجماعات السلفية السنية المتعاطفة مع هؤلاء السجناء، أتلقى الدعوات لمجالسهم وعبارات الإشادة، إلا أن هذه المودة قد تعثرت حين رحت أدافع عن ضحايا الانتهاكات في أحداث عام 2011، وكان معظمهم من الشيعة، انقلب السلفيون السنة ضدي، وارتأوا أنني انتصرت لأبناء طائفتي؛ في حين صرت بطلًا محبوبًا عند الجمهور الشيعي.
وفي موضوع آخر وذات السياق وجهت انتقاداتي لخطاب الكراهية المتنامي تجاه العمالة الآسيوية الفقيرة، حينها تلقيت سيلًا من الانتقادات من بعض المواطنين سنة وشيعة، الذين ارتأوا أنني انتصرت لهؤلاء الناس على حسابهم. إلا أن الهجوم الأوسع والانتقادات الأشرس هي التي تلقيتها من قبل بعض أفراد التيار الشيعي حول جمعية التجديد.
تلقيت الكثير من النقد بسبب دفاعك عن أعضاء جمعية التجديد في البحرين؛ فما قصة الجميعة؟ ولماذا تعرضت لهذا النقد والهجوم؟
هي جمعية ثقافية بحرينية تضم نخبة من الباحثين والمثقفين الشيعة، وتعمل على تنقيح التراث الديني الشيعي، لهم مجموعة من الإصدارات وقناة على منصة اليوتيوب تبث من خلاله ثلاثة برامج أسبوعية، حول نتائج بحوث ودراسات الجمعية، إلا أنه ومنذ بروزهم على الساحة، كانوا عرضة لخطابات التكفير والتبديع والكراهية، والدعوة لعزلهم ومحاصرتهم واجتثاثهم اجتماعيًا؛ في حملة قادها بعض المحسوبين على التيار الشيعي التقليدي، أدت لانقسام مجتمعي حاد أصاب الجسم الشيعي في البحرين.
وقد قمت بدوري الحقوقي حين انتقدت طريقة التعامل مع أعضاء هذه الجمعية والانتهاكات التي يتعرضون لها؛ لا إيمانًا مني بفكرهم ولا اعتقادًا به؛ إنما مؤمن بحقهم في التعبير والاعتقاد والبحث العلمي، ناشدت باحترام حقوقهم الإنسانية، الأمر الذي لم يقبله بعض هؤلاء المتصدين، وأدى إلى أن أكون أحد ضحايا هذه الحملة من التحريض على الكراهية، وسيل من الانتقادات الحادة.
بعضها وصل إلى حد القذف والسب والإساءة لي وأفراد أسرتي، الذين كان بعضهم ناشطًا في جمعية التجديد، وقد صدرت الدعوات إلى مقاطعة مجلسي الذي أستقبل فيه رفاقي كل أسبوع، وكذلك حفل تدشين روايتي التي كتبتها في السجن، وهو الحدث الذي انتظرته طويلاً.
كانت الحملة الأقسى التي أواجهها، اشترك فيها رجال دين شيعة ونواب سابقين والكثير من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة تسقيط لا تختلف عن تلك التي واجهتها من قبل جمهور الحكومة في عام 2011. كانت ردة فعل محبطة لي وللكثيرين من الناس الذين تابعوا الحدث الذي شغل الرأي العام المحلي.
هل اعتقدت للحظة بأنك ربما أخطأت حين تدخلت في هذا الموضوع الشائك شيعيًا؟
على الرغم من صدمتي وشدة إحباطي جراء ردة الفعل المسيئة إلا إنني لا أشك ولو للحظة في صوابية موقفي وأخلاقيته، يبقى أن هذه مبادئي الحقوقية وقيمي الإنسانية التي لا أستطيع التخلي عنها محاباة لهذا الطرف أو ذاك، تصفيق الناس ليس طموحي؛ إنما أن أكون صادقًا معهم ومع ضميري. ستكون المسطرة واحدة دائمًا؛ سواء كان الضحية سلفيًا أو شيعيًا أو لا دينيًا.
وللأسف فإن هذا الأمر قد شغل الفاعلين المحليين عوضًا عن الانشغال في المواضيع التي تخص حقوق الناس ومشاكل المجتمع الحقيقية، يبقى أن نشر وتعزيز الوعي الحقوقي والإنساني في مجتمعاتنا هو السبيل الوحيد للحد من هذه الاختلافات الناجمة عن قصور الفهم.
هل شعرت بأنك ربما مخطئ في أي من محطات مسيرتك المهنية؟
المطالبة بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان لا يمكن أن يكون خطأ،لكن العمل النضالي من أجل تحقيق ذلك هو حركة مستمرة وسلسلة متواصلة من التجارب،فيها الناجحة التي يجب تعزيزها وفيها الفاشلة المطلوب تصحيحها، يبقى علينا تقييم كل مرحلة واستخلاص الدروس والعبر منها في سبيل التقدم والتطور وجعل تجارب المستقبل أكثر فاعلية،الرؤية والخطاب يجب أن تواكب المرحلة وظروفها الاجتماعية والثقافية والسياسية، لصيقة بالواقع لا منفصلة عنه.
وعلى الرغم من حملة الهجوم الشديد ضدك في الأشهر الأخيرة، أنت لا تعدها “كبوة”، بل موقف أصيل بغض النظر عن تبعاته؟
لا خطأ ولا كبوة في الدفاع عن الناس، كل الناس وحقوقها الإنسانية، صحة الموقف وصوابتيه لا يحددها الفعل ورد الفعل أو حجمه، ولا دعم هذا التيار أو خسارة ذاك، لم أشك ولو للحظة في صوابية موقفي في الدفاع عن هذه الأقلية وأخلاقيته، كما لا أستطيع التخلي عن هذه المبادئ الحقوقية والقيم الإنسانية محاباة لهذا الطرف الشعبي أو ذاك التيار السياسي وجمهوره العريض، تصفيق الجمهور وحملهم لي على الأكتاف ليس طموحي، إنما أن أكون صادقًا معهم وضميري.
المسطرة يجب أن تكون واحدة، سواء كان الضحية سلفي – شيعي أو لا ديني. يبقى أن نشر وتعزيز الوعي الحقوقي والإنساني في مجتمعاتنا هو السبيل للحد من هذه الاختلافات الناجمة عن قصور الفهم.
شأن عام
"هناك مشاكل كثيرة تبدأ بالقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، والتي هي من أساسيات الديمقراطية، ترتب عليها ملاحقات أمنية وقضائية مستمرة بحق النشطاء"
كيف أثرت الصراعات الطائفية على تقدم مجتمعاتنا العربية؟ وكيف يمكن الاستفادة من التنوع الطائفي والعرقي؟
لقد عانت منطقتنا من استقطاب طائفي بغيض ونمو للتطرف الديني الذي كانت تغذيه النزاعات والحروب الدموية في دول الجوار؛ مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا، واستثمار بعض الحكومات في هذه النزاعات من خلال دعمها أطرافًا دون أخرى، في حروب عبثية خسر فيها الجميع، الحكومات والشعوب، وشهدت الكثير من الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية.
هذه الصراعات شغلت بلداننا عن التنمية على جميع الأصعدة، حتى صرنا نتبوأ مراكز متدنية على أغلب المؤشرات العالمية. أتمنى أن يكون الفاعلون الإقليميون والدوليون قد التفتوا لأضرار هذه الصراعات على المنطقة والعالم بأسره، وخطيئة الاستثمار فيها، وأنه جاء الوقت للتخلص من هذه الأعباء الثقيلة.
علينا النظر إلى التنوع الديني والمذهبي والعرقي على أنه مصدر قوة وثراء للمجتمع والتعايش السلمي، وإدارته بشكل هادف سليم، من خلال تعزيز الهوية الوطنية الجامعة والشاملة وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع دون استثناء، على أساس العرق أو الدين؛ فالعدالة والمساواة هي الضمانة الأكبر لاستقرار مجتمعاتنا.
كيف ترى المشهد الحقوقي في عالمنا العربي؟
لا شك أن هناك تحديات كثيرة يشهدها العالم العربي ولو أن الوضع الحقوقي يختلف من دولة لأخرى، ومن وضع مقبول في بلدان إلى سيئ جدًا في بلدان أخرى. هناك مشاكل كثيرة تبدأ بالقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، والتي هي من أساسيات الديمقراطية، ترتب عليها ملاحقات أمنية وقضائية مستمرة بحق الناشطين والفاعلين الاجتماعيين.
هذا وضع غير سليم؛ بل ساهم في تقييد حرية التفكير والإبداع والتقدم العلمي، والتضيق من نطاق الحوار العام حول القضايا المختلفة. أدى هذا إلى زيادة التوترات بين الناس وحكوماتها.
كما تضع معظم دولنا قيودًا على حقوق المرأة والأقليات والحريات الدينية؛ في حين يشكل الاحتجاز التعسفي مشكلة أخرى طالما تحدثت عنه المنظمات الدولية، لكن تبقى عقوبة الإعدام الهم الأكبر والعقوبة الأقسى التي بات يرفضها العالم المتحضر، وألغتها معظم الدول أو توقفت عن تطبيقها.
ما صعوبات العمل الحقوقي في البلاد العربية؟
المشكلة في غياب المنظومة القانونية التي تشرع لهذا النوع من النشاط الحقوقي والإنساني في معظم دول المنطقة، وكذلك الظروف السياسية وغياب الديمقراطية والحريات العامة. لا زالت معظم المنظمات الفاعلة موجودة في خارج بلدانها خشية الاستهداف؛ حيث تساوي الحكومات بينها والجماعات المعارضة؛ في حين تصنفها دول أخرى كجماعات إرهابية.
هذه حالة غير صحية، لا بد من تصحيحها والسعي لأن تكون العلاقة أكثر تفاعلية تخدم حقوق الإنسان؛ حيث تتقبل الحكومات ناقدي سجلها الحقوقي، وتعمل على إصلاحه عوضًا عن ملاحقة منتقديها؛ فوجود مجتمع مدني فاعل ومنظمات لحقوق الإنسان هو مؤشر على تحضر الدول واهتمامها لتطلعات شعوبها وحقوقهم الإنسانية.
هل المؤسسات الدولية مسيسة، أو تعمل على ابتزاز الدول طبقًا لمصالح معينة؛ على إثرها تثار بعض القضايا ويختفي البعض الآخر؟
هذا كلام غير دقيق؛ فالمؤسسات الدولية لها إداراتها ومستشاروها الذين يحددون سياستهم وأولوياتهم، وكذلك المناطق والمواضيع المستهدفة، يضعون برامجهم بناء على اعتبارات متجردة وغير مسيسة.
هذا ربما لا يرضي الجميع في جميع الأوقات؛ حيث ينظر البعض إلى هذه المنظمات من خلال أولياته متجاهلاً الدول الأخرى، إلا أن العاملين في تلك المنظمات يضعون كل شيء أمام أعينهم عند وضع هذه السياسات. يبقى أننا بشر غير منزهين عن الأخطاء أحيانًا.
أخيرًا، وبما أنك كنت أحد هؤلاء الذين تم الإفراج عنهم من السجن إثر قانون العقوبات البديلة؛ فما رأيك في العقوبات البديلة والسجون المفتوحة؟
تدابير العقوبات البديلة والسجون المفتوحة تعتبران خطوات إيجابية في منظومة القوانين البحرينية، وستكون أفضل لو شملت جميع السجناء دون استثناء، يبقى علينا تشجيعها وكل خطوة إيجابية تقوم بها الحكومة، مثلما علينا انتقادها حين تنتهك حقوق الإنسان، هذا المنهج هو السليم الذي يضفي المصداقية على المؤسسات الحقوقية ونشطائها.