بدأت القصة بعد وفاة الإمام “جعفر الصادق” (80- 148 هـ) وهو الإمام السادس لدى المذهب الاثنا عشري؛ فكان أكبر أبنائه “إسماعيل”، الذي يُفترض أن يصبح إمامًا بعد أبيه، لكنه توفي قبل أبيه بعشر سنوات (138هـ)؛ في حين بقي أخوه الأصغر موسى المُلقّب بالكاظم حتى عام (183هـ)؛ فافترق الشيعة إلى فريقين: الأول يبايع إسماعيل إمامًا بدعوى قُربه لأبيه وأكبر إخوانه وأصلحهم للإمامة، بينما الثاني يقول إن إسماعيل مات مبكرًا فسقطت إمامته لتصبح محصورة في موسى، ويرد الإسماعيليون على ذلك بأن إسماعيل لم يمت مبكرًا كما هو مشهور؛ بل مات بعد أبيه، وعلى ذلك فإمامته صحيحة..
يرد الإماميون على تلك الدعوى بأن إسماعيل مات مبكرًا، والذي يزعم أنه مات بعد أبيه وتعصب لإمامة إسماعيل هو “محمد بن أبي زينب المقلاص”، المعروف “بأبي الخطاب الأسدي” مؤسس وزعيم فرقة الخطابية، وهي فرقة ملعونة في المذهب الاثنا عشري، ومشهورة بأحد فرق “غُلاة الشيعة” في التراث الإسلامي ، يصفها الشيخ “جعفر السبحاني” أحد فقهاء الإمامية بقوله: “قلنا إنّ إسماعيل بن جعفر -عليه السَّلام- بريء من هذه الوصمة، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه، نظراء المغيرة بن سعيد، وبشار الشعيري، وعبد اللّه بن ميمون القداح، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية، وقد تبرّأ الإمام الصادق -عليه السَّلام- والأئمّة المعصومون من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم ولعنوا الخطابية، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن” (المناهج التفسيرية في علوم القرآن 6/ 9).
بينما يرد الإسماعيليون بأن دعوتهم توحيدية عقلانية قام عليها في الخفاء الإمام “إسماعيل بن جعفر” في حياة أبيه وبمعرفته وموافقته ومساعدته، وأن دعوة إسماعيل نمت وترعرعت في ظل إمامة أبيه؛ فنهلت من معرفته وحكمته وحركت العقول فأخرجتها من الضيق إلى السعة، وبمساعدة دعاة أربعة؛ هم “ميمون القداح، ومبارك بن جعفر، والمفضل بن عمر، وحمدان بن أحمد” ويسمون هؤلاء الأربعة (بالدعاة الحُرُم)، لمنزلتهم الكبيرة في المذهب الإسماعيلي؛ في وضع يشبه وضعية الصحابة بالنسبة للرسول في الدين الإسلامي ككل (راحة العقل- أحمد حميد الدين الكرماني صـ 22).
ولا نُسلّم لجعفر السبحاني بمطلق هذا القول؛ فالذي أحدثه الإسماعيليون في التاريخ الإسلامي لهو أعظم أثرًا وأكثر إنتاجًا وأطول زمنًا من الذي أحدثه الإماميون؛ فإلى الإسماعيلية تنتسب فرق سياسية كثيرة “كالقرامطة والحشاشين والأغاخانية” وأنشأوا دولاً “كالفاطمية والسامانية”، والعديد من الفلاسفة كابن سينا وإخوان الصفا وأبي حاتم الرازي وأبي يعقوب السجستاني ..وغيرهم، واقتحم مفكرو الإسماعيلية ميادين الجدل والفلسفة والعقائد، ودخلوا علم التفسير حتى اشتهرت عنهم طريقة “الباطن”، التي تعني عدم التسليم بظاهر النصوص وتأويل المتشابه منها بقرائن على طريق المجازات العقلية واللغوية، أو بطريق العلل المخفية التي عرفها أهل الرأي الأوائل بالقياس الخفي، الذي يعني في مضمونه أن للنص دلالة تضمن خفية ومقصودًا جوهريًا لا يظهر للعقل والحواس عند قراءته، ولكن بالتأمل العرفاني والروحاني وصدق التواصل مع الله، حتى سميت تلك المدرسة بالعرفان.
وهو العلم الذي يفترض أن هناك عقلاً لم ولن يبلغه أي بشر سوى (الأنبياء والأولياء) سموه بالعقل الكلي؛ فيقولون إن العقل العادي يُبصر جزئيًا بعض جوانب الواقع، لكن العقل الكلي يسمو عليه ويُبصر الواقع ككل، ولا يتم بلوغ ذلك المستوى بمجرد البحث والتأمل؛ بل بالنشاط الروحاني والسلوك، وتكمن فكرة النشاط الروحي عند العرفانيين في اكتشاف ما يُسمّونه (بالروح العقلانية)، التي تُضعف النفس السفلية؛ فالروح العقلية هي التي تتسامى في الوجود، وتبحث عن مواطن الخلل في الحياة وعلاج المُشكلات بالحكمة، وهذا لا يحدث سوى بالزهد ومقاومة الشهوات والطمع الذين هم علامات للنفس السُفلية.
من ذلك نرى أن المذهب الإسماعيلي أعقد وأغمض مما يتصوره البعض؛ فقوامه هو الفلسفة كما يبدو، وعقول البشر صممت بطريقة أبعد عن التفلسف؛ فمن الصعب إذن فهم المذهب الإسماعيلي دون إدراك ماهية العرفان وممارساته وتطبيقاته في التاريخ، ومن ثم يمكن فهم ما عليه الإسماعيليون بإدراك الروابط المشتركة بين الفكر الإسلامي والعرفان، أي الطريقة التي يفهم بها المسلم هذه الطريقة في التفكير، والتي تنتشر بشكل واسع في أديان آسيا، وقد كان الفيلسوف “محمد ابن أحمد النسفي” المتوفي عام 332 هـ هو صاحب السبق في إدخال الفلسفة للمذهب الإسماعيلي، وكذلك أبو حاتم الرازي (توفي عام 322هـ ) وأبو يعقوب السجستاني (توفي عام 331هـ على المشهور)، الذي يقول “د. فرهاد دفتري” في كتابه “الإسماعيليون في العصر الوسيط” إن هؤلاء الدعاة صاغوا فلسفتهم بناء على الأفلاطونية المحدثة التي كانت شائعة آنذاك في إيران.
ولأن المذهب الإسماعيلي صعب الفهم لقيامه على التفلسف، يمكن القول بأن معظم الاتهامات الموجهة لأئمته غير ثابتة ولا يمكن إثباتها لعدة أسباب:
- الأول: أن التراث الفكري الإسماعيلي نادر جدًا، وما تَحصّل عليه المفكرون من ذلك التراث الآن ترجمات وجهود شخصين اثنين؛ هما “عارف تامر” و “مصطفى غالب”؛ فمن أين حصل الخصوم على اتهاماتهم إذن؟
- الثاني: أن كثيرًا من هذه الاتهامات تمس خُلُق وسلوك فقهاء ودعاة الإسماعيلية، كرميهم بالزنا واستحلال المحرمات والشهوات.. إلخ؛ بينما العرفان الذي يدعو إليه الإسماعيليون بعيد عن هذا السلوك المادي؛ فهم قوم يهمهم سمو الروح والوجدان والاتصال العقلي مع الذات الإلهية، ولا يهتمون بالجسد الفاني مثلما يصفوه؛ فهم قوم أقرب للغنوصية والزهد والتقشّف؛ فكيف يُمجدون ويؤمنون بمتعة الأجساد؟
- الثالث: أن الإسماعيلية انتسبت إليها جماعات سياسية كثيرة “كالفاطمية والحشاشين والقرامطة والسامانية”، وتحوّل المذهب لسياسة يُسلّط الضوء على الأمراء والحكام والعساكر على أنهم ممثلون شرعيون؛ بل في الواقع هؤلاء ممثلون لمصالحهم ليس إلا، أما المذهب والفكر فيمثله عموم فقهائه ودعاته وفلاسفته والسلوك العام للمؤمنين به، والتاريخ الإسلامي لا ينقل هذا البُعد الثاني؛ بل ينقل الأول الخاص بالحكام والأمراء، مما يفسر بشاعة ما نسب للإسماعيلية من تعديات وأخطاء وجرائم.
ومن تلك الزاوية لا يمكن تكذيب ما نسب للإٍسماعيلية من جنون أحيانًا أو جرائم بالمطلق؛ فغاية ما هنالك أن خصومهم نقلوا سلوك قادتهم وأمرائهم على أنه التمثيل الصحيح للمذهب والصورة العامة للدين الذي يؤمن به الإسماعيلية بالعموم.
- الرابع: أن التقية كانت هي الغالب على سلوك الإسماعيلية قديما؛ فلم يكشف مثقفو هذا المذهب عن توجههم الحقيقي للعامة والسلطة مثلما يُعتقد، وحين كشف البعض عن أفكاره كتبوها بأسماء مستعارة خوفًا من القتل، مثلما حدث مع جماعة “إخوان الصفا”، وهي مجموعة من فلاسفة الإسماعيلية ظهروا في القرن 3 هـ للتوفيق بين الدين والعقل، وهو اتجاه أسس لاحقًا لتيار علم الكلام واللاهوت الإسلامي، ومن أعلن عن نفسه منهم كانوا أكثر حذرًا في أطروحاتهم الفلسفية حتى الذين ظهروا في كنف الدول الشيعية كالبويهية والفاطمية.
وخلاصة هذا الأمر أن معظم مآخذ خصوم الإسماعيلية عليها (رجل قش)، وهي مغالطة منطقية تعني صناعة صنم وهمي ورميه بالحجج والاتهامات المزيفة، والتي ليس لها وجود، ومن أمثلة ذلك ما جاء في موسوعة فتاوى الأزهر: “نشأت الإسماعيلية في بلاد الفرس وأسست دعوتهم على الإباحية المطلقة واستعجال اللذائذ والشهوات وتأويل التكاليف الشرعية، بما يفضى إلى إبطال الشرائع وعودة المجوسية إلى سيرتها الأولى ” (6/ 69).
وأترك الأديب الكبير “عباس العقاد” (1889- 1964م) ليرد على بعض التهم الموجهة للإسماعيليين في صورة دفاعه عن الفاطميين:
قال: “لم يقم الدليل على انتماء الباطنية الفاطمية أو الإسماعيلية إلى داعية من المجوس أو اليهود دبرها تدبيرًا ولفقها تلفيقًا لهدم الإسلام خاصة، وهدم الديانات عامة، وتلقين «الواصلين» دروس الكفر والتعطيل وإنكار البعث والحساب واستباحة المحرمات والمنكرات، كراهة للعرب ودولتهم، وانتقامًا منهم بالدسيسة، وقد عجزوا عن الانتقام منهم بالقهر والعدوان؛ فالتهمة ضعيفة؛ لأنها جاءت من مغرضين غرضهم معروف، وهي ضعيفة بعد هذا لأنها مضطربة متناقضة لا تثبت على زعم واحد، ولا تستقيم على وجهة واحدة؛ فأصل الدعوة تارة من المجوس وتارة من اليهود، ومرة يرجع أصلها إلى ديصان الذي ظهر قبل الإسلام، ومرة أخرى يرجع إلى ابن القداح الذي يتبين من شعره أنه مسلم، وأنه شك في الإمام جعفر بعد أن لاذ به وتتلمذ عليه؛ لأن أئمة الشيعة يُقتلون وينهزمون.
وربما تشيع للفاطميين أناس خبطوا في العقائد خبط عشواء، وجهروا بمذهب من مذاهب الفلسفة أو التصوف ينكره الإسلام الصحيح، ولكن التشيع من هذا القبيل قديم لم ينقطع قط من عهد الإمام عليه السلام إلى عهدنا الذي نحن فيه، ولم يكن هذا التشيع الممقوت حجة على الإمام علي ولا على أحد من بنيه الأبرار، الذين سمعوا به فأنكروه أو سكتوا عنه ولم يرتضوه” (فاطمة الزهراء والفاطميون صـ93،94).
فالتهم الموجهة لأصحاب هذا المذهب يغلب عليها الاندفاع والوهم نظرًا لغموضه وعدم تصريح أتباعه وعزلتهم بشكل كلي عن المجتمعين السني والشيعي، وسنبين بعضًا من طرق التفكير الإسماعيلية من أصحابها في السطور القادمة نقلاً عن أحد أكبر أئمتهم؛ وهو الأغا خان، وهو الإمام الحي الوارث لعلم وفضل الإمامة من ذرية آل البيت، وسنرى أن طرق تفكير هؤلاء ليست مادية أو ظاهرية، ويغلب عليها تقبيح الأجساد والشهوات، والنظر للحياة والدين من منطلق نفساني باطني يقولون إنه يهدف لإعادة رسم الواقع الحسي لينسجم مع تصورهم الأخلاقي والفني للكون.
"إن الإنسان عند الإسماعيلية هو النفس قبل الجسم، لأن نفسه ليست زمنًا طويلاً حتى عرفت وعقلت بالمعقولات، أي عرفت إمام عصرها وزمانها، ولما عرفته ارتقت إلى عالمها النوراني؛ عالم الملكوت الأعلى"
وفي هذا يقول “مصطفى غالب: “إن الإنسان عند الإسماعيلية هو النفس قبل الجسم، لأن نفسه ليست زمنًا طويلاً حتى عرفت وعقلت بالمعقولات، أي عرفت إمام عصرها وزمانها، ولما عرفته ارتقت إلى عالمها النوراني؛ عالم الملكوت الأعلى” (تاريخ الدعوة الإسماعيلية صـ 50). ومعنى هذا الكلام أن الإمامة عند الإسماعيلية ليست مجرد سلطة دنيوية فانية زمنية؛ بل هي سلطة دينية لديها خصائص الملكوت الأعلى، والتي لا يصل المسلم إلى عالم الله النوراني سوى عن طريقها، وإذا عدنا لحجج إثبات الإمامة عند الاثنا عشرية، نجدها نفس حجج الإمامة عند الإسماعيليين، يرجى العودة لدراستنا على مواطن بعنوان “أضواء على مذهب الإمامية الجعفرية“.
من ناحية أخرى فالإسماعيلية تتميز بأمر مُستحدث غير مسبوق بين كل مذاهب المسلمين، وهو أن البعض منهم ويسمى “بالأغاخانية” يتصلون بالإمامة الموروثة من أهل البيت الأوائل، ويمثلهم الأمير “كريم الحسيني” الشهير بالأغاخان الرابع المولود سنة 1936م، وهو الإمام رقم 49 بالوراثة من جدهم الأكبر رسول الله، ثم عليّ وفاطمة؛ فإذا كان الجعفرية يعتبرون باثني عشر إمامًا ثم الغيبة الكبرى؛ فالأغاخانية تؤمن باتصال الإمامة دون غيبة، وهو ما يُعطيهم لمحة واقعية تُضفي عليهم وجوب اتباع الإمام الحي المعصوم من ذرية آل البيت، وسُمّوا بالأغاخانية نسبة للزعيم الشيعي الإسماعيلي في القرن 19 “حسن علي شاه” (1800- 1881م)، الذي لُقّب بالأغاخان الأول، ويعني هذا اللقب “النبيل أو الملك أو السيد” باللغة الفارسية والتركية.
والأغاخان من طائفة الإسماعيلية النزارية التي انشقت عن المستعلية بعد وفاة الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” سنة 487 هـ، وشرح ذلك باختصار: أن الذي حدث بعد وفاة الإمام “جعفر الصادق” وتنازع ابناه على الإمامة (موسى وإسماعيل)، حدث أيضًا بعد وفاة المستنصر بالله؛ حيث تنازع ابناه على الإمامة (نزار والمستعلي)؛ فانحدر الحشاشون المعروفون بجماعة “حسن الصباح” من نسل نزار وسُموا (بالنزارية)، وانحدر البُهرة من نسل المستعلي وسُموا (بالمستعلية)، الذين انقسموا لاحقًا لفرقتين بنفس الطريقة؛ هما (الداودية والسليمانية)، وقد خرج من نسل نزار الإمام أغاخان الرابع ليحمل رقم الإمام 46، وفي ذلك تفاصيل كثيرة لا داعي لذكرها كي لا نبعد عن المقصود بشرح معالم المذهب وطريقة تفكيره، لا الاستغراق في نقل تاريخه.
والغالب على الإسماعيليين هم فرقة الأغاخانية من حيث الكثرة العددية ونفوذهم الدولي؛ فالإمام “كريم الحسيني” من أثرى أثرياء العالم، ولديه حضور واسع في المجتمع الدولي، مما أوجد ثقلاً كبيرًا للإسماعيلية وسط المجتمع الأوروبي بالخصوص؛ حيث إن الإمام الحُسيني يحمل جنسيات بريطانيا والبرتغال، وهذا الإمام الأغاخاني له حضور واسع أيضًا في مجتمع الاقتصاد ورجال الأعمال، ويُقدر عدد أتباعه حوالي 20 مليون إسماعيلي حول العالم وفقًا لمصادر الإسماعيلية نفسها، ويقدس أتباع هذا المذهب كافة أضرحة آل البيت في مصر والعراق، ويأتون إليها بالسياحة كل عام.
وطريقة تفكير الأغاخانية أكثر ليبرالية وحداثة بين عموم مذاهب المسلمين؛ فالإمام كريم الحسيني رقم 49 بين أئمة آل البيت يظهر بلباس أفرنجي أوروبي دائمًا، حليق الشارب واللحية، عليه سمات الرجل الأبيض من حيث الثقافة والسلوك؛ فالإسماعيلية هنا لا تؤمن برجل دين مقدس له ملابس معينة كسائر الطوائف، وإن كان البعض منهم له زيّ أبيض، لكنه ليس مقدسًا ولا يرمز لصحيح الدين؛ بل هو عادة اجتماعية مكتسبة مثلما درج عليه الدروز مثلا في الشام، ولا يؤمن الأغاخانية بفرضية الحجاب على النساء؛ بل يقولون وفقًا لفتوى إمامهم كريم الحسني أنه عادة موروثة من قبل الإسلام ولم يأت القرآن الكريم به، وكذلك فالحجاب آنذاك كان يرمز لاحترام المرأة وليس الخضوع للرجل، وهذا مختلف عن الصورة التي يجري تناولها الآن للحجاب على أنه أمر ديني تخضع به المرأة لتغطية شعرها كي لا تثير فتنة الرجل (المصدر : مقابلة المذيع الإيطالي “ماسيمو نافا” مع الأغاخان الرابع سنة 2001).
لا توجد مساجد عامة للإسماعيلية بل خاصة في المنازل
وفي مذكرات الأغاحان الثالث “سلطان محمد شاه” والد الإمام الحالي ذكر أن الإسماعيلية لا تؤمن بفرضية الحجاب، وأنه لا توجد امرأة إسماعيلية ترتدي غطاء الشعر، وكان الإمام الإسماعيلي يشجع ذلك في مدارس الفتيات، وأنهم يفتخرون بهذا الأمر لأسبقيتهم في إلغاء الحجاب الإجباري على المرأة على كافة مذاهب المسلمين الأخرى. (الفصل الثاني بعنوان دين أجدادي الصادر عام 1954).
ويبدو أن التأثير الأوروبي وخصوصًا الإنجليزي في مسيرة الأغاخانية أوجد عدم احترام لهم في أوساط الإمامية الشيعة وكذلك مجتمع السنة؛ فهم ينظرون للأغاخان الرابع كعميل للاستعمار وفقًا لعاملين اثنين: أولاً جنسيته البريطانية، ثانيا: لتاريخ آبائه وأجداده منذ حسن علي شاه “الأغاخان الأول” حتى “محمد شاه الحسيني” الأغاخان الثالث (1877- 1957م)؛ فالأول كان مدعومًا من بريطانيا لإقامة ثورة ضد خصومها في الهند، وهم الذين وصفوه بالأغاخان، والثالث الذي حكم الإمامة منذ عام 1885 حتى وفاته سنة 1957م، والذي كان مقيمًا بأوروبا كأول إمام إسماعيلي يهجر بلاد الشرق بالعموم ويقيم إقامة دائمة في الغرب ، حتى سار على دربه ولده “كريم” الأغاخان الرابع الحالي.
وطريقة التفكير الباطنية غلبت على الإٍسماعيليين فلم يقولوا بالجهاد أو الحج؛ فالأول قالوا إنه جهاد النفس على مبدأ تأويل ظاهر كافة آيات الحرب؛ أما الحج فهم يقولون بأن الكعبة هي كائن مادي عرضة للهدم والبناء طوال التاريخ، ويستندون في عدم تقديسها أنها لو كانت محببة عند الله ما أصبحت موقعًا لعبادة الأصنام قبل الإسلام، إنما غاية ما حدث للكعبة هو نظرة العرب لها لا غير، وتمتلئ مواقع الإسماعيلية بشرح باطني للحج، وأن طهارة آل البيت والسفر إليهم وطاعتهم هي الحج الحقيقي المأمور به المسلم في القرآن، وفي كتاب (المعبد والتأمل) لهنري كوربان أفاض في شرح هذا التصور فلسفيًا، والذي يمكن اختصاره في أن الكعبة هي بيت الله الظاهر، بينما بيت الله الباطن هو الإمام الإٍسماعيلي الذي يجب اتباعه؛ فالذي صنع الكعبة هو إبراهيم؛ فلو لم يتصورها في نفسه بشكل مكعب ما بناها بهذا الشكل؛ فالكعبة إذًا هي تعبير داخلي عن صورة الإنسان للكون ورؤيته للحياة والدين، بالتالي فالأصل في ذلك كله هو باطن الإنسان الذي يقوم عليه محور تدينه بشكل كلي.
في مقابل هذا التفسير المتساهل يظهر الإسماعيليون أكثر تشدًدا في تحريم الخمور؛ فبرغم حداثتهم وليبراليتهم لكنهم على خلاف مع السنة والشيعة الذين تباينت مواقفهم تجاه الخمر وتفاصيلها والمقصود منها، لكن الإسماعيلية حرّموا أي خمر بالعموم قَلّ منه أو كَثُر، والمأثور عند الإسماعيلية قول للأغاخان الثالث محمد شاه لمسلمي جنوب أفريقيا سنة 1954 “أكبر خطر يهدد كل مسلم هو الكحول”، و “المؤمن لا يشرب الخمر، ومن يشربه سيعاني في الدنيا والآخرة”، وفي باكستان عام 1951 قال بأن الشيطان يأمرك بشرب الخمر والتدخين. وبنفس هذا الموقف المتشدد يحرم الإسماعيليون لحم الخنزير (كتاب: مقدمة إلى العقائد الكونية الإسلامية- سيد حسين نصر صـ 69، 70).
ويمكن تفسير هذه المفارقة بفهم الفارق بين العبادة العلمية والعملية في هذا المذهب؛ فالعبادة لديهم ليست واحدة، لأن العلمية تعني كمال العلم في الباطن، وهي عبادة لا يملكها عوام الإسماعيلية بل خواصهم، وبالذات الإمام الأغاخاني الرابع أو إمام البهرة، أما العبادة العملية فهي السلوك الظاهري للمؤمنين. ولما استقر في الباطن بأن طقوس الحج المعروفة تجرح خصوصية الإمام وتميزه المطلق نظرًا لسيطرة السنة والشيعة على هذه الطقوس، فبدا أنه ليس من الضروري حمل الإسماعيليين على الحج، وتفسير هذا الطقس لديهم على نحو باطني بأدوات التأويل، وبرغم ما يشوب هذا التفسير من مطاعن بوصفي مُغرضا لست إسماعيليًا، لكن المُلاحظ أن هذا الموقف الإسماعيلي نحو الحج مكرر بشكل واضح في كافة الطقوس الجماعية أشهرها الصلاة..
فلا توجد مساجد عامة للإسماعيلية بل خاصة في المنازل، وإذا اجتمعوا في مناسبات عامة؛ فلهذا المناسبة موقع خاص في الفكر الإسماعيلي لتعلقها بالبيعة بين الإمام والمُريد، يقول الباحث “كريم جيواني” في (فضاءات التقوى والعبادة عند المسلمين، المنشور في موقع معهد الدراسات الإسماعيلية https://www.iis.ac.uk/): “أن عادة الاجتماع في جلسات مغلقة في أماكن مخصصة بشكل خاص، للتعرف على وممارسة تفسيراتهم الخاصة للإيمان، كانت جزءً من التقليد الإسماعيلي منذ عصور ما قبل الفاطمية، وخلال الفترة الفاطمية، كان الإسماعيليون يشاركون في مجالس الحكمة، والتي كانت متاحة فقط لأولئك الذين بايعوا إمام الزمان”.
فالصلاة لا تصلح بإمامة غير الإسماعيلي، وهذا الذي أقصده بأن اجتماع عوام المذهب في طقس جماعي يجرح خصوصية الإمام ويهدد بيعته من المُريد، ولأن كمال النفس البشرية لا يحصل سوى بالشريعة التي تجتمع فيها أسس العبادتين الظاهرة للعوام والباطنة للإمام، وينقل مصطفى غالب في كتابه “تاريخ الدعوة الإسماعيلية” قول أئمتهم بأن الأنبياء أخذوا التأييد السماوي والاصطفاء بالروحانية غير المُشخصة، ويعني ذلك أن اتصال السماء بالنبي عن طريق الوحي له حدود روحية نفسية، وليست مادية ظاهرية، وإلا انتفى منها معنى الامتحان؛ فلو رأى العالم كله وحي السماء لأصبح حجة ظاهرة تفسد معنى الوعد والوعيد القرآني، لذلك قالوا بخمسة وسائل وأدوات ومراتب نزل عليها الوحي، وهي (العقل والنفس والجد والفتح والخيال)؛ فبالعقل أرسل الله الدين، وبالنفس تحقق الاتصال الروحي بين الله والبشر، وبالجد يعني صدق الوعيد والوعيد الإلهي، وبالفتح يحصل الامتحان بغياب الحجج الباطنة العلمية، وبالخيال يسلك الأنبياء دعوتهم بين البشر..
وإلى هنا يظهر ملمح الإسماعيلية العام وجوهر سلوك أتباعها وهو (العقل)، الذي عن طريقه سلكوا أدوات التأويل ونظروا للعالم برؤية مختلفة باطنية، اشتهرت عنهم بالغنوصية، وكثيرًا ما يردد الإسماعيليون أن مذهبهم غنوصي مثلما طرح الباحث محمد علي أمير معزي في كتابه “روحانية الإسلام الشيعي صـ 270″، أن الإسماعيلية تعتمد 3 طبقات في الدين:
الأولى وهي الشريعة التي يعرفها الناس بالنصوص الظاهرية، والثانية الطريق التي يعرفها الأئمة بالمعنى الباطني، والثالثة الحقيقة العليا التي يعرفها الإمام المطلق، وهي التي تتفرع منها نصوص الظاهر الشرعية والطريق الباطنية، ثم يُترجمون هذا الثلاثي (بالخضوع والإيمان والإحسان)؛ فالعوام خاضعون للشريعة بمطلق الظاهر، والأئمة يؤمنون بالباطن، والإمام يهيمن على هؤلاء جميعًا بالإحسان والمحبة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.