لا شك أن العالم قد تغير بعد الطفرة التكنولوجية الهائلة، التي صاحبت بدايات القرن الحالي، وتحديدًا طفرة وسائل التواصل الاجتماعي، تغيير طال المجتمعات في مناحٍ شتى؛ من بينها قضايا المرأة التي باتت تملك منصات رقمية، كتويتر وفيسبوك، لم تحظ بها نساء الأجيال السابقة. لم تعد تلك الجرائم والحوادث التي راح ضحيتها امرأة، كقتل إحداهنّ أو تعنيفها، تمر دون ضجة، وصارت المطالبة بالعدالة تأخذ شكلاً جديدًا، وتحظى بدعم أكبر نتيجة سهولة وصول هذه القضايا للعامة، ثم إلى صناع القرار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
استغلت المرأة تلك التكنولوجيات وما تتيحه من “سهولة الوصول-Easy Access ” استغلالاً جيدًا؛ فنجد مثلا فتاة مصرية بسيطة تعرّضت للاستغلال من قبل أعمامها بعد وفاة أبيها، ورغبتهم غير المسؤولة في بيع البيت الذي لا تملك الفتاة وأختها غيره، بحجة تقسيم ميراث الأب المتوفى، نجد تلك الفتاة تكتب منشورًا قصيرًا على فيسبوك تتحدث فيه عمّا تتعرض له من استغلال وتهديد بحياة التشرد بعد بيع البيت، وتقسيم قيمته على حصص الورثة من الأعمام والبنات، ليفتح منشورها القصير قضية رأي عام، وبابا للنقاش المجتمعي حول أحقية الأعمام في ميراث الأخ المتوفى؛ في حال عدم وجود ابن ذكر (حاجب للميراث) له، لنجد لتلك التكنولوجيا جانبًا إيجابيًا ساهم -ولا زال- في إنصاف المرأة مجتمعيًا وقانونيًا.
من إيجابيات هذه الطفرة أيضًا أنها تغير المجتمع بشكل تدريجي، وتهيئه للقبول بوظائف جديدة للمرأة لم تكن مقبولة على صعيد مجتمعي، وأهمها الوظائف التي تحتاج ظهورًا أمام الناس، كالوظائف التلفزيونية والفنية المختلفة؛ في التسعينات مثلاً -وهي فترة مراهقتي-، الكثير من الفتيات كن يحلمن بالعمل الإعلامي، لكنه كان أشبه بسابع المستحيلات؛ فالخروج على التلفزيونات لم يكن أمرًا محببًا أو مقبولاً عند الأغلبية، حتى العوائل غير المتشددة لم تتقبل الفكرة حينها . المجتمع لا يحب الفتاة التي تظهر على العامة، وحتى عندما بدأت مواقع التواصل في الانتشار، تردد الكثير من الفتيات بفتح حسابات في البداية، وأذكر أن قلة من الفتيات كنّ يضعن صورهن الشخصية على حساباتهنّ.
المجتمع لا يحب الفتاة التي تظهر على العامة، وحتى عندما بدأت مواقع التواصل في الانتشار، تردد الكثير من الفتيات بفتح حسابات في البداية، وأذكر أن قلة من الفتيات كنّ يضعن صورهن الشخصية على حساباتهنّ.
الأمر اختلف تدريجيًا إلى أن أن انقلب بشكل كامل في السنوات الأخيرة ، طوفان السوشال ميديا لم يبق ولم يذر، وتحول المجتمع خلال عشرين عامًا من مجتمع يفضل أن تبقى الفتاة مجهولة، إلى مجتمع يتقبل مشاركة الفتيات في المجال العام، الذي كان سابقًا حكرًا على الرجال؛ فتجد كثيرًا من الفتيات يظهرن في فيديوهات تسويقية لأعمالهن الخاصة ومهاراتهنّ.
تثبت لنا ثورة وسائل التواصل أن ما يعرف بالممنوع والمسموح لا يخضع لقوانين أو مسلمات؛ بل يتبع رأي الأغلبية، وأن التصرف الذي كان يعرف بالخطأ بالنسبة للفتاة؛ قد يصبح صحيحًا إذا مارسته جارتها وصديقتها وابنة عمتها وخالتها. الخطأ لم يكن خطأ إلا لقلة ممارسته.
لكن هذا التفاعل الكبير له وجهان؛ فمن الفتيات من استغلت تلك الحرية في الظهور استغلالاً جيدًا؛ فاستعملتها للتمكين الاقتصادي، وأخص بالذكر من تمتلك مهارة معينة واستخدمت ثورة التواصل في التسويق؛ فتلك المنصات فتحت أبواب الرزق للكثير من الإناث، وبعضهن استطعن أن يصنعن اسمًا لهن في العالم العربي في مجال صناعة الطعام والتجميل والصحة غيرها..
لكن في المقابل هناك من جعلت حياتها الخاصة مادة تسويقية؛ فتارة تبهر الناس برفاهية حياتها ومشترياتها باهظة الثمن، وأخرى تُشرك “جمهورها” في لقائها وتعرّفها على شاب جديد، تضع متابعيها موضع المشاهد لكل تفاصيل حياتها؛ فيصبح كل تصرف أو حركة تقوم بها محسوبًا لجلب التفاعل الذي يترجم لأموال، حتى مشكلاتها اليومية وما تتعرض له صدقًا أو زيفًا. هذا الخلط بين العام والخاص أدى لنتائج سيئة، قلّ تفاعل المجتمع مع قضايا الظلم والعنف الذي تتعرض له النساء في مجتمعاتنا، تلك القضايا الأولى بالاهتمام وتسليط الضوء.
لا يمكن أن ننسى تأثير السوشيال ميديا في تحويل اتجاه المرأة نحو الجمال والرفاهية كهدف أساسي من خلال آلاف الفيديوهات التي تسوق لعمليات التجميل، مما زاد عدم رضا النساء عن أشكالهن وحياتهن الخالية من الرفاهية.
في رأيي أن أكبر مسيء للمرأة هي المرأة التي تستخدم حياتها الخاصة لتحقيق الشهرة وجلب التفاعل؛ تلك التي تجعل من أي حدث في حياتها مادة للتكسب المادي عبر “الريتشreach-“؛ فتلك المرأة تسيء لغيرها ممن يستخدمن هذا الفضاء الإلكتروني كأمل أخير للخروج من علاقة معنفة، أو تبيان ظلم القوانين والمجتمع، لأنها تجعل الجمهور يشكك في مصداقية تلك المرأة المعنّفة والمظلومة ويخلط بينها وبين راغبة الشهرة.
كما ساهمت تلك الطفرة في وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا في ظهور غير المتخصصين وتسيّدهم للفضاء العام، وإعطاء معلومات مغلوطة في علم النفس والطب والتربية وسحب البساط من أولي الخبرة والعلم؛ فأصبح عدد المتابعين أهم من اختصاص المؤثر وشهاداته، وبدلاً من نشر العلم والمعرفة اختلط العلم بالجهل، وأصبح من الصعب فرز الغث من السمين، ولا يمكن أن ننسى تأثير السوشيال ميديا في تحويل اتجاه المرأة نحو الجمال والرفاهية كهدف أساسي من خلال آلاف الفيديوهات التي تسوق لعمليات التجميل، مما زاد عدم رضا النساء عن أشكالهن وحياتهن الخالية من الرفاهية.
وهناك دور آخر سلبي لثورة السوشيال ميديا لا يمكن أن نغفله، هذه الثورة في التواصل جذّرت سطحية المجتمع وربطت النجاح بالشهرة؛ فأصبحنا نرى احتفالاً مقامًا من قبل أقارب “مشهور-influencer”، لأن ابنهم حصل على العلامة الزرقاء في تطبيق سناب شات، ولا يمكن أن نلوم أهل الشاب إذا كان المسؤولون أنفسهم يدعون من يسمون بالمؤثرين – influencers على موائدهم الرسمية في اعتراف رسمي بأن المؤثر هو فقط “المشهور” في هذا الفضاء الافتراضي، ولو كسب شهرته من التنطط أمام الكاميرا أو السخرية من أبيه أو أمه.
لوثة الشهرة جعلت المرأة “المؤثرة” تحاول إرضاء المجتمع بأي شكل؛ فابتعدت عن قضايا المرأة المهمة التي قد تجلب لها وجع الرأس؛ فهي تنشر ما يحب أغلب الجمهور سماعه، وتبتعد عن القضايا الحساسة، أما النساء الراغبات بالشهرة السريعة فوجد بعضهن ضالتها في ركوب موجة النسوية لتخلق تفاعلاً يشهرها وهي لا تعرف شيئًا عن النسوية ، وبعضهن الآخر ركبت موجة الذكورية لتكسب المجتمع الذكوري، وقد تجد البعض يتأرجح بين النقيض والنقيض في سطحية واضحة لكسب أي تفاعل، حتى لو كان سخطًا أو شتائم من باب “الدعاية السيئة ..دعاية”، وفي كل هذه الفوضى تخسر المرأة المظلومة التي تجد صوتها يخفت أمام كل هذه الأصوات العالية.
لا شك أن وسائل التواصل كان لها آثار إيجابية بخلق قبول اجتماعي جديد؛ خصوصا فيما يتعلق بالمرأة، لكن حتى نستثمر هذا القبول يجب علينا تشجيع الحسابات الحقوقية الجادة، والوقوف مع الحالات التي تثبت صحتها، والتصدي لخطابات الكراهية التي تجد هي الأخرى في هذا الفضاء آذانًا صاغية، والأهم أن نشجع المرأة عن البحث عن القيمة في المحتوى الذي تقدمه؛ ليس فقط من أجل المتلقي؛ بل من أجلها هي نفسها؛ فالتمكين الاقتصادي لا يبنى على دعامات قوية إذا كان يعتمد على عرض الحياة الخاصة التي قد يفقد الناس الاهتمام بها في لحظة؛ خصوصًا إذا كان الأمر برمته في أيدي منصات افتراضية قد تغير سياستها في لحظة فتحجب الجمهور لاعتبارات الربح والخسارة .
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.