الإمامة استكمال للنبوّة، تحمل كل خواصها بما فيها الاتصال بالغيب والقدرة على إدارة الكون، وهي إذ تملك نظريًّا هذا الوعد، أو الوصية؛ فإن عليها أن تقاتل في سبيل نيل الاستحقاق؛ فلا إمامة بلا سيف.
يروي الطبري في تاريخه، والأصفهاني في مقاتل الطالبيين، أن زيد بن علي حين رأى راية جيشه خافقة فوق رأسه قال: الحمد لله الذي أكمل لي ديني.
يكتمل دين الرجل من بني هاشم بوصوله إلى السلطة، أو امتلاكه القوة الضامنة للهيمنة. ويكتمل إسلام الفرد العادي حين يحكمه الرجال من بني هاشم، والمهمة الأساسية للكائن البشري، -كما في التصور الإمامي- هي أن يحمل الهاشميين على كتفيه حتى يضعهم على عروش الدنيا.
ينشر حكام اليمن من آل البيت صورًا لحلفائهم من رجال القبائل تحت شعار “نصير آل محمد”، وآل محمد هم أنصار الله. لا يستطيع البشري العادي أن يجد الله بمفرده، وأن يكون نصيرًا لله على نحو مباشر؛ فهنالك من يحتكر كلمة السر.
الانتخابات الرئاسية الإيرانية تعيد تذكيرنا بهذه الحقيقة الإمامية: يتنافس المرشّحون على تقديم أفضل نماذج الطاعة للإمام، يتحرك الرئيس تحت ظل الإمام، أو زيد الأزياد. وتغدو الديموقراطية مجرد لعبة يتلهى بها الخدم والحراس.
فالإمامة تدّعي حقًا مزدوجًا: الإمام هو الوحيد القادر على تفسير مُراد الله، والوحيد القادر على إدراك مُراد البشر؛ هو الكتاب وهو القائد، كما في الاستخدام القرآني المتكرر لمفردة الإمام: قال إني جاعلك للناس إمامًا [البقرة]، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [يس].
ولأن الإمام هو الكتاب، وهو كلّي المعرفة والقدرة؛ فإن كل الحياة، من الخيال إلى حراثة الأرض، لا بد أن تجري تحت ظلّه. في الأيام الماضية ألقى الفيشي، وهو الرجل الأبرز في جماعة الحوثي، خطابًا إلى أتباع الجماعة، قال لهم إن الديموقراطية ممكنة، شريطة أن يكون القائد أعلى منها.
الانتخابات الرئاسية الإيرانية تعيد تذكيرنا بهذه الحقيقة الإمامية: يتنافس المرشّحون على تقديم أفضل نماذج الطاعة للإمام، يتحرك الرئيس تحت ظل الإمام، أو زيد الأزياد. وتغدو الديموقراطية مجرد لعبة يتلهى بها الخدم والحرّاس.
في “أوائل المقالات” يحدد الشيخ المفيد، المؤسس الحقيقي للإمامية، وظيفة الإمام: “الأئمة قائمون مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام”؛ أي ممارسة السلطة المطلقة.
ولأن الإمامة مقابل موضوعي للتاريخ؛ فهي شلال ينزل مع الزمن، وعند كل فاصلة زمنية هناك دائمًا إمام، تقع على عاتقه مهمة استرداد السلطة السياسية وحكم الناس.
لا يتساوى الإمامي مع غيره في الحقوق، ولا يمكن أن يقف على الدرجة ذاتها التي يقف عليها الفرد العادي. يصعب تخيّل رجل من بني هاشم يقبل منازلة سياسية مفتوحة؛ أن يذهب إلى جمهور الناخبين ليلتمس منهم المشروعية السياسية.
تتحدث الإمامة عن رجل من آل البيت يخرجه الله من مكمنه كل مائة سنة لإعادة الاعتبار للحق والخير في العالم، لا تتأتى مهمّة كهذه دون نزاع مسلّح.
فقد استطاع الأصفهاني في “مقاتل الطالبيين” أن يتتبع سيرة خمسمائة فرد من بني هاشم على مدى أكثر من ثلاثة قرون، انتهوا جميعًا قتلى في صراع من أجل السلطان.
يتخيّل الكليني كما في الكافي، مكانة الإمام على نحو أكثر وضوحًا: “إن كانت كلما نزلت آية على رجل فمات الرجل ماتت الآية، ومات الكتاب، ولكنه حيّ يجري فيمن بقي”. من بقي، أو بقيّة الله كما هو التعبير الإمامي الأثير، هو الإمام.
الإمام عند الكليني يصعد إلى درجة أعلى من القائد، يصبح هو الكتاب. كان جعفر الصادق يردد: “لو علم الله لنا اسمًا أفضل من الإمام لمنحنا إياه”.
الإمام، أي القائد والكتاب، هو العتبة الأرفع للاجتماع البشري؛ فزيد بن علي كان يحمل اسمًا من أسماء البشر العاديين، غير أن بلوغه درجة الإمام استدعى تعديل الاسم إلى زيد الأزياد.
لا يتساوى الإمامي مع غيره في الحقوق، ولا يمكن أن يقف على الدرجة ذاتها التي يقف عليها الفرد العادي. يصعب تخيّل رجل من بني هاشم يقبل منازلة سياسية مفتوحة؛ أن يذهب إلى جمهور الناخبين ليلتمس منهم المشروعية السياسية.
السياسة تدبير إلهي، هذا التدبير حُسم سلفًا؛ فهناك حديث الغدير وحديث الكساء وسواهما. تلك النصوص التي اخترعتها السلالة حسمت الموقف من السياسة مبكّرًا، داخل هذا اللوغاريتم يُنظر إلى السلطان غير الهاشمي بوصفه مغتصبًا للحكم تجب مواجهته، وإلى الفرد العادي الرافض أو المتسائل بحسبانه منافقًا يستحق أسوأ العذاب.
تتفوق إيران على سائر دول العالم في حكم الإعدام كمًّا ونوعًا، وحقق الحوثيون سجلًا غير مسبوق في تاريخ الصراع داخل الدولة المسلمة؛ ففي مارس 2017، أطلقوا أربعة صواريخ على جامع في مأرب وقتلوا 31 جنديًّا كانوا يؤدون الصلاة.
أعادوا الفعل نفسه في العام 2021، حين أطلقوا زخات من الصواريخ على جامع للسلفيين في مأرب ما أدى إلى مقتل 39 شخصًا كانوا هناك للصلاة. تقتبس الإمامية وحشيتها من النظرية نفسها؛ فالكتب التي في حوزتها تحضّ على البدار إلى السيف.
وتعتقد الزيدية أن الإمام لا تكتمل إمامته سوى بتمكّنه من الفقه والسيف، وأن يكون قادرًا على الرجوع إليهما بالخفّة ذاتها والمهارة ذاتها.
لا تتسع الحياة داخل المجتمع الإمامي لحرية التعبير ولا للتنوّع، توجه كل طاقة المجتمع لصالح منظومة التحكم، وتصير السياسة إلى عملية دعائية مهمتها تعزيز فلسفة الحكم.
الإبداع بكل تنويعاته يُدفع ليكون فنًّا إماميًّا؛ فقد اقتلع الحوثيون النصوص الشعرية والسردية من كتب المدرسة، وصنعوا مناهج تعليمية تمجد الإمام شعرًا ونثرًا. وفي العراق يبدأ التاريخ من كربلاء، لا من ملحمة غلغاميش.
تختطف الإمامية المجتمعات وتعيد صناعتها بعناية ودأب. يجري التلاعب بمشاعر وخيال الجماعة البشرية من خلال فيض مستمر من الأساطير والآثار والملاحم، ينتج عن تلك الهندسة قطاعات بشرية معدّلة ذهنيًا، على أهبة الاستعداد لمواجهة أي خطاب يمجّد الحريّة والتنوع الخلاق.
هي في آخر الأمر، واحدة من التحديات المركبة التي تواجه الحرية والديموقراطية في العالم؛ فالسلطة الإمامية ليست مبطّنة بالديموقراطية، كما هو الحال مع الديكتاتور الفرد الذي قد يفضي رحيله إلى بروز للديموقراطية. وإذا ضربت أوتادها على الأرض فإنها تحتمي بكل ما يصعب زعزعته: الإله، النبي، الكتاب، التاريخ، والأساطير.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.