“تحدث تغيرات المناخ مع اختلال في توزيعات الغذاء الطبيعي في البحر الأحمر؛ ما يؤثر على توزيع الأحياء المائية وقلة المعروض من الأسماك، ما دفع المملكة العربية السعودية إلى إنشاء نظم إيكولوجية لتوليد الهيدروجين الأخضر، والاعتماد على الطاقة المتجددة، مع إنشاء العديد من المشروعات السمكية، التي تساعد في توازن الإمداد من المنتجات السمكية”.
هكذا بدأ د. عبد الرحمن خطابي، المشرف التنفيذي على أبحاث تطوير الاستزراع السمكي للمياه الداخلية؛ في مركز “المبدعون” للأبحاث، بجامعة الملك عبدالعزيز، حديثه لمواطن. إلا أن هذه المشروعات الجديدة لمجابهة تغييرات المناخ واختلال التوازن البيئي وآثار الزيادة السكانية، أصبحت نفسها تعاني من التغييرات المناخية
يمثل استزراع السمك في السعودية ثقافة اقتصادية حديثة، إلا أن المملكة تعمل على تشجيع الاستثمار في هذا الاقتصاد، ليصبح بديلًا غذائيًا يقلل استهلاك اللحوم الحمراء عالية التكاليف، وبسبب تقلبات الطقس والأجواء في المملكة بمعظم المناطق، يتم عمل المزارع السمكية وإنشاء الأحواض غالبًا داخل بيوت محمية وهناجر مجهزة، لكن ثمة محاذير قد تقلل من مستقبل هذا الاقتصاد إذا ضربت يد التغير المناخي ضربتها.
والاستزراع السمكي، هو إنتاج صغار الأسماك بأنواعها المختلفة، وتربيتها ورعايتها تحت ظروف معينة تختلف حسب نوع الأسماك، ومن ثم الوصول بها للأوزان التسويقية لتصبح أسماك مائدة يتم طرحها بالأسواق للاستهلاك الآدمي.
يلعب هذا الاستثمار دورًا في حماية الأمن الغذائي بتوفير الموارد الغذائية البحرية، والتنمية المستدامة التي تتبناها المملكة، كما يحد من هجرة السكان إلى المدن الكبرى داخل المملكة، عن طريق تعزيز التنمية في المناطق الريفية الساحلية.
ويعد من بين القطاعات الاقتصادية الواعدة، بدرجة نمو تصل إلى 6% سنويًا، ما يجعله الأسرع نموًا بين القطاعات الغذائية الأخرى، كما يساهم في توفير فرص عمل جديدة عن طريق مشاريع الاستزراع المائي والمنتجات السمكية، ومشاريع تصنيع الأعلاف السمكية.
بالإضافة إلى دوره في استغلال المساحات المائية والأرضية غير المستغلة وغير القابلة للزراعة، كذلك يستهلك الاستزراع السمكي طاقة ومساحة أقل، مقارنة بمشروعات تربية تربية الحيوانات والمحاصيل الزراعية.
وعرفت المملكة الاستزراع السمكي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وبدأت مشاريعها باستزراع أسماك البلطي في المياه العذبة، ومن ثم تم التوجه إلى الاستزراع البحري، وطوال سنوات عديدة ظل الإنتاج السعودي في عمليات الاستزراع يرتكز على البلطي والربيان “الجمبري”، ثم تطورت الأنواع داخل المزارع السمكية التي شملت السبيطي، والكوفر الأوروبي، والهامور والبرمندي، وغيرهم.
تحتل المملكة المرتبة الأولى في مجال الاستزراع السمكي على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وتمثل نسبة الإنتاج 92% من إجمالي ما تنتجه دول المجلس، وفقًا لما ذكرته لجنة التعاون الزراعي في تقرير الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي في اجتماعها رقم 30 لعام 2020، بحسب الدليل الاسترشادي للاستزراع السمكي في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لعام 2021.
وصل إنتاج الاستزراع السمكي من 32 ألف طن في 2016م، إلى 119 ألف طن حتى نهاية 2022م، كما كشفت وزارة البيئة والمياه والزراعة عن تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 59% من الثروة السمكية.
وحسبما جاء في الدليل الاسترشادي للاستزراع السمكي في دول مجلس التعاون الخليجي، قطاع الشؤون الاقتصادية، إدارة الزراعة والأغذية؛ فإن مشاريع الاستزراع السمكي في المملكة تعتبر ركيزة أساسية في البرنامج الوطني لتطوير قطاع الثروة السمكية في السعودية وفق استراتيجية 2030، والتي تستهدف إنتاج 600 ألف طن سنويًا من منتجات الأحياء المائية المستزرعة، حتى تتمكن المملكة من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الإنتاج السمكي وتصدير الفائض.
لكن يبقى السؤال في ظل أجواء التغير المناخي المتقلبة المزاج؛ كيف تتمكن المملكة من تنفيذ استراتيجية الاستزراع المائي؟
أثر التغير المناخي على الاستزراع السمكي في السعودية
يقول لمواطن أحمد نور الدين، أستاذ الأحياء المائية ورئيس وحدة الطب الوقائي والعلاجية للأسماك، وعضو اللجنة العليا بالاتحاد العربي لحماية الحياة البرية والبحرية بجامعة الدول العربية: “عملت السعودية منذ أكثر من 35 عامًا على توفير الإنتاج السمكي لإتاحة ما يصل إلى 40 ألف وظيفة لخدمة المواطنين السعوديين الراغبين في الالتحاق بمهن العمل؛ خاصة قاطني الأحياء الصحراوية والبدوية”.
يتماشى حديث “نور الدين” مع الرؤية الاقتصادية التي تتبناها المملكة في إيجاد بدائل اقتصادية بعيدًا عن النفط، لكن يد التغير المناخي تنال من كل شيء حولنا، وتؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على مشاريع الاستزراع السمكي في السعودية.
ويشرح “نور الدين” أثرها على مشروعات الاستزراع السمكي، بداية من ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء، والذي يؤدي بدوره إلى حموضة المياه التي تحول بين الأسماك وعمليات التكاثر، بالإضافة إلى تأثيرها على نمو الأسماك، ويعود ذلك إلى ذوبان المحيطات، مشيرًا إلى موسمية العمليات البيولوجية الحيوية، التي تظهر عليها أعراض التغير المناخي في تغير واضح على شكل السلاسل الغذائية للأسماك، ما يؤثر بدوره على الإنتاج السمكي
ويضيف: “التغير المناخي يتسبب في حموضة المياه، والتي تحدث بدورها عند ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون، كذلك ارتفاع درجة حرارة المياه داخل أحواض المزارع السمكية الذي قد يعرض الأسماك إلى الموت”، وهو ما تعاني منه المملكة بسبب موجات الاحترار.
فهل يمكن للمملكة أن تطبق حلولاً من شأنها حماية المزارع السمكية من مخاطر التغير المناخي المحتملة؟ وهل تنجح في إنتاج سلالات من الأسماك، قادرة على تحمل درجة الحرارة العالية والملوحة الزائدة؟
وتتأثر بعض الأسماء وعلى رأسها البلطي، السمكة الأكثر انتشارًا في المملكة بالتغير المناخي؛ فهذا النوع من الأسماك لا يعيش إلا 8 درجات مئوية، بينما يتعرض الجهاز المناعي للهلاك، وإذا تعرض لدرجة حرارة أعلى من 35 درجة مئوية فماذا يمكن أن يحدث له!
يتحدث أستاذ الأحياء المائية، حول ما يمكن أن تحدثه موجات الاحترار، داخل الأحواض السمكية؛ إذ إن ارتفاع درجة الحرارة الزائدة يعمل على تنشيط الميكروبات بداخلها، ما يترتب عليها إصابة الأسماك بالأمراض ونمو الطحالب الضارة.
كما يتسبب التغير المناخي في تغير أوقات التكاثر عند الأسماك وزيادة المخلفات العضوية لها، وكذلك ارتفاع حجم استهلاك الغذاء للأسماك، وكل ذلك يعود إلى ارتفاع نسبة الملوحة في المياه، الذي نتج عن حجم التبخر الزائد، وأيضًا حدوث إجهاد حراري للأسماك، ما يعطي الفرصة أمام انتشار الأمراض، ونمو النباتات الهائمة.
ويضيف د. عبد الرحمن خطابي “أي تغيير في درجات حرارة المياه يؤثر بالتبعية على غذاء الأسماك وسرعة تحرك الغذاء داخل جسمها، وامتصاص الغذاء والنمو، ولذلك يجب ضبط درجات حرارة المياه داخل مزارع الأسماك لتناسب النوع المطلوب زراعته”.
ويكمل بأن “أي تغير مناخي قد يحدث يؤثر بالتبعية على نمو الأسماك المستزرعة، وبالتالي عدم نموها بشكل قياسي واقتصادي، كذلك فإن التغير المناخى قد يتسبب في اختفاء بعض الأنواع واستجلاب أنواع أخرى”.
كيف يمكن مواجهة مخاطر التغير المناخي على المزارع السمكية؟
يقترح أستاذ الأحياء المائية أحمد نور الدين، مجموعة من العوامل التي تساهم في مواجهة التغيرات المناخية وتأثيرها على مستقبل الاستزراع السمكي في المملكة، ذكر منها ضرورة عمل محطات رصد للتغيرات المناخية في أماكن الاستزراع السمكي بالسعودية.
بالإضافة إلى العمل على تدعيم المربين بالتقارير الدورية عن حالة المناخ وتقديم النصائح الإرشادية لهم، ليكونوا قادرين على تأهيل أنفسهم في أماكن الاستزراع السمكي، ومحاولة الاستفادة من التغيرات المناخية لعمل زراعات تكاملية تساعد في تقليل الانبعاثات الكربونية وخاصة في الأماكن الصحراوية.
وينصح بـ “ضرورة عمل مزارع طحالب بحرية ومياه عذبة، يتم استخدامها في تقليل الانبعاث الكربوني وإنتاج الطحالب البحرية لتغذية الحيوانات والدواجن والأسماك، وبالتالي تشارك في تقليل أزمة الأعلاف ومنها أعلاف الأسماك”.
يمكن مواجهة عوامل التغير المناخي وأثره السلبي على الثروة السمكية، من خلال الاهتمام بأمراض الأسماك وجلب الخبراء؛ حيث إن الأمراض تأكل الأخضر واليابس من الإنتاج السمكي، ومن الضروري الاتجاه نحو تغيير ثقافة الاستزراع السمكي التقليدية المعروفة، والبدء في اتباع سياسة التأقلم مع الظروف المناخية التي يجلبها التغير المناخي؛ مثل زيادة ملوحة المياه والاستفادة من ذلك عن طريق استزراع أسماك تتحمل الملوحة، ومنها “البلطي الأحمر”.
وصرح علي الشيخي، الرئيس التنفيذي للبرنامج الوطني لتطوير قطاع الثروة السمكية بالسعودية، في تقرير منشور على”الشرق” بأن “انخفاض كفاءة الأعلاف يُسبب ارتفاع التكاليف التشغيلية التي تشكل 60% من تكلفة الإنتاج، وتزيد 3 أضعاف عن أفضل الممارسات العالمية في هذا المجال”، هو إحدى التحديات التي تواجهها المملكة في قطاع الاستزراع السمكي.
موضحًا أن هدف المملكة الوصول لمرحلة الاكتفاء الذاتي، من أجل تنويع مصادر الدخل وفرص الاستثمار وتوفير فرص عمل، إلى أن هناك تحديات أخرى مثل قلة الطلب على الإنتاج المحلي وضعف استهلاك الأسماك بين السعوديين، وبالرغم من هذه التحديات يشهد السوق المحلي ارتفاعًا في إنتاج الأسماك.
ويلفت خطابي إلى أن أثر تغييرات المناخ يمتد إلى أعلاف الأسماك، ويوضح بإنه “يجب بناء مخازن الأعلاف من مواد جيدة، تساعد على زيادة التهوية وعدم انتقال حرارة الشمس بالداخل، مع تقليل الرطوبة داخل المخزن ووضع الأعلاف بطريقة يسهل الحصول عليها، وتكون غير مكدسة داخل مخزن الأعلاف”.
ويؤكد عبدالحي محمد شبانة، رئيس الشركة الهندسية لنظم الاستزراع السمكي بمنطقة الرياض بالسعودية على دور عملية التهوية ووفرة الأكسحين في وحدات الاستزارع السمكي: “عملية التهوية أساسية في حالة انخفاض الأكسجين عن الحد المسموح؛ حيث إن نقصه يشكل ضررًا كبيرًا على حياة الكائنات المائية؛ الأمر الذي يؤدي إلى نقص النمو أحيانا، كذلك قد ينتج عنه زيادة الأمراض نتيجة لانخفاض أداء الجهاز المناعي للأسماك، نتيجة انخفاض الأكسجين فى المياه مع انخفاض معدلات التحويل الغذائي”.
ويستطرد “في حالة تعرض المزارع السمكية لموجة احترارية مفاجئة؛ فإنه قد يحدث نفوق جماعي للأسماك، أو يحدث تأثير غير مباشر على الأسماك من نقص الأوكسجين الذائب، الذي بدوره يعرض حياة الأسماك للخطر، مما يتطلب وضع مكيفات تبريد، بينما في حالة حدوث انقطاع كهربائي فإن ذلك يتطلب توفير مصدر لكهرباء الطوارئ حتى يستمر عمل أجهزة التهوية”.
وختامًا إن التغير المناخي قد يدفع الأسماك إلى الهجرة من موطنها الأصلي، إلى بيئة مناخية أكثر ملاءمة وخلال رحلة الهروب قد تموت هذه الأسماك بسبب الافتراس، ولو نجحت ووصلت بأمان قد تنقل معها الأمراض من بيئتها القديمة إلى البيئة الجديدة التي هربت إليها، وربما لا تستطيع التكيف ويقل تكاثرها حتى تتعرض للانقراض؛ ما يجعل الاستزراع السمكي خطوة هامة لحماية الأمن الغذائي.
فهل يمكن للمملكة أن تطبق حلولاً من شأنها حماية المزارع السمكية من مخاطر التغير المناخي المحتملة؟ وهل تنجح في إنتاج سلالات من الأسماك، قادرة على تحمل درجة الحرارة العالية والملوحة الزائدة؟