بعد سنوات من الفتور الذي شهدته العلاقات بين مصر وإيران، عادت الأمور مرة أخرى إلى طريق التفاهمات بين البلدين عبر وساطة عُمانية لعبت دورًا كبيرًا في تقريب وجهات النظر البلدين.
حملت الدبلوماسية العُمانية على عاتقها مسؤولية التقريب بين وجهات النظر المتباينة بين دول الإقليم الذي يشهد كثيرًا من الاضطرابات؛ بداية من الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، ثم التقارب السعودي الإيراني وتقريب وجهة النظر بين الحوثيين والتحالف العربي، وتعمل حاليًا الدبلوماسية العًمانية، كعادتها في هدوء، على دفع العلاقات بين القاهرة وطهران إلى آفاق جديدة.
يعلّق مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير محمد حجازي، على الدور العماني بقوله: إن الوساطة العُمانية أسهمت بشدة في تحريك المياه الراكدة في العلاقات بين البلدين، وهناك عدة مؤشرات تشير إلى أن هناك تقاربًا واضحًا في الفترة الماضية، وأصبحت العلاقات تسير في الاتجاه الصحيح، ويرجع الفضل فيه إلى الدبلوماسية العمانية التي لعبت دورًا قويًا لاقى ترحيبًا من كل الأطراف.
وكشف الدبلوماسي المصري، لـ”مواطن“، أن هناك حديثًا عن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين القاهرة وطهران، ويضيف: الدبلوماسية العُمانية تتسم دائمًا بالوعي الاستراتيجي عالي المستوى، وفي بعض الأحيان تجعل نفسها عرضة للانتقاد في سبيل تحمل أهداف أمن واستقرار المنطقة، ولكنها تظل واحدة من أرفع الدبلوماسيات العربية، والتي تحظى بعلاقات ودية مع كل الأطراف، وهي شريك موثوق من الجميع.
وتُعَدُّ عمان أكثر دول مجلس التعاون الخليجي توازنًا من الناحية الجيوسياسية، وقد انضمت إلى العراق في جهودها الدبلوماسية لتسهيل إعادة التقارب المصري الإيراني، وليست هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيه دورًا عمانيًا في بناء جسور التواصل بين مصر وإيران؛ فقد قامت به من قبل في عام 1991.
دبلوماسية عُمانية فعالة
وفي سبيل دفع العلاقات بين البلدين إلى الأمام، أجرى هيثم بن طارق سلطان عُمان، خلال شهر مايو الماضي، زيارتين إلى القاهرة وطهران على التوالي، ناقش فيهما سبل تطبيع العلاقات وإزالة العوائق وسوء التفاهم.
وخلال زيارته للقاهرة وطهران التقى السلطان هيثم، مع قيادات الدولتين؛ ففي القاهرة التقى مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وفي طهران التقى مع الرئيس إبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية على خامنئي؛ في إشارة إلى أن هناك اهتمامًا كبيرًا من الجانب العُماني للوصول إلى تفاهمات بين قادة البلدين، تمكن من الوصول بالتفاهمات إلى المستوى المأمول.
عُمان هي العضو الأكثر توازنًا من الناحية الجيوسياسية في مجلس التعاون الخليجي
responsible statecraft Tweet
وقال بيان للديوان السلطاني في عُمان، إن زيارة السطان إلى إيران أتت في إطار استمرار التشاور والتنسيق بين القيادتين لبحث مختلف التطورات على الساحتين الإقليميّة والدوليّة، وتعزيز كل ما من شأنه الارتقاء بأوجه التّعاون القائمة بين البلدين في مختلف المجالات، وسُبل تطويرها بما يخدم مصالحهما وتطلعاتهما حاضرًا ومستقبلًا“.
وكشف عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، محمود عباس زاده مشكيني، أن “سلطان عمان، نقل رسالة من مصر إلى إيران تتعلق بتطبيع العلاقات بين البلدين”.
وعقب لقاء سلطان عُمان، قال علي خامنئي، إن بلاده ليس لديها أي مشكلة في “عودة العلاقات بشكل كامل مع القاهرة في إطار التوسع في سياسات حُسن الجوار، واستغلال طاقات وإمكانات الدول الإسلامية لتعود بالفائدة على جميع شعوب ودول المنطقة“.
كما أعرب المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي بهادري جهرمي – بعد يوم واحد من تصريحات المرشد الأعلى – عن استعداد حكومة بلاده لتعزيز العلاقات مع مصر، مؤكدًا أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لفت إلى أهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة في هذا الشأن من جانب وزارة الخارجية. كما أشاد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بسياسة الرئيس المصري، تجاه المنطقة خلال السنوات الماضية ووصفها بأنها “منطقية وصحيحة”.
وقال عبد اللهيان للتلفزيون الإيراني الرسمي: “سياسة السيسي تجاه المنطقة في السنوات الماضية وتجاه محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والإرهاب كانت سياسة منطقية وصحيحة”.
وأضاف: “سلطان عمان نقل وجهة نظر القاهرة تجاه تطبيع العلاقات وطهران ترحب بأي مبادرة لتوسيع العلاقات على أساس المصالح المشتركة بين إيران ومصر”. وفي مقابل الحديث الإيراني الرسمي عن وجود تقارب مع القاهرة، تتعامل مع الحكومة المصرية مع الملف بصمت تام؛ فلم يخرج أي تصريح رسمي عن طبيعة التفاهمات أو إلى أي مدى وصل التقارب بين البلدين، ولكن المصادر الدبلوماسية لم تخف وجود تقدم حقيقي في المفاوضات؛ سواء عبر الوساطة العمانية أو العراقية.
المحلل السياسي، محمد عبادي، يقول إن أهمية الوساطة العمانية تكمن في نجاح تجارب وساطتها السابقة في ملفات أكثر تعقيدًا، بالنظر إلى وساطتها في المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، ومساهمتها في إنجاز خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015، وكذلك قيادتها للمفاوضات بين المملكة العربية السعودية وإيران طوال عام ونصف قبل توقيع الاتفاق برعاية صينية في مارس الماضي.
ويضيف عبادي، لـ “مواطن“، “من المتوقع أن تسفر المفاوضات الحالية بين مصر وإيران بوساطة عمانية عن نتائج جيدة، حتى إن لم تؤدِ إلى تطبيع شامل؛ فلن يخلو الأمر من تفاهمات جزئية”.
ويؤكد المحلل السياسي: “لعبت سلطنة عُمان دور الوساطة، انطلاقًا من رغبتها في الحفاظ على الأمن والسلم في الإقليم، وقدرتها على الحفاظ على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، وقد حملت تحركاتها المكوكية الأخيرة من زيارة إلى جمهورية مصر العربية، ثم التوجه إلى إيران ما يشي بأنّ رسائل ما تُنقل بين الطرفين؛ في سياق تفاهمات وتهدئة شاملة في الإقليم، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، وتبريد الجبهة السوريّة بعد عودة دمشق إلى الجامعة العربية”.
عوامل جيوسياسية تدفع للتقارب
تناول موقع “Responsible Statecraft“ الأميركي مسار التقارب بين مصر وإيران، معتبرًا أنّ هذا التقارب يشير إلى نمط إقليمي من الدبلوماسية المتجددة، وأنّ العلاقات الودية مع مصر يمكن أن تساعد طهران في مواجهة الجهود الأميركية – الإسرائيلية لإنشاء تحالف عربي ضدها.
ويرى الموقع أنّ عُمان هي العضو الأكثر توازنًا من الناحية الجيوسياسية في مجلس التعاون الخليجي، انضمت إلى العراق في الجهود الدبلوماسية لتسهيل التقارب المصري – الإيراني، وخلال عام 2023، كانت عُمان مشغولة بالعمل كجسر دبلوماسي بين مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية في المنطقة، وأحرزت مسقط تقدمًا ملحوظًا بشأن مساعدة السعودية على التقارب أكثر من اليمن في المباحثات التي انطلقت في عُمان، وقد ساهمت في الاتفاقية الدبلوماسية السعودية الإيرانية، كما كانت نشطة في جهود الوساطة بين “الخصمين القدامى البحرين وإيران“.
سياسة السيسي تجاه المنطقة في السنوات الماضية وتجاه محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والإرهاب كانت سياسة منطقية وصحيحة
وزير الخارجية الإيراني Tweet
بدوره يقول الكاتب العماني، زاهر المحروقي، “تأتي الانفراجة المصرية الإيرانية، بعد أن أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران؛ في العاشر من مارس الماضي، وهي العلاقات التي قُطعت في عام 2016. لذا من المؤمل أن تؤدي هذه الخطوة إلى إزالة مصدر رئيسي للتوتر في الشرق الأوسط، ممّا يشير إلى تحوّل في التحالفات الرئيسية، وإلى تغيّر المشهد السياسي في المنطقة؛ إذ كانت علاقات طهران مع القاهرة مشحونة منذ الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، الذي لجأ إلى مصر وتوفي ودفن فيها عام 1980، ممّا تسبب في توتر بين القاهرة وطهران التي كانت تطالب بتسليمه، ولكن العلاقات بين البلدين تدهورت أكثر عندما أطلقت الحكومة الإيرانية على أحد شوارع طهران اسم “خالد الإسلامبولي”، ضابط الجيش المصري الذي شارك في اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات، خلال عرض عسكري عام 1981 في القاهرة.
وأضاف المحروقي؛ في مقال له، إنّ خطوة إعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران ستصب في مصلحة البلدين وفي مصلحة أمن المنطقة، وستستفيد مصر من تلك العلاقة بتأمين المجرى المائي لقناة السويس، وضمان مرور آمن للسفن من باب المندب؛ فضلًا عن أنّ انفتاح مصر على إيران سيسهم في حدوث طفرة سياحية قد تتجاوز عشرة ملايين سائح إيراني سنويًا، يتطلعون لزيارة المزارات الدينية ومراقد آل البيت، بالإضافة إلى إمكانية تنامي التبادل التجاري بين البلدين في ظلّ اتساع رقعة الاقتصادين المصري والإيراني، بشكل ستكون له فوائد على الاقتصاد المصري المتداعي؛ فيما ستستفيد إيران من تلك العلاقة في فك الحصار والعزلة المفروضة عليها.
عقبات في طريق التقارب
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير محمد حجازي، يقول إن إيران وتركيا قوتين إقليميتين توغلتا على الأمن القومي العربي، وبالتالي تصدت لهما مصر؛ سواء في ليبيا أو منطقة الخليج، لوقف التدخل في الشأن القومي العربي وتهديده.
وأضاف حجازي، لـ”مواطن”، أن تقارب مصر مع إيران سيأتي ضمن احترام قواعد القانون الدولي ووقف التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وحسن الجوار والاحترام المتبادل، وبالتالي عندما تعيد مصر النظر في علاقتها مع إيران، تضع هذه الأمور نصب عينيها وتتحرك من خلالها.
وأشار إلى أنه إذا ما التزمت إيران بهذه الأمور؛ فلن يكون هناك سوى علاقات الصداقة والود التي جمعت بين البلدين على مدار التاريخ.
ويقول السياسي الإيراني المعارض طارق حميدي: “تعدّ إيران ومصر قوتين إقليميتين، وهما على طرفَي نقيض في معظم الملفّات الإقليمية، وقد تنطوي خطوة التقارب بينهما على تغييرات إقليميّة على مختلف الصُعد، لكنها مقطعية غير دائمة في ظل وجود نظام ثيوقراطي مبني على أساس تصدير الثورة والتوسع الكبير في الشرق الأوسط، ولديه مشاريع ضخمة أمنية واستراتيجية واضحة منها وغامضة”.
وأضاف حميدي، لـ “مواطن“، أن هذا الاتفاق يعزز حل خلافات سياسية واقتصادية يحتاج لها النظام الإيراني للخروج من مأزقه في ظل الانسداد السياسي في الداخل والخارج، لكن سرعان ما يقرع من جديد طبول الحرب واللا استقرار بواسطة أجنحة الصراع لديه في الشرق الأوسط من ميليشيات وجماعات تأتمر من طهران”.
خلاصة
تسعى عُمان إلى تقريب وجهات النظر بين القاهرة وطهران في ظل جهودها لنزع فتيل التوتر في الشرق الأوسط، وقد أدت هذه الجهود إلى إحراز تقدم ملحوظ؛ حيث جرت مياه عديدة في بحر العلاقات بين البلدين، ولكن تطور العلاقات نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، يواجه عدة معوقات قد تؤدي إلى العودة إلى المربع صفر مرة أخرى، على رأسها التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لعدة دول عربية.