من الشائع في الثقافة العربية والإسلامية أنه وحين تناول “مذهب اللذة”؛ نعتقد فورًا أن صاحبه شهواني يرى الكون بمنظار مادي نفعي ولا أخلاقيات لديه؛ فيدعو إلى الإنحراف وكسر الأعراف والقوانين، لكن إذا تأملنا سلوكياتنا الشخصية نرى أن ميولنا للذة والتمتع بها لا تحدث على شكل واحد كما كنا نرى ونعتقد.
فاللذة ليست واحدة، هناك لذة تُنتج ألمًا والعكس صحيح، كما درج في العُرف الشعبي أن كثرة الضحك تُميت القلب، أو أن كثرة الضحك فأل سيئ، والمصدر في ذلك أن تجارب الأقدمين رأت بأن متعتهم الشخصية في الضحك والسعادة يعقبها بشكل سريع أو بطيء ألم وحُزن؛ فأصبح استشعار المتعة في حد ذاته علامة على قُرب حدوث الألم، والعكس صحيح، أي أنه كلما تحدث شدة من الشدائد ونشعر بالهم والغم نرى أن تبعات ذلك لا تخلو من انفراجة وانبساط وسعادة؛ فأصبح قدوم الألم والحزن علامة على قرب السعادة والانبساط، وقد عبرنا عن ذلك في الأدب الشعبي بعبارات “كل ظلمة ليل يأتي بعدها فجر يشق الظلام”؛ فنوظف مثل هذه العبارات للدعوة إلى الصبر والتحمّل.
فكأن استشعار المتعة المقصود، ليس دعوة في ذاته إلى الشهوانية والانحراف؛ بل قد يصبح دعوة للتصوف والزهد تبعًا لقصدية اللذة المذكورة؛ فمن علم يقينًا بأن هذه المتعة يعقبها ألم وعذاب تعفف عن تلك المتعة وأبصر بعقله وحواسه وقلبه مستقبل تصرفه، وهذا الذي أنشأ مذهب الزهد الصوفي في التاريخ؛ حيث إن المتأمل الصوفي يستفيد من تجارب الواقع وخبرات الأقدمين ونصائح الحكماء بشكل أولي، نظرًا لما عانوه أو عرفوه من تبعات الاستسلام للذة، أو التشاؤم أحيانا من السعادة؛ فمن يتحدث عن المتعة ليس لحضورها الآني في ذهنه، ولكن للنتائج التي تترتب عليها في الواقع، ومن هذا المنطلق نشأ واحد من أشهر المذاهب الفلسفية التي تعتمد الواقع لقياس المشاعر، وهو المذهب “الأبيقوري” الذي قال بحتمية اعتماد الحواس الخمسة كمصدر أصيل للمعرفة.
الفيلسوف اليوناني “أبيقور” (342- 270ق.م) الذي ظهر بأقواله في العصر الهلنستي بأهم وأشهر كتبه “في الطبيعة”، الذي يقع في 37 جزءً، مع فقدان معظم كتبه التي قيل إنها بلغت 300 كتاب، علمًا بأن ذلك العصر جمع فيه اليونان بين العقل والروح؛ فبحثوا عن أفضل السبل للعيش والمعرفة حتى اختلفوا وظهرت فلسفات تتناول معايير “الحق والخير والجمال” بتباين، وأحيانًا بتناقض، ومما ميز هذا العصر الهلنستي ظهور الغنوصية والتصوف الفلسفي الذي كان أثرًا مباشرًا لحضور الأبيقورية والرواقية والأفلاطونية المحدثة، ونشاطهم المتنوع في تناول أخلاقيات الإنسان
فعلى غير الشائع أن أبيقور كان يدعو للإفراط في اللذة أو المادية الجنسية ولكن طبقًا للمقدمة أعلاه كان يدعو للحد من الرغبات وتقييد الأمنيات والزهد في الطموحات بما لا يتناسب مع الواقع الذري؛ فالأصل أن أبيقور كان يقول بالمذهب المادي الذي رأى فيه الكون عبارة عن ذرات ومواد تترابط مع بعضها البعض؛ سواء بقوانين معلومة أو مجهولة، والحكمة العملية تنبع من تناول ورؤية ذلك الكون بواقعية صادقة بعيدة عن المعتقدات الدينية أو الميول السياسية والاجتماعية.
يعرف د. إمام عبد الفتاح الرواقية في بضعة سطور: “إنه لا يمكن تحقيق الرضا الشخصي إلا عن طريق الانسحاب من العالم البغيض، الذي كثيرًا ما يكون عنيفًا؛ وهو عالم السياسة، وهذا هو السبب في أن الأبيقوريين يُعرفون أحيانا بفلاسفة الحديقة”، ويضيف أن أبيقور ذهب إلى أن الفرد لا يحتاج إلى سكينة الذهن وسلامته ليكون سعيدًا، وبوصفه من أتباع ديمقريطس فقد أكد أنه لا شئ يخيف في الموت، إنه ببساطة ذوبان أنفسنا وأجسامنا وتحولها إلى ذرات”. (أقدم لك الفلسفة صـ 42).
يقول الدكتور إمام أن الأبيقورية تعني الزهد والتصوف بوضوح؛ فما الذي يدفع الأبيقوري لاعتزال السياسة وزراعة حديقته إلا أنه يزهد متع التسلط والرغبات والأمنيات لإنجاز أمر مادي يعود بالنفع عليه وعلى العالم، ولأن مذهبه مادي دون التأثر بأقوال المؤمنين بديانات زمنه قال بأن الأصل الكون المادي يعني أن نتاجه ونهاياته سوف تكون مادية؛ مما يعني أن الموت في حقيقته لا يعني الألم والخوف؛ بل مجرد تحول أجسامنا من مادة إلى أخرى
وقد كتب في مؤلفه “رسالة إلى مينيسي” أنه لا داعي للخوف من الموت؛ فليس هو الذي يجلب المعاناة إلى حياتنا، ولكن الخوف منه ومشاعر الذين يخسروننا عند الفراق، وهذا معنى أن الموت مؤلم فقط للمحيطين بالميت وليس للميت نفسه، مما يعني أنه وحين نتخلص من وهم وقلق الموت تصبح حياتنا أكثر سعادة؛ فالذي يجعل حياتنا سيئة أحيانًا هو هذا الخوف الذي يتملك مشاعرنا وعقولنا من الموت، ليس لكونه النهاية فحسب؛ ولكن لطباع الإنسان الفريدة في الخوف من المجهول..
ولفهم أبيقور أكثر فهو يرى أن الحكيم يجب أن يكون واقعيًا لا يبتعد عن الحياة، واعتزاله إن جاز يكون في جانب الأمنيات والرغبات حتى لا تتحطم هذه الأمنيات على صخرة الواقع المادي وظروفه؛ فيُصاب الإنسان باليأس ويمرض بما لم يكن يراه أو يتوقعه، لو كان زاهدًا عفيفًا يحترم الواقع ويراه بمنظار المادة لا بمنظار العقيدة؛ فكما أن الإنسان مطالب بعدم اعتزال الحياة بالكلية؛ فهو مطالب أيضًا بعدم الخوف من العدم، لأن الحياة نقيض العدم؛ فلو شعر الإنسان بحياته فما الذي يدفعه للخوف من العدم إلا الوهم والضيق
والأبيقورية تبحث في مصادر الضيق والألم، ورأت أنها لا تغادر أمنيات الإنسان ورغباته الشخصية في الغالب، وكذلك ابتعاده عن الحكمة العملية وميوله الغريزية للمتعة وفق (سياق الكم لا الكيف)؛ فالإنسان يتمتع غريزيًا بأكثر الأطعمة نظريًا، ولكن حين يطبق ذلك على الأرض فهو لا يتمتع سوى بقدر ضئيل من الطعام لكنه لذيذ، وهذا يعني أن مبدأ الكثرة والكم يخدع حواسنا وميولنا؛ فالحكيم بناء على ذلك مطالب باكتشاف هذا الخداع والتخلص منه ونصح الناس به.
لو قاربنا ذلك في الفكر الإسلامي فيمكن قياس المذهب الأبيقوري على مذهب الإسلام السياسي؛ ليس لأنهما قرينان ولكن لأنهما ضدان؛ فالأبيقورية ترى أن الحكمة العملية مقدمة على العقيدة، وهذا يتطلب احترام موازين القوى على الأرض من جانب، والترفع عن الطموحات والرغبات وعدم المبالغة فيها من جانب آخر؛ فما الذي يدفع رجلاً في الصحراء لا يحمل سوى سيف ورمح في زمن الصواريخ أن يتوهم حكم العالم سوى عزلته ووهمه وخداع معتقداته الشخصية له؟ فالحكمة عند الأبيقوريين تتطلب الاسترشاد بالعقل والحواس فقط دون المشاعر، وهذا الذي يجعل الأبيقوري يقف ضد المعتقدات بالغالب لتأثيرها السيئ – وفقًا لتصوره – على مزاجه العام، ودلائله واستنتاجاته.
ولكي نوسع الرؤية أكثر؛ فالأبيقورية لا تحتقر الرغبات وفقًا لتطلعات وأطماع أصحابها فحسب، ولكن وفقًا لنتائجها الوخيمة على المجتمع بما يؤدي لشيوع الظلم والقهر، ويبدو أن هذه الرؤية التي دفعت أبيقور للاعتراض على مجريات زمنه من حروب اليونان المتعددة في عصر الإسكندر وخلفائه؛ فرأى أن تطلعات وأطماع شخص واحد أو مجموعة يمكنها أن تتسبب في أن تعيش شعوب كاملة بشكل سيئ، وهذا مطلق الأنانية والاندفاع والتهور، وهو سلوك غبي لا يصدر من إنسان سوي، لذلك ضرب مثلاً في رؤيته الفلسفية بأن جوهر الحكمة يكمن في الاهتمام بزراعة الحديقة لا الانشغال بما وراءها من صراعات وهمية وعبثية.
على غير الشائع أن أبيقور كان يدعو للإفراط في اللذة أو المادية الجنسية بل كان يدعو للحد من الرغبات وتقييد الأمنيات والزهد في الطموحات بما لا يتناسب مع الواقع الذري
يمكن فهم ما رغب أبيقور في توصيله بمذهب المنفعة، سوف يكون التعبير عن اللذة والمتعة في ذهن أبيقور بالمنفعة، وهذا الذي تجلى لاحقًا في دولة القانون الحديث، مثلما شرح ذلك الفيلسوف الإنجليزي “جيرمي بنتام” (1847- 1832م) في كتابه “مدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع”، أو في موسوعة “روح الشرائع” لمونتسيكيو (1689- 1755م)؛ فمجمل ما وصل إليه الرجلان هو (دولة القانون) التي يحكمها الدستور، وبالفصل بين السلطات المختلفة، وحسب ما قالوه بأن إخضاع الناس للقانون والدستور يهدف لزيادة سعادة الناس والحفاظ على مكتسباتهم وعدم الضرر بأرباحهم، وهذا عين مذهب اللذة الذي رآه أبيقور؛ فالقانون مثلما يحمل في طياته ألمًا للمذنبين فهو يحمل سعادة للضحايا؛ فيكون ميزان الدولة هادفًا لسعادة الناس والحد من معاناتهم.
فالذي يدفع الإنسان لفعل الخير والشر هو حاكمية (اللذة والألم) معا؛ فعن طريقهما يتحكمان في كل ما يصدر عن البشر من أقوال وأفعال، وهذا سلوك غريزي يحكم ليس فقط الإنسان، ولكن بقية الكائنات الحية، ولأن الإنسان مميز عن المخلوقات بالعقل، فأصبح الاحتكام للقانون وتطبيقه هو الذي يفصله جوهريًا عن مجتمع الحيوان والحشرات والنبات، ولغياب القانون عند بقية الكائنات، غابت المنفعة العادلة للكل، فأصبح الدستور لابد وأن تتوفر فيه شرائط العدالة والمساواة والأهلية والنسبة والتناسب ليتحقق مبدأ المنفعة العامة الذي وجد من أجله القانون، والذي من شأنه أن يحافظ على مستوى اللذة والمتعة عند الناس، ويحاصر أو يقضي أو يقلل من الشعور بالألم في المقابل، وبما أن الذي يدفع الناس للشر هو شعورهم بالألم والخوف كان حصار القانون والدولة وإضعافهما للألم هو تقليل وحصار وقضاء في ذات الوقت على مصادر الشر.
وسأضرب مثالاً آخر للأبيقورية من الفكر الإسلامي؛ فمما لا يختلف عليه أحد أن العصر الأموي جمع بين عدة ظواهر مجتمعة، منها (القوة العسكرية الهائلة + البطش المبالغ فيه ضد الخصوم + العمران والمساجد الكبيرة كالأقصى وقبة الصخرة والأموي بدمشق+ خطاب شعبوي عروبي قومي + فكر جبري يرسخ مذهب الطاعة للسلطان)، ورغم ذلك لم تعمر دولتهم في الشرق الأوسط أكثر من 90 عامًا، كان فيها الأمويون محاربين لا يهدأون، وقلما يمر خليفة أموي دون حرب كبيرة أو صغيرة؛ فما السر في قصر عمر دولتهم مع عظمة قواهم العسكرية وتقدمهم في العمران والفنون؛ في ظل أن خصومهم من العباسيين ظلت دولتهم أكثر من 500 عام ؟
أقول: بغض النظر عن حسابات القوة العسكرية والسياسة، وتفاصيل كلا الدولتين وصراعاتهم، لكن يوجد جانب مخفي لم ينتبه إليه البعض، وهو (التفاؤل العباسي…والمادية الأموية)؛ فالأخيرة كانت سلطة عربية لم تحتكم لقيم دينية في الماضي؛ بل لقيم مادية براجماتية واقعية دفعتهم لبناء قوة عسكرية هائلة بعيدًا عن الأيدلوجيا والمعتقد الديني، والسبب يعود لأن مؤسسيها الأوائل (بني أمية) عاشوا عصرين؛ (جاهليًا وإسلاميًا)؛ فكانوا حديثي عهد بالإسلام، لم يهضموا معتقداته أو يتعايشوا معها في وجدانهم لأسباب مختلفة، منها فقدان اتصالهم العشائري بمؤسس الإسلام، وانتماء رسوله لخصومهم من بني هاشم، لذلك ظلت تصرفات ملوك الأمويين تهاجم الهاشميين وآل البيت، من جانب يعالجون فيه ضعفهم العشائري وفقدان اتصاله بالإسلام، ثم بناء جيوش واقعية والاستعداد للحرب من جانب آخر، وهذا الذي ميزهم في التاريخ (الواقعية السياسية والعسكرية) مع وحشيتهم في قتل الخصوم والقضاء عليهم في أي مكان..
وفلسفيًا؛ أي دولة تتصرف على هذا النحو (لم تكن متفائلة بمستقبلها)؛ بل تشعر بالخطر الشديد والدائم، ويمكن فهم القوة العسكرية الأموية في ظل شعورها بالتهديد في نموذج “دولة إسرائيل” في العصر الحديث؛ فهي دولة لا تتفاءل بمستقبلها، والحل الوحيد كان في بناء قوة عسكرية واقعية تحميهم وتشعرهم بالأمان (لاحظ نظرية الأمن القومي الإسرائيلي التي هي عماد تكوين دولة إسرائيل منذ الأربعينات،) بينما في المقابل كان عدوهم الأول المتمثل في (آل البيت) يملك تفاؤلاً عظيمًا هو الذي مكنهم من الصمود، ثم بناء قوة عسكرية (انتقامية) في المقابل نجحت في القضاء عليهم سنة 132ه.ـ
القوة العسكرية العباسية لم تكن مادية واقعية؛ بل كانت انتقامية، بينما في الخلفية كانوا يستندون على قيم دينية وروحية من الإسلام (نظرا لاتصالهم العشائري مع مؤسسه ورسوله) جعلتهم متفائلين بشأن المستقبل، وهي الخلفية التي صنعت (عقيدة المهدي المنتظر) لدى شيعة آل البيت في العصر الأموي أولا، ثم طوّرها العباسيون لتصبح معتقدًا سنيًا كامل الأركان والجوانب، علمًا بأن تفاؤل العباسيين هو الذي مكنهم من الصمود 500 عام، وفي علم الاجتماع عندما يشعر الإنسان بالتفاؤل يميل (للمرونة والتجديد)، فيتفاعل مع أحداث عصره ويصبح أكثر مرونة معها، ولا يخشى التجديد والانقلاب أو تغيير بعض معتقداته، مثلما حدث للعباسيين عندما غيروا مذهبهم الشيعي إلى سنة بعد معارك النفس الزكية مع أبي جعفر المنصور سنة 145 هـ.
الاعتقاد بالمهدوية والتفاؤل بالمستقبل كان هو مصدر قوة العباسيين، وهي قوة تكررت لاحقًا في الدولة العثمانية التي قامت أيضًا على نفس المعالم، مما جعلها تصمد وتظل في التاريخ أكثر من 600 عام؛ فالعباسيون في ظل أزماتهم وصراعاتهم كانوا متفائلين في ظل عدم الاستقرار السياسي والحرب الأهلية والاغتيالات كانوا يصدقون أن مستقبلهم سيكون أفضل، وبالتالي (تولّد) لديهم شعور بالأمان أنقذهم من الإحباط والغضب الشديد الذي يجعلهم يتآكلون ذاتيًا، أو يتهورون لحد يمكن القضاء فيه على الدولة بالكامل، كانوا في ظل صعود وهبوط العلاقات الشخصية والدولية والعسكرية يتصرفون كما لو أنها ظروف مؤقتة ستزول، فلا داعي للغضب والخوف.
ولأن التفاؤل سلاح ذو حدين؛ فقد انحط العباسيون معرفيًا في عصرهم الثاني بداية من القرن 3 هـ، وتقدمت عليهم سلطات انقلابية ودول شيعية مستقلة هي التي صنعت (الحضارة الإسلامية)، بينما ظل العباسيون على تفاؤلهم الذي مكنهم من الصمود والبقاء (في بغداد فقط) بوقت كانوا ينحطون فيه معرفيًا بدعم مذهب وعقائد (أهل الرواية والحديث)؛ فشاعت القصص والخرافات في هذا العصر وانتشرت كتب الحديث، وحصل الوضّاعون على قوة اجتماعية هائلة زرعوا فيها (عشرات الآلاف) من القصص والمرويات التي ساهمت في تخلف العقل الإسلامي لاحقا بالتقليد.
لا يمكن تحقيق الرضا الشخصي إلا عن طريق الانسحاب من العالم البغيض، الذي كثيرًا ما يكون عنيفًا؛ وهو عالم السياسة
والخلاصة أن تفاؤل العباسيين هو الذي أبقاهم وأدام ملكهم السياسي، بالاعتماد على قيم دينية في الماضي، هي المعيار الذي كانوا يقيمون به العالم، بينما هذه الصفة لم تكن متوفرة عند الأمويين الذين فقدوا الاتصال العشائري بالإسلام في ظل صراعهم مع بني هاشم، وهو الذي أفقدهم اتصالاً وجدانيًا به دفعهم لهدم مقدسات الإسلام في الحرم مرتين كما هو ثابت، ولبناء قبة الصخرة في القدس لتكون بديلة عن الكعبة أيضًا كما هو ثابت في التاريخ، مما يوحي بأن تصرفات الأمويين كانوا يبحثون فيها عن هوية لهم (وعجزوا)؛ فقيم الماضي الإسلامية يحتكرها خصومهم من آل البيت
بينما قيم الماضي الجاهلية التي كانوا فيها على الدين العربي القديم (غير صالحة للاستدعاء أو التقليد)، فلم يجدوا سوى (الهوية العربية الشعوبية) والتعصب لها بطريقة مبتكرة دفعتهم لنفي العروبة أحيانًا عن خصومهم العرب، عن طريق اتهامهم بالخيانة والعمالة مع أعدائهم من الفرس والروم، وهو سلوك أفقدهم حواضن عربية شعبية كثيرة تعاطفت مع خصومهم، وظهرت بجلاء في حصول حركات (التوابين والمختار الثقفي وعبدالله ابن الزبير) على شعبية كبيرة من العرب.
الأبيقورية جمعت بين حسنات الأمويين والعباسيين معا؛ فهي فلسفة مادية تخضع للحِسّ المُشاهَد والواقع المادي كأولوية مقدمة على العقائد النظرية والأمنيات الباطنية والقصص المهدوية، لمخلص آخر الزمان؛ فالذي يحدث أن الأمم التي تعتقد بالمخلص تتفاءل وتبقى، ولكن دون إنجاز مادي يؤثر على حركة العمران، لأن التقدم العمراني بالأساس هو صفة وسلوك غريزي للأقوياء وأصحاب السلطة، بينما لا يرى من عانى من الخوف والتهديد أن بناء المعابد والبيوت الفخمة أولوية، أو يمكن فعل ذلك بارتياح في ظل شعوره بالقلق من مصير ما يُنجزه، لذا كان الفقر في التاريخ ملازمًا للمجتمعات المتدينة الغارقة في بحر الأمنيات ومخلص آخر الزمان، دون اتخاذ خطوات عملية تتقدم فيها هذه المجتمعات خطوة على مستوى الواقع.
وقد شرح ذلك وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة بقوله: “ما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل “باتاليبُترا” و “فايشالي” ؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغًا، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء؛ إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر” (قصة الحضارة 1/ 805).
وما قاله ديورانت هذا يفسر تقدم حركة العمران والفنون والعقل في العصر العباسي الثاني بعد فقدان الخليفة سلطته المركزية في بغداد، وضياع مُلكه لدويلات مستقلة غير ملتزمة بمذهب السنة والجماعة الذي شكل دستور الدولة العباسية الرسمي في عصرها الثاني.
فالدولة الأموية في التاريخ كانت أبيقورية مادية تُعطي الأولوية للواقع الحسي في بناء الجيوش والبراجماتية النفعية في قهر وضبط وتدجين والتواصل مع الخصوم، كانت مادية في رؤيتها للعمران والفنون لدرجة بناء القصور الفخمة والفسيحة للخلفاء والأمراء، يمارسون فيها شتى أنواع البهجة والسعادة، (انظر قصر عمرة في الأردن الذي بناه الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة 88 هجرية)، لكن خلفاءها لم يلزموا جانب الزهد الأخلاقي المتمثل في (مذهب زراعة الحديقة المتقدم على السياسة)، واستبدلوا ذلك بسياسات تبحث عن هوية أخلاقية وفردية تكون مستقلة عن خصومهم من بني هاشم؛ فلم يجدوا أفضل من الشعوبية العربية الأوسع، والتي قد تمكنهم من إخضاع الهاشميين لقرار عربي أعلى يتسم بالهيمنة الفكرية والميل التلقائي، وهذا الذي أضعفهم كثيرًا على غير ما يتوقعون، مما أدى لخلق حواضن شعبية متمردة ظلت تزداد قوة، حتى استعان بها العباسيون في هجمتهم مطلع القرن الثاني الهجري.
كذلك فالدولة العباسية كانت أبيقورية من جانب الزهد الأخلاقي؛ فعلى غير الشائع أن العباسيين كانوا مترفين يستغرقون في كافة متع الحياة والشهوة، التاريخ يثبت خلافًا جزئيًا (كبيرًا)، مع ذلك حين ينقل عن بعض خلفاء بني العباس مثل (المنصور والمهدي والمأمون والواثق والمتوكل والقادر..وغيرهم) اهتمامًا كبيرا بالعقيدة الدينية ونشرها، والمنطق يقول بأن من يستغرق في نشر الدين وفرضه على الجمهور بهذه الطريقة غير المسبوقة في التاريخ الإسلامي يدل على أن الظاهر للناس والجمهور للخليفة هي (صورة التقي الورع مقيم الصلوات والعبادات والصيام والدين)، وقد امتلأت كتب التراث بترجمات خلفاء العباسيين على هذا النحو بما يتفق مع الظاهر، وإن كانت هناك حقائق لا أخلاقية عن هؤلاء الخلفاء والأمراء تختلف مع هذه الصورة هي من صناعة خصومهم، أو هي حقيقية كانت تحاكي تصرفات وسلوكيات الخليفة في مخدعه بعيدًا عن الجماهير.
فمن الطبيعي إذًا بقاء سلطة العباسيين بجمع صور الزهد والدين والعبادة في الظاهر، مع التفاؤل في الباطن حتى لو كانت سلوكياتهم في فعل الشر مبررة وفقًا لعقائدهم، وهذا ما لا شأن لنا به؛ فلن نحاكم تلك المبررات إنما نذكرها في سياق قوة وبقاء مُلك هذه الدولة لعدة قرون، رغم ما كانوا يعانونه من فرط العزلة الواقعية وانحطاطهم المعرفي والعلمي والعمراني في عصرهم الثاني.
لا داعي للخوف من الموت؛ فليس هو الذي يجلب المعاناة إلى حياتنا، ولكن الخوف منه ومشاعر الذين يخسروننا عند الفراق
فالجذر الأخلاقي عند الأبيقوريين يمكن فهمه من خلال رصد السلوك الأموي المادي من جهة، والزهد والتدين عند العباسيين من جهة مختلفة، وفي عصر التنوير حدثت محاولات شبيهة بما فعله الأبيقوريون مثلما كان عليه الحال عند الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1724- 1804م) في قوله بأن جذور الأخلاق من المنطق الصوري، وهو هنا يكرر ما فعله الأبيقوريون ولكن بشكل أكثر حداثة، حين أعاد الجذر الأخلاقي للواقع الحسي وحاكميته في تشكيل البرهان العقلي الذي بناء على نشاطه عرفنا المنطق اليوناني.
وإن كان ثمة نقد للأخلاق الأبيقورية المنطقية فهي مبررة ووجيهة، واسمحوا لي بعرض هذا النقد باختصار شديد:
فخصوم الأبيقوريين من فلاسفة الحداثة وما بعدها يقولون بالفارق بين (الأخلاق التجريبية والمنطقية)؛ فيقدمون أخلاق التجربة على أخلاق المنطق المادي (انظر كتاب “التصوف والفلسفة” لولترستيس ف 8 صـ 271)، رغم أن مبرر أخلاق المنطق عند الأبيقوريين كانت في بداياتها تجريبية، وهذا يعود لتخلف العلم في عصر أبيقور وعجزه عن التفرقة بين التجريب والمنطق، وسر تأثر إيمانويل كانط به أنه لم يلحق منجزات الثورة الصناعية المادية والتجريبية الهائلة في القرن 19 م، والذي كان يغلب على دعاة التجريبية ممن كانوا قبله هو تأثرهم بحضارة المنطق اليوناني التي قامت على التجارب المادية؛ فما المانع من القول بتجربة قد تأتي بنتائج مختلفة أو تصنع تطورًا في صميم عمل المنطق وملحقاته؟
أما الخلاف الشهير بين الرواقية والأبيقورية فأجمله ببضعة أسطر، وملخصه أن الرواقية تنطلق من موقف إيماني يرى قوة عليا مطلقة تهيمن على الكون، وعلى الإنسان أن يخضع لقواها ونشاطها في الواقع المادي، بينما يرى الأبيقوريون خلاف ذلك؛ فهم ينطلقون من موقف إنساني مادي يُعيدون الإيمان والأخلاق فيه للداخل، وبناء عليه فلا قوة عليا مهيمنة يمكنها تغيير مصير الإنسان والتحكم فيه دون أن يكون للبشر قدرة على المقاومة أو التصدي، ومن هذا المنطلق اختلف الرواقيون والأبيقوريون لحد نشوب صراع فكري شهير في الفلسفة بين المدرستين، يمكن رؤية نتائجه وإسقاطاته بين رؤى المؤمنين واللادينيين من جهة، أو بين رؤى المؤمنين المحافظين والإصلاحيين من جهة أخرى.
ونظرا للتشابه الكبير بين المدرستين رأينا فلاسفة ينتقلون من الرواقية للأبيقورية والعكس، مع بقاء نقطة الخلاف الجذرية التي دار حولها الفلاسفة دون تصريح منهم كي لا تتحول القضية لجدل وجودي حول قضية الدين، بينما هي في الحقيقة جدل تجريبي في رؤية كل منهم لنتائج فلسفته على الأرض، وصف جزءً منها وول ديورانت في قصة الحضارة (1/ 3123) بأن أبيقور نزعته فردية كانت مهتمة بخطابات “ثيودورس القوريني” المتهم بالإلحاد، وأنه كان إنسانيًا لا يفرق بين الناس على أساس الجنس والدين والرأي والعمر والطبقة حين استقبلهم في مدرسته؛ مما يدل على أن مصدر أخلاقه لم يكن خارجيًا بل داخليا من ذاته
وهي نفس الرؤية التي ترى جذر الأخلاق من الداخل عند المتصوفة والمذاهب الغنوصية، وينقل ديورانت عن “ديجين ليرتيوس” في وصف أخلاق أبيقور: “أن كثيرًا من الناس ليشهدون بما ينطوي عليه قلب الرجل من شفقة، ليس بعدها شفقة، على الناس جميعًا؛ سواء في ذلك أهل بلاده التي كرمته بإقامة التماثيل، وأصدقاؤه الذين كانوا من الكثرة بحيث تضيق بهم مدن برمتها”. وكان بارًا بأبويه، سخيًا مع أخوته، رفيقًا بخدمة الذين كانوا يشتركون معه في دراساتهِ الفلسفية”
أما أشهر من تعرض لهذا الخلاف بين المدرستين الفيلسوف الرواقي “لوكيوس سينيكا” المتوفي عام 65 م في كتابه “رسائل من رواق”؛ حيث تدور معظم ردود سينيكيا على الأبيقوريين حول طريقة رؤيتهم وتقبلهم للمشاكل والحوادث، وفي تقديري أنه لولا التعصب المذهبي الذي ضرب اليونان أواخر العصر الهلنستي ما ظهر ذلك الصراع الذي أدى في مجمله للقضاء على المدرستين بعد إضعافهم لصالح المسيحية الجديدة، وتوجه أباطرة الرومان لتبني الدين الجديد وفلسفته اللاهوتية؛ في ظل فقدان حماسهم لمدارس اليونان الفلسفية بالكامل، التي انشغلت بالصراع البيني وهجرة تلاميذهم للمدارس بعدما تحول الرأي الفلسفي من كونه مصدرًا ووسيلة للعلم والمعارف إلى مصالح ومنافع آنية ورغبات عدوانية متبادلة، شأنها كشأن نهاية أي مذهب أو دين يترك العلم وينشغل بالصراعات السياسية والاجتماعية، في ظل احتمالية بقاء أو استدعاء قيمه الأخلاقية والعقلية في عصر ومكان آخر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.