لطالما كانت السير الذاتية من أحب أنواع الأدب إلى قلبي؛ فهي تنقل حياة الإنسان الحقيقية المعاشة، التي تبتعد عن الخيالات والأوهام، والمقدم على كتابة سيرته الذاتية عادة ما يرى في حياته شيئًا صالحًا للنشر، وما يعتقد أنه ملهم للقارئ أو غريب عليه، وحتى تكون السيرة ذاتية ذات قيمة أدبية ومحتوى مهم، يجب أن تتحلى بالصدق والجرأة، وهذا ما تفتقده أغلب كتابات السيرة الذاتية في العالم العربي.
استطاع قلة من الأدباء العرب الخروج بسير ذاتية حقيقية، وصمدوا أمام هجوم العامة وبعض النقاد، لعل أبرزهم الروائي المغربي محمد شكري، الذي سرد في “الخبز الحافي” وما تبعها في ثلاثيته عن طفولته القاسية ومعاناته مع الفقر المدقع، ومحاولاته عبر التعليم في سن متأخرة النجاة من القاع.
قد يتساءل البعض عن أهمية الجرأة في كتابة السيرة الذاتية، والإجابة: أن أهمية السيرة الذاتية تكمن في إضفاء المعنى على التجارب الحياتية، من خلال النظر للأحداث والشدائد من منظور صاحب التجربة، ووضع تلك الأحداث في سياق جامع؛ فمعرفة القارئ بأن هناك من استطاع تجاوز محن وأخطاء وخطايا، ومضى في حياته ونهض عدة مرات بعد السقوط أهم من حضور مئات المحاضرات في التنمية البشرية التي تعتمد على الكلام المنمق والتحفيز الوهمي؛ ففي هذا الكتاب لدينا تجربة حياتية حقيقية يمكن الاستفادة منها. السيرة الذاتية تشريح للواقع ومحاولة فهم للحياة والوجود، بالإضافة لمعلومات عن التاريخ والظروف التي أنتجت هذه الحياة.
حين فكرت في كتابة هذا المقال تبادر لذهني فورًا الكاتبة الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل آني أرنو؛ إذ اقترنت كل أعمالها بسيرتها الشخصية، وجعلت من حياتها وتجاربها مصدرًا لأعمالها الإبداعية، وتميزت كتاباتها بالجرأة، وحصلت على جائزة نوبل لشجاعتها ودقة معالجتها، أنتجت أرنو أعمالاً تسعى لتغيير الواقع المعيش بالنص والكلمات، كتبت عن حميمية المرأة وعلاقتها بالأب والأم والعلاقات الشخصية، وعن تغير طموح المرأة ومكانتها تبعًا لتغير المجتمع الفرنسي عبر عقود أعقبت الحرب العالمية الثانية، سردت تجارب شخصية لها دون الخوف من الرقيب، أو الاهتمام بالسمعة والمكانة الاجتماعية، وجمعت بين سيرتها الذاتية والسيرة الجماعية؛ فلم تجعل نفسها بطلاً في كتاباتها معبرة عن هواجس المرأة الإنسان ومخاوفها؛ فتكلمت عن الخيانة والعلاقات الاجتماعية والجنسية والإجهاض، ومشاكل الطبقات الاجتماعية بكل وضوح وبدون مواربة.
بعد أن قرأت بعض أعمال “أرنو” توجهت لقراءة السيرة الذاتية للشاعرة العربية الفلسطينية فدوى طوقان، وقد آلمني أن أجد في كتابها معاناة من نوع مختلف؛ ففي الوقت الذي عاشت فيه “أرنو” تجارب كثيرة أثرت في حياتها وأرفدت كتاباتها وأنضجت تجاربها التي سطرتها في كتبها؛ نجد أن الشاعرة فدوى طوقان عانت من نقص التجارب والخبرات التي حرمت منها تحت ذريعة الخوف عليها وحمايتها؛ فالشاعرة حرمت من تكملة التعليم المدرسي خوفًا من خروجها عن التقاليد والعادات، وعانت من الوحدة و العزلة عن المحيطين، الذين لم تجد قواسم مشتركة معهم في الفكر، وحتى فكرها لم ينضج إلا متأخرًا بسبب فرض نمط واحد من الحياة على الفتيات في ذلك الزمن
ولولا إيمان أخيها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان بها، ومساعدته لها لعاشت فدوى وماتت دون أن نعرف بموهبتها، وحتى بعد أن ذاع صيتها ظلت تعاني من ظلم الناس لموهبتها وشكوكهم حولها؛ بل إن البعض وصل به الأمر لترويج شائعات؛ بأن أخاها إبراهيم هو صاحب القصائد التي تنشرها. تقليل وإنقاص لشأنها عانت منه أغلب النساء في ذلك الزمن ولا تزال تعاني منه المرأة العربية حتى اليوم.
لم يؤمن والد فدوى بموهبتها، ولم يشجعها عليها، رغم ذلك حين توفّي أخوها فجأة، جاء الأب ليطلب منها أن تنظم شعرًا سياسيًا كما فعل أخوها إبراهيم، نظرًا لأهمية الشعر السياسي للقضية الفلسطينية. استوقفني هذا المشهد في سيرتها الذاتية، والذي يتكرر كثيرًا مع إناث مجتمعاتنا، عندما يطلب منهن فجأة تحمل مسؤوليات لم يتم إعدادهن لها، كالأرامل والمطلقات والمعنفات اللواتي يجدن أنفسهن فجأة في بحر متلاطم لم يدربهنّ أحد على السباحة فيه، ثم يبدأ نفس المجتمع الذي قصقص أجنحتن بمطالبتهن بالطيران ولومهن على عدم المقدرة.
إن حكمة المرأة التي لا تعيش حياة كاملة تظل منقوصة، ومن النادر أن نرى امرأة مسنة تتصف بالحكمة؛ فالحكمة وليدة التجارب
وهذا ما حصل مع فدوى التي طلب منها والدها أن تكتب شعرًا سياسيًا، وهي التي لم يكن يسمح لها بمخالطة السياسيين أو الانخراط في العمل العام، أو حتى الخروج من المنزل دون رقابة، وهذا ما يؤكد ظلم المقارنة في الموهبة بين الرجل والمرأة، واستخدام هذه المقارنات كأدلة على نقص المرأة؛ بينما لو توفرت الظروف نفسها للاثنين لربما تفوقت المرأة وأبدعت.
من الأشياء التي آلمتني في سيرتها الذاتية أيضًا تجنب الحديث عن العلاقة بالرجل تجنبًا مقصودًا؛ فسرته فدوى في بداية سيرتها بأنها آثرت أن تحتفظ لنفسها ببعض الجوانب الجميلة التي لا ترغب بمشاركتها، ولكننا كنساء ندرك تمامًا لماذا امتنعت الشاعرة عن وصف الجانب العاطفي في حياتها، واكتفت بسطور قليلة تكلمت فيها عن الحب بشكل عام وآثاره في اكتشافها لنفسها وأنوثتها؛ فهذا الجانب لا يقل أهمية عن وصف الطفولة القاسية وعلاقتها بوالدتها وإخوتها؛ بل هو يفوق لدى الشاعر تلك الأهمية؛
فالحب هو نبض الشعراء، وما الامتناع عن ذكر الجوانب العاطفية إلا قلق من مجتمعات ما زالت ترهب المرأة من الحب، بينما تشجع الرجل على الحديث عن تجاربه العاطفية، متناسين أن قصة الحب تحتاج لرجل وامرأة. أن تعيش المرأة وتموت وهي تخجل من ذكر الحب في حياتها فكرة محزنة، لا تنم عن حياة سوية.
القارئ لسيرة فدوى طوقان يجد ملخصًا عن حياة المرأة العربية في كتاب، وإن كان ثمة تفاوت بسبب اختلاف الظروف والمناطق، إلأ أن هناك قواسم مشتركة بين حيوات النساء العربيات، قصقصة أجنحة وترهيب وقمع وحرمان من التجارب، وتأخر في اكتشاف الحياة وخيارات محدودة، طفولة مسلوبة وشباب مسروق، وما ينتج عن كل هذا من مشاعر حرمان تستمر مع المرأة إلى نهاية حياتها.
تقول سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر: “إن حكمة المرأة التي لا تعيش حياة كاملة تظل منقوصة، ومن النادر أن نرى امرأة مسنة تتصف بالحكمة؛ فالحكمة وليدة التجارب، ومن خلال قراءة السير الذاتية تستطيع المرأة أن تميز أي حياة تحب أن تعيش؛ هل تقفز سابحة في بحر الحياة فتتعلم الغوص وتتحمل كل مآلات التجربة؟ أم تظل عمرًا كاملاً على الشاطئ وتكتفي بالمراقبة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.