كشف صندوق النقد الدولي عن تأثيرات خطيرة للتغيرات المناخية على دول جنوب شرق آسيا، موضحًا أن المنطقة ستتكبد خسائر أكبر من سائر مناطق العالم، وذكر أن الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة سيتراجع بمقدار 11% خلال السنوات المقبلة، محذرًا من تفاقم الأوضاع ما لم يتم التحكم في أزمة المناخ، وهو ما قد يشكل ضغوطًا متزايدة على دول مجلس التعاون الخليجي، التي تستضيف 23 مليون عامل من دول آسيا فقط.
وذكر بحث نشرته مجموعة فيرسك مابلكروفت لتحليل المخاطر، أن جزرًا ودولًا في جنوب شرق آسيا ستشهد أحداثًا مناخية أكثر حدة في المستقبل، وستكون معرضة للأخطار أكثر من غيرها بسبب كثافة سكانها، وتعرضها لكوارث مناخية متزايدة.
فقدان ثلث الناتج المحلي
وذكر بنك التنمية الآسيوي في تقرير له 2015، أن التغيرات المناخية تؤثر سلبًا على قطاعات اقتصادية رئيسية مثل الزراعة والسياحة وصيد الأسماك، علاوة على تأثيرها على إنتاجية القوى العاملة وصحة المواطنين في هذه الدول بشكل عام، في ظل ارتفاع متوسط درجات الحرارة في المنطقة عن المعدلات العالمية، وهو ما يؤثر سلبًا على اقتصاد هذه الدول، وهو ما توافق مع تقرير صادر عن البنك الدولي.
ووفقا لدراسة صادرة عن جامعة بريطانية في 2021؛ فإن اقتصاد دول “آسيان” (رابطة دول جنوب شرق آسيا) سيتضرر بشكل كبير بسبب الأزمة المناخية، وهذه الدول مهددة بفقدان 35% من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول 2050، بسبب الكوارث المناخية، وهو ما سيدفع سكان هذه الدول إلى النزوح داخليًا أو الهجرة للخارج بحثًا عن مصدر رزق، في ظل تدهور الاقتصاديات الوطنية بها.
23 مليون عامل آسيوي في الخليج
وتمثل العمالة الوافدة أغلبية القوى العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي، حد أنها تشكل أغلبية سكان هذه الدول باستثناء السعودية وعُمان، ويقترب إجمالي عدد العمالة الآسيوية في دول الخليج 23 مليونًا، وفقا لإحصائيات منظمة العمل الدولية، وهو معدل كبير جدًا ولافت ويفوق المقاييس الدولية، في الوقت الذي يفرض فيه الغرب قيودًا على المهاجرين.
وتعتبر هجرة اليد العاملة سمة بارزة في دول جنوب شرق آسيا وعاملًا رئيسيًا للنمو والتنمية الاقتصاديين، ولتحويلاتهم الدولارية أهمية كبرى لاقتصاديات دولهم؛ سواء على مستوى الأفراد أو الدول.
هجرة اقتصادية وهجرة بيئية
وعن أسباب ارتفاع معدلات الهجرة من دول جنوب شرق وجنوب آسيا إلى دول الخليج، يقول محمد ديتو، باحث بلجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا): “فإن هناك دافعين رئيسيين للهجرة: الأول اقتصادي؛ ويكون بسبب إما قلة فرص العمل في الدولة الأم، أو انخفاض الأجور فيها، أو زيادة الطلب على العمال في الدول المقصد، أو ارتفاع معدلات الأجور فيها، وكل هذه الأسباب تتوفر في دول جنوب شرق آسيا، وهي الدول المصدرة للعمالة المهاجرة ودول الخليج وهي الدول المقصد، أما السبب الثاني فهو غير اقتصادي؛ إما لم شمل العائلة أو بسبب الكوارث الطبيعية والنزاعات.
حديث “ديتو” يوضح العلاقة بين تأثير التغيرات المناخية والهجرة البيئية إلى دول الخليج؛ فعندما تصاب دول جنوب شرق وجنوب آسيا كوارث طبيعية بفعل التطرف المناخي، سيتأثر اقتصاد هذه الدول ويصاب بالركود، وترتفع نسب التضخم متأثرة بعدم وفرة الغذاء والمياه، ما سيدفع مواطني هذه الدول إلى البحث عن فرص عمل في دول أخرى بحثًا عن مصدر رزق، وستكون دول الخليج اختيارهم الأول لارتفاع معدلات الأجور وتوسع هذه الدول في استقبال العمالة المهاجرة، علاوة على هجرة مجموعات أخرى لأسباب غير اقتصادية هربًا من الكوارث الطبيعية وتأثيراتها السلبية.
الهجرة المناخية
تكشف بيانات منظمة العمل الدولية، في أجندة الهجرة العادلة للعام 2013 أن قرابة 23 مليون شخص من دول آسيوية يعملون في دول الخليج، تتصدر السعودية قائمة الدول المستقبلة برصيد 9 ملايين تليها الإمارات بـ 8 ملايين تقريبًا، أما أكثر الجنسيات الآسيوية انتشارًا في الخليج فهي الهندية، بقرابة 7 ملايين نسمة، تليها بنجلاديش بأكثر من 3 ملايين نسمة، وبعدها باكستان.
تتبعنا بيانات الدول صاحبة أكبر عدد من العمالة في دول الخليج، وفتشنا عن أعداد النازحين منها جراء الكوارث خلال السنوات العشر الأخيرة، فاكتشفنا تضاعف معدلات النزوح الداخلي خلال الفترة بين 2011 و2020، ووجدنا أن الهند وبنجلاديش هما صاحبتا المركزين الأول والثاني من حيث عدد العاملين في الخليج، احتلتا المركزين الثاني والأول على التوالي من حيث معدلات نزوح السكان داخليًا بسبب الكوارث، فيما احتلت باكستان والفلبين المركزين الثالث والرابع، وفقًا لبيانات البنك الدولي.
وضربت مجموعة من الكوارث الطبيعية الهند وبنجلاديش خلال السنوات الأخيرة، كان آخرها الفيضانات وصواعق البرق التي ضربت الهند وبنجلاديش يونيو الماضي، وخلفت عشرات القتلى وشردت الملايين، ووصف مسؤول حكومي بنجلاديشي الفيضانات التي ضربت بلاده بأنها الأسوأ منذ 2004، وتسببت في نزوح 3.1 مليون شخص عن منازلهم في شرق بنجلاديش فقط، وتشريد أكثر من 4.7 مليون في ولاية آسام الهندية، والفيضانات هي أحد أشكال الكوارث الطبيعية جراء تطرف المناخ.
ووفقًا لبيانات البنك الدولي فقد نزح قرابة 4 ملايين شخص في الهند خلال 2020، فقط بسبب الكوارث مقارنة بـ1.5 مليون نازح عام 2011، ونزح قرابة 4.5 مليون شخص في بنجلاديش عام 2020 مقارنة بـ400 ألف خلال 2011، فيما نزح قرابة 4.5 مليون شخص في الفلبين خلال 2020 مقارنة بـ2.5 مليون عام 2011.
الهند والفلبين
وفقا لبيانات معهد الدفاع والأمن الهندي؛ فقد ارتفعت أعداد العمالة الهندية في الخليج بنسب تزيد على 90% في جميع دول الخليج، خلال الفترة بين عامي 1975 و2012، لترتفع من ربع مليون تقريبًا كل عام إلى أكثر من 5 ملايين ونصف. فيما ارتفعت أعداد العمال الهنود في دول الخليج بين عامي 2004 و2012 بنسب كبيرة في بعض الدول؛ فقد ارتفعت إلى 70% في قطر، و57% في البحرين، و43% في الإمارات، وكانت الأقل ارتفاعًا هي السعودية بنسبة 16%.
ويتواجد أكبر عدد من العمالة الفلبينية التي تعمل خارج البلاد في دول الخليج، وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الفلبيني؛ إذ يتواجد أكثر من نصفهم في الإمارات والسعودية والكويت وقطر فقط. وتخلف الفيضانات في الفلبين ملايين النازحين والمشردين سنويا، كان آخرها الفيضان الذي ضرب البلاد، يناير الماضي.
التحديات القادمة
يقول مارتن رايزر، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة جنوب آسيا، إن الكوارث الناجمة عن الظواهر المناخية وجائحة كورونا وتقلبات أسعار السلع الأولية، لها مخاطر بعيدة الاحتمال، وتتابعها وضع اقتصاديات دول جنوب آسيا في اختبار صعب.
يضيف رايزر، الذي نقل تصريحه تقرير للبنك الدولي: يتيح تنقل العمالة عبر البلدان وداخلها تحقيق التنمية الاقتصادية عن طريق السماح للناس بالانتقال إلى أماكن يكونون فيها أكثر إنتاجية، وهو يساعد أيضًا على التكيف مع الصدمات؛ مثل الظواهر المناخية التي يكون الفقراء في المناطق الريفية في جنوب آسيا الأكثر تضررًا منها، مطالبًا بإزالة القيود المفروضة على تنقل العمالة باعتباره أمرًا بالغ الأهمية لبناء قدرة المنطقة على الصمود وتحقيق التنمية فيها على المدى الطويل.
غير أن استمرار دول مجلس التعاون الخليجي في استقبال العمالة المهاجرة بشكل عام والقادمين من دول جنوب وجنوب شرق آسيا تحديدًا، يضعها أمام تحديات كبيرة على عدة مستويات: الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي والمجتمعي.
تغير ديموغرافي وبطالة
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الهجرة الدولية 2020، أدت الزيادة الكبيرة في هجرة اليد العاملة نحو دول مجلس التعاون الخليجي إلى إحداث تغيير ديمغرافي هائل فيها، فقد شكل المهاجرون خلال 2019 أغلبية السكان في نصف دول الخليج؛ إذ سجلوا 88% من إجمالي السكان في الإمارات العربية المتحدة، وحوالي 79% في قطر، و72% في الكويت.
يقول الدكتور جاسم حسين، الأكاديمي والخبير الاقتصادي البحريني، في حديثة لـ “مواطن” إن ديمومة التواجد غير العادي للعمالة الوافدة في دول الخليجي تصطدم بانتشار البطالة بين صفوف المواطنين في دول الخليج؛ إذ تعتبر البطالة تحديًا على وجه الخصوص في 3 دول، هي: عُمان، والبحرين، والسعودية، وتعتبر مسألة توظيف المواطنين حساسة في السعودية؛ فهناك قرابة نصف مليون 400 مواطن سعودي من الجنسين لديهم قدرة الدخول إلى سوق العمل بحثًا عن وظائف تتناسب مع تطلعاتهم.
وتظهر بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي، أن نسبة البطالة بين صفوف الشباب في السعودية بلغت 27.8%، وفي البحرين 27.5%، بينما بلغت 20.6% في عُمان.
تحويلات خارجية: 80 مليار دولار
يشير “جاسم” إلى أهمية التحويلات المالية للخارج؛ فلا يمكن الحديث عن العمالة القادمة من شتى بقاع العالم دون الإشارة إلى تحويل الأيادي العاملة المغتربة مليارات الدولارات سنويًا، ولا تفرض دول الخليج قيودًا على الأموال المغادرة باعتبارها حقًا مكتسبًا؛ بل هو الهدف الجوهري وراء عملهم في الخليج، غير أنه يمكن تشجيع الوافدين على ضخِّ أموال في أدوات استثمارية على المستوى المحلي؛ فمن مصلحة الاقتصاديات الخليجية بقاء جزء من أموال العمالة الوافدة داخلها عبر أدوات استثمارية مثل العقار وأسواق المال.
ووفقا لتصريحات الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس الإمارات، فإن 80 مليار دولار أمريكي تتدفق سنويًا خارج دول الخليج عن طريق العمال الأجانب فيها، وهي قيمة التحويلات السنوية التي يرسلونها إلى بلادهم.
يشير الخبير الاقتصادي جاسم حسين إلى أن 8 مليارات دولارات تخرج سنويًا من السعودية إلى الخارج، فيما تخرج 16 مليارًا من الإمارات، مقابل 12 مليارًا من الكويت، واحتلت البحرين المركز الأخير من حيث معدلات خروج الأموال منها للخارج عن طريق العمالة الوافدة برصيد 1.5 مليار دولار سنويًا.
منافع متبادلة
غير أن الخبير الاقتصادي البحريني يشير إلى أن هناك تبادل منفعة لوجود العمالة الأجنبية في دول الخليج؛ فمن ناحية تخدم هذه العمالة أسرهم واقتصاديات دولها وفي المقابل يُساهمون بتنفيذ الخطط التنموية في دول الخليج، عبر العمل في مختلف الأنشطة، بما فيها القطاعات غير المرغوبة لدى المواطنين الخليجيين مثل البناء والتشييد، والقطاعات الخدمية الأخرى مثل العناية الشخصية، كما تتميز هذه العمالة باستعدادها للعمل ساعات طويلة، ويساهم العمال الذين يديرون محلات تجارية صغيرة للبيع بالتجزئة في تعزيز نوعية المعيشة في المناطق المختلفة، عبر فتح محلاتهم لساعات متأخرة، وفي بعض الحالات على مدار الساعة، لافتًا إلى إسهام التجار الهنود في تطوير القطاع الصناعي، علاوة على دورهم البارز في تجارة الذهب في دبي.
وأشار إلى استفادة شركات الطيران الخليجية من حركة المسافرين مع الدول المصدرة للعمالة المهاجرة، مثل: الهند، وباكستان، والفلبين على مدار السنة، فـ “طيران الإمارات” يعتبر أكبر ناقل أجنبي للرحلات المغادرة من الهند، ولذا عززت عدد الرحلات الجوية بين الإمارات والفلبين عام 2015، وزاد عدد الرحلات من 56 إلى 70 رحلة أسبوعية لتلبية الطلب المتزايد، على أن يتم توزيع الرحلات مناصفة بين شركات الطيران في البلدين، علاوة على كون العمالة الوافدة مكونًا أساسيًا في سوق العمل والحياة التجارية في دول الخليج.