معدلات البطالة في الخليج تبدو مرتفعة، لدرجة لا تتناسب مع حجم التدفق الاقتصادي، فيما يمكن وصفه بالفجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل، أدركتها بعض الدول الخليجية خلال السنوات القليلة الماضية، وبدأت بالعمل على إصلاحها، بينما لا تزال دول أخرى تواجه تفاقم مستمر لأزمة البطالة، أمام ما يطلق عليه البطالة الهيكلية.
وسجلت دول الخليج بنهاية عام 2021، أعلى معدلات للبطالة بين الشباب على مستوى عالمي، بلغت 28.7% في السعودية، ونحو 20% في الكويت وعمان والبحرين، و10% في الإمارات، وفق مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية الذي تصدره، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا).
وفي آخر إحصاء، أصدره مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (CSRGULF) لعام 2023، جاءت البحرين في مقدمة دول مجلس التعاون الخليجي الأعلى من حيث ارتفاع معدلات البطالة، بنسبة 5.7%، تليها السعودية بنسبة 5.6%، ثم الإمارات 2.8%، والكويت 2.5%، وعمان 2.3%، وأخيرًا قطر بنسبة 0.1%.
أسباب ارتفاع معدلات البطالة في الخليج
يعلق لمواطن، سلمان النقي، باحث مختص بالشأن الاقتصادي “أن النهج الريعي الذي اجتاح دول الخليج بعد الطفرة النفطية بمنتصف القرن الماضي، حول الحكومات الخليجية إلى القيام بدور (الحارس الاجتماعي)، أي توفير كافة الاحتياجات للمواطنين، ومن بينها ضمان الوظيفة بالقطاع العام، وهو ما سبب بشكل تراكمي، خلق حالة من التضخم الوظيفي داخل الأجهزة الحكومية، ما أدى بالمقابل إلى استنزاف المالية العامة لدول الخليج لسداد مرتبات المواطنين العاملين بالقطاع العام.
وأمام هاتين الأزمتين (التضخم الوظيفي وزيادة الصرف العام على الرواتب) يشير النقي إلى أن أزمة البطالة وطوابير انتظار التوظيف تزداد وتتسع كل عام، كما هناك أسبابًا أخرى تتعلق بسوء إدارة الموارد البشرية في البلدان الخليجية، متمثلة بفي عيين الخريجين بوظائف تختلف عن تخصصاتهم ومؤهلاتهم العلمية.
تصنف البطالة في دول الخليج بأنها بطالة "هيكلية"، وهي نوع من البطالة ناتج عن التناقض بين المهارات التي يمتلكها السكان العاطلون عن العمل، والوظائف المتاحة في السوق، كما أنها حدث طويل الأمد ناتج عن تغيرات أساسية في اقتصادات السوق.
ارتفاع أجر الوظائف الحكومية، إلى جانب سياسات الدعم الخليجي، أدت لانسحاب المواطنين من القطاع الخاص وأضعفت ثقافة العمل لديهم، حسبما أشار الباحث العُماني في الشأن الاقتصادي، علوي المشهور، في مقال منشورًا له في البيت الخليجي للدراسات والنشر
بينما يرى الخبير الاقتصادي نادر العبيد، إن نسب البطالة متفاوتة في مختلف المناطق بدول الخليج وفق سياسات التوظيف، وتعود أسبابها إلى عدة عوامل أولها نماذج التوظيف التي تعتمدها الجهات الحكومية في كل دولة من دول الخليج.
ويضيف لمواطن: “على سبيل المثال يحتاج ديوان الخدمة المدنية داخل الكويت إلى مراجعة سياساته وتطويرها بما يتوافق مع متطلبات العصر، لأن آليات التوظيف المتبعة خلال الستينات أو السبعينات وما تبعها خلال القرن الماضي، لم تعد مناسبة لتطورات ومتطلبات العصر”.
ويستطرد “الدستور الكويتي يلزم الحكومة على توظيف المواطنين بالقطاع الحكومي، بعد انتهاء مرحلة التعليم الجامعي، مما تسببت في وضع عائق أمام عملية التوظيف على مر الزمن”.
ويكمل “أحيانًا لا تتوافر وظائف مناسبة مع تخصص الباحث عن العمل بعد مرحلة الدراسة، الأمر الذي يجعله يقبل بأن يتم توزيعه على هيئات لا تتوافق مع مجال تخصصه التعليمي”.
البطالة والتعليم
وتظهر البطالة الهيكلية غالبًا بسبب الركود الطّويل في بيئة الأعمال، مع وجود عمال دون وظائف فترة زمنية طويلة، ويؤثر هذا على العمال تأثيرًا سلبيًا إذ يفقدون مهاراتهم الشخصية وقدراتهم على العمل ضمن مؤهلاتهم، ما يؤدي زيادة معدل البطالة العامة.
يشير العبيد إلى ارتباط زيادة معدلات البطالة لدى دول الخليج، بعدم التوافق بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات سوق العمل، ويضيف “أن مناهج معينة باتت غير ضرورية في الوقت الراهن لعدم توافقها مع متطلبات سوق العمل، وتحتاج إلى تطوير كبير، ويجب أن يحل بدلاً منها مناهج تتناول موضوعات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة، وغيرها من التخصصات المطلوبة لدى سوق العمل”.
أيضًا يركز التعليم في غالبية دول الخليج، وفي مقدمتها الكويت على التخصصات الإدارية والنوعية، مقابل إهمال التعليم المهني والتخصصات الصناعية، أو الأعمال الحرة، يذكر العبيد على سبيل المثال أن بلاده (الكويت) كانت تركز في السابق على الحرف والتعليم التطبيقي، لكن الأمر لم يعد محل اهتمام في الوقت الراهن، كما تتجه معظم الوظائف إلى الشؤون الإدارية، والعزوف عن المهن الحرة، ما زاد من أزمة البطالة.
ويخلص الخبير الكويتي إلى أن سوء توزيع الوظائف، وعدم التجانس بين متطلبات سوق العمل، ومخرجات التعليم يمكن اعتبارهم سببين رئيسيين في ارتفاع مستوى البطالة لدى المجتمعات الخليجية.
“إن المشكلة التي تواجهها دول الخليج بعد الطفرة النفطية بالستينات، كونها دفعت مواطنيها لتحصيل الشهادات الأكاديمية الجامعية والعليا، ما سبب تكدس وتضخم بالوظائف الإدارية والمكتبية ونقص واضح في الوظائف الفنية والعملية، ما جعل وجود الحاجة للعمالة الأجنبية لسد النقص بهذه الوظائف”. يقول سلمان النقي لمواطن.
هل ينجح التوطين في كبح جماح الأزمة؟
بحسب الخبراء لا تتناسب جهود الحكومات في غالبية دول الخليج مع طبيعة الأزمة الراهنة، إذ تعكف غالبية الجهود على سياسات التوطين كعامل محوري لحل الأزمة دون معالجات من الجذور، مثلاً لا تركز جهود الحكومات على التنسيق بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل.
إلى ذلك، يقول الباحث الاقتصادي سلمان النقي إن استراتيجيات الحكومات الخليجية لحل أزمة البطالة تتفرغ إلى هدفين تسعى لتحقيقهما، الأول هو إحلال العمالة الوطنية محل المقيمين بالقطاع العام، والثاني هو دفع المواطنين للعمل بالقطاع الخاص.
واتخذت دول الخليج شوطًا كبيرًا وتقدمًا واضح في توطين العاملين بالجهات الحكومية، لكن المشكلة تقع في انخراط المواطنين للقطاع الخاص، الذي ما تكون رواتبه ومميزاته أقل من الوظيفة الحكومية، بالاضافة إلى أن القطاع الخاص الخليجي يفضل العمالة الأجنبية على الوطنية لتدني رواتبها وحقوقها الوظيفية.
ويواجه توطين المهن في الخليج بعض التحديات والتداعيات، بما في ذلك زيادة تكلفة العمالة في بعض القطاعات، وتحديات التأهيل والتدريب للعمالة المحلية، وتحديات في توفير الكفاءات والمهارات المطلوبة في بعض القطاعات المتخصصة.
ومع هذا انخفضت نسب معدلات العمالة الوافدة من نسب العمالة في دول مجلس التعاون ما بين ما بين 2016 و2020 من 69.6% إلى 64.2%، في مقابل ارتفاع العمالة الوطنية من 30.4% إلى 35.8% خلال نفس الفترة، بحسب المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون، ما يعني أن الغالبية الساحقة في مختلف الوظائف بدول الخليج تذهب للوافدين.
ووفقًا لرصد حديث من وحدة التقارير في صحيفة “الاقتصادية” استند إلى بيانات مراكز وهيئات الإحصاء في دول الخليج ومركز الإحصاء الخليجي، جاءت البحرين والسعودية أعلى دول الخليج في معدل التوطين بنسب 28.3٪ و25.3٪ على التوالي، بينما حلت قطر أقل معدل توطين بـ5.7٪، وبلغ معدل التوطين 21.8٪ في سلطنة عمان، و16.3٪ في الكويت.
ويواجه توطين المهن في الخليج بعض التحديات والتداعيات، بما في ذلك زيادة تكلفة العمالة في بعض القطاعات، وتحديات التأهيل والتدريب للعمالة المحلية، وتحديات في توفير الكفاءات والمهارات المطلوبة في بعض القطاعات المتخصصة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي توطين المهن إلى تأثير سلبي على قدرة بعض الشركات على تحقيق الأرباح، وتحسين المنافسة في بعض القطاعات، خاصة إذا كانت العمالة المحلية غير مدربة بشكل جيد، أو غير قادرة على تلبية احتياجات القطاع.
هل ثمة مخاطر على المجتمع؟
حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية لارتفاع معدلات البطالة بدول الخليج، يرى العبيد أنها تتمثل في الهدر الكبير للموارد البشرية بسبب عدم إيجاد فرص عمل، كما تضع عائق كبير أمام الشباب المقبل على تأسيس حياة اجتماعية ومهنية قد تكون تحدي لطموح الشباب، فضلاً عن ارتباط البطالة دائمًا بتزايد المشكلات النفسية والاجتماعية لدى الشباب.
وفي ضوء الجهود الحكومية لحل مشكلة البطالة يشير العبيد إلى إجراءات الحكومة بنقل عدد من الباحثين عن عمل من القطاع الحكومي، إلى القطاع الخاص، من أجل تسكين الكفاءات الوظيفية في مناطق العمل التي تتناسب مع تخصصها، لكن عدد كبير منهم يرى أن القطاع الحكومي افضل مما يترتب على ذلك رفض الانتقال بسبب عدم وجود الأمان الوظيفي.
في حين يعتقد الباحث سلمان النقي أن إطالة مدد الانتظار للتوظيف و زيادة معدلات البطالة تزيد من الإنفاق الحكومي على المساعدات الاجتماعية للعاطلين عن العمل، مما يضيف تكاليف أخرى تثقل كاهل الميزانية العامة.
كذلك فإن زيادة البطالة تزيد من مؤشرات الفجوة بمستويات الدخل بين السكان، وقد تزيد من حجم الفئات الواقعة تحت خط الفقر. بالمقابل فإن هذه الظروف تنعكس سلبًا على المجتمع وتخلق حالة من فقدان الاستقرار الاجتماعي، وتغيير بسلوكيات وعلاقة الأفراد بالمجتمع، ما يضعف من تماسك المجتمع و تكون له ارتدادات سياسية سلبية نتيجة شعور التذمر العام.
إجمالًا تمثل البطالة معضلة رئيسية ترتبط بعدم التناسق بين مخرجات العملية التعليمية، ومتطلبات سوق العمل في العديد من الدول الخليجية، وأيضًا سياسات التوظيف التي تقدم العديد من المميزات والمغريات للقطاع الحكومي مقابل القطاع الخاص، ما يخلق حالة من النفور لدى الباحثين عن العمل ناحية القطاع الخاص، وكثافة على طلب التوظيف الحكومي، وعلى الرغم من بدء الحكومات مؤخراً في معالجة تلك السياسات لتجاوز الأزمة، لكن حتى الآن الأزمة تراوح مكانها في انتظار حلول جذرية.