بدايةُ القول أودُّ أن أؤكد على إيماني المطلق بحقِّ كلّ إنسان في ارتداء ما شاء من ملبس، مادام لا يؤذي الناسَ ولا يجرح العيونَ كأن يتعرّى الإنسانُ تمامًا مثلا، ولا يضرُّ ملبسُه المجتمعَ بتعطيل منظومة الأمن العام، كأن يتخفّى إنسانٌ وراء لثامٍ أو أي شيء يُخفي ملامحَ وجهِه فلا تتعرّف عليه الكاميرات حال حدوث جريمة، لا قدّر الله.
وبناءً عليه فليس لديّ مشكلة مع ما اصطُلح على تسميته “بالحجاب”، وهو تغطية الشعر بطرحة، مادامت ملامحُ الوجه واضحة غير مخفية، مما لا يُعرقل تأمين المجتمع كما أسلفتُ. وعائلتي تضمُّ العديد من السيدات المحجبات، منهنّ زوجة ابني التي أعتبرها بمثابة ابنتي الحقيقية.
وبناءً عليه كذلك، أؤمن بعدم جواز إجبار أي فتاة على اعتمار الحجاب، خصوصًا الطفلات الصغيرات اللواتي لم يتعرفن على الحياة بعد ويحتجن إلى عيش براءة الطفولة، ولا يملكن من إرادتهن شيئًا. فالإرادة والاختيار هما الفيصل والميزان وراء كل أمر. وكذلك لا أؤمن بالربط المغلوط بين “الإسلام” و”الحجاب”، ولا بين “الإيمان” و”الحجاب”، وأنتقد بقوة الربطَ الساذج والكذوب بين “الفضيلة” و”الحجاب”. فأمهاتُنا وجدّاتنا لم يكن محجبات؛ وكنّ آياتٍ في الفضيلة والعفاف.
مفردة "الحجاب" في القرآن
علينا أن نتذكّر دائمًا أن مفردة “الحجاب” لم ترد في القرآن إلا سبع مرات فقط وجاءت دائمًا بمعنى: “حاجز”، أو “فاصل”، أو “ستار”، مثلما في الآية ٤٦ من سورة الأعراف “وبينهما حجاب”، قاصدًا الحاجزَ بين أهل الجنة وأهل الجحيم وهو منطقة “الأعراف”، وكما في سورة الإسراء الآية ٤٥ “وإذا قرأتَ القرآنَ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا” ومعناه الغشاوة التي تمنع العقل من فهم القرآن.
وفي سورة مريم (١٧) “فاتخذت من دونهم حجابًا” والمقصود أن السيدة العذراء جعلت بينها وأهلها ستارًا يخفيها عن الناس، وفي الأحزاب (٥٣) “وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب…” والحديث عن زوجات الرسول (ص)، إذ لا يجوز اجتياح بيوتهن دون استئذان لأن ذلك يؤذي النبي ولا يُطلب منهن مِتاعٌ كأواني الطهو وخلافه إلا من وراء سترٍ كالأبواب أو الستائر مثلا.
والحق أن ظاهرة "تحجيب" الفتيات بغطاء الشعر لم تظهر في مصر، وفي معظم بلاد الدول العربية، إلا مع نهايات السبعينيات في تزامن مع الثورة الإيرانية وظهور حكم الملالي الخوميني ومع المدّ السلفي الوهابي التكفيري الذي بدأ يغزو الوطن العربي في تلك الحقبة.
وفي سورة ص (٣٢) “أحببتُ حبَّ الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب”، أي حتى غابت الشمسُ عن عينيه، وفي سورة فًصِّلت “وقالوا قلوبُنا في أكِنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ” أي بينهم وبين الإيمان برسالة النبي ساتر يمنعهم عن فهم ما يقول ويعوّق إيمانهم برسالته، وأخيرًا في الشورى(٥١) “وما كان لبشرٍ أن يكلّمه اللهُ إلا وحيًا أو من وراء حجاب”. والمعنى واضح أن بني آدم لا يكلمهم اللُه إلا من خلال وحي أو من وراء حجاب، مثلما كلّم اللهُ موسى. تلك هي الآيات التي ذُكرت فيها كلمة “حجاب”، نكرةً أو مُعرّفة بألف لام، ولم يذكرها القرآنُ في أيّها أبدًا بمعنى طرحة الشعر.
"الحجابُ" للفرز المجتمعي
والحقُّ أن ظاهرة “تحجيب” الفتيات بغطاء الشعر لم تظهر في مصر، وفي معظم بلاد الدول العربية، إلا مع نهايات السبعينيات في تزامن مع الثورة الإيرانية وظهور حكم الملالي الخوميني ومع المدّ السلفي الوهابي التكفيري الذي بدأ يغزو الوطن العربي والعالم في تلك الحقبة الزمنية، وهو تخطيط ضد-مجتمعي رتّبه ونفذه “تيارُ الإسلام السياسي” هدفه الأوحد “الفرز المجتمعي”، و”التفرقة الشعبية” بين المصريين، بحيث إذا تحجبت جميعُ المسلمات، كان بوسع المتطرفين معرفة وفرز “المسيحيات” والتضييق عليهن في الطرقات والمدارس والجامعات وأماكن العمل.
هذا التخطيط تمّ بمعرفة تيارات الإسلام السياسي مثل: الجهادية، التكفيرية، الإخوان، الوهابية الخ، وليس من الإسلام في شيء، بدليل أن رجال الدين الأجلاء وأئمة الأزهر الشريف لم “يُحجّبوا” نساءهم ولا بناتهم حتى ستينيات القرن الماضي، إلى أن جاء ما أسماه تيار الإسلام السياسي: “الصحوة الإسلامية”! وهو مصطلح مغلوط ومُهينٌ للإسلام ذاته! فهل كان الإسلامُ نائمًا على مدى ١٤٠٠ عامًا، حتى يستيقظَ فقط منذ ٤٠ عامًا؟ ألم يكن رجالُ الدين وشيوخ الإسلام الكبار وأئمة الأزهر الشريف على دراية وافية وعلاقة وثيقة، ومعرفة عميقة بالإسلام في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات حتى جاء الوهابيون ليصححوا لهم الدين، ويوقظوا الإسلامَ من سُباته، وفقَ رأيهم المغلوط؟
الأزهر و"الحجاب" حتى الستينيات
والشاهدُ أن لدينا صورًا فوتوغرافية لأزاهرة أجلاء وشيوخ كبار مع زوجاتهم وبناتهم دون حجاب. مثل الشيخ “الباقوري”، والشيخ “الطناخي”، وصورة للشيخ “الذهبي”، مع زميلة دراسته الدكتورة “سعاد صالح” أستاذ الفقه بجامعة الأزهر يوم تخرجها في الجامعة دون حجاب، وابنة الشيخ “محمود خليل الحصري”، الفنانة “ياسمين الخيام” التي كانت تغني دون غطاء للشعر قبل اعتزالها وتحجبها، وصور للقارئ الشيخ “مصطفى إسماعيل” مع زوجته وابنته وحفيدته دون حجاب، وصورة للقارئ الشيخ “أبو العينين شعيشع” مع أولاده وزوجته دون حجاب.
وهناك أيضًا صورة للسيدة “فوزية البنا” شقيقة عرّاب جماعة الإخوان المسلمين “حسن البنا” تظهر فيها بشعرها المكشوف مع زوجها “عبد الكريم منصور” أحد أقطاب جماعة الإخوان، وصورة أخرى لها منشورة في مذكراتها وهي تمتطي صهوة حصان بملابس الفروسية دون غطاء للشعر، وصورة أخرى للسيد “منير الدلة” أحد قادة الإخوان المسلمين في حفل زفافه في الأربعينيات على السيدة “آمال عشماوي” شقيقة “حسن عشماوي” القيادي في حركة الإخوان المسلمين وابنة الوزير “محمد عشماوي” وتظهر بشعرها غير مغطى.
وصورة لشيخ الجامع الأزهر الإمام “عبد الرحمن تاج” مع ابنته في حفل زفافها دون حجاب ويظهر في الصورة الزعيم “جمال عبد الناصر”، وفي صوة أخرى يظهر الإمام مع زوجته دون حجاب مع الرئيس “جمال عبد الناصر”، وثمة صورة لطالبات “كلية البنات جامعة الأزهر” في الستينيات يُدرّس لهن أحدُ الشيوخ وجميعهن دون استثناء سافرات الرؤوس، وكذلك صورة للشيخ “محمود علي البنا” مع ابنته دون حجاب، وصورة أخرى لصوت السماء الجميل المنشد الشيخ “سيد النقشبندي” مع زوجته وبناته دون غطاء للشعر.
فهل جميع مَن سبق من أزاهرة ورموز دينية عالية المقام مُنتقصٌ إسلامهم، أو بوسعنا أن نشكّكَ في صحيح معرفتهم بالإسلام؟. الحقُّ والشاهدُ أن لا وجود لدلالة قطعية على وجوب تغطية الرأس أو الشعر في النص القرآني، ومن ينادي بوجوب تغطية رأس المرأة لا يملك برهانًا يتكئ عليه.
هل فرضُ الحجاب على الفتيات منذ السبعينيات في المدارس، انتصر وأنعش الفضيلةَ التي نرجوها في المجتمع؟
"الحجاب" في سورة "النور"
وأما استدلالهم بالآية ٣١ من سورة النور: “وقُلْ للمؤمنات يَغضُضن من أبصَارِهنَّ ويحفظن فروجهن وَلاَ يُبدين زينتهنَّ إلا ما ظهرَ منها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهن …” قال المفسرون إن “الخُمُر” هي الأغطية، وهي كل ما غطّى شيئًا من جسم الإنسان، وليس بالضرورة “الرأس” كما في المعنى الشائع.
والمعني المرجّح هنا هو ”ثيابهن”، أيًّا كانت لعدم التخصيص. ولو قصد اللهُ تعالى “الرأس”، لقالها صريحة. وأما مفردة: “جيوبهن” : فإن الجَيْب هو كل ما كان بين شيئين. وفي هذا السياق هو كل ما كان بين عضوين من أعضاء الجسد. وقد فسره غالبية المفسرين بنحر الصدر، أو الصدر والرقبة.وقيل أيضًا منطقة الصدر والبطن، وقيل أن كل ما بين عضوين تشمل الصدر والإبط ومابين الفخذين، ويُرجح كل ما ذُكِر لعموم اللفظ.
وأدعو القارئ العزيز إلى قراءة كتاب المفكر الإسلامي الكبير الدكتور “محمد سعيد العشماوي”: “حقيقة الحجاب وحجيّة الحديث”، للتدليل على وجهة نظرنا في أمر “غطاء الرأس” الذي يطلقون عليه اصطلاحًا مغلوطًا: “الحجاب”، وهو زي سياسي وليس زيًّا أو فرضًا دينيًا.
والسؤال هو: هل فرضُ الحجاب على الفتيات منذ السبعينيات في المدارس، انتصر وأنعش الفضيلةَ التي نرجوها في المجتمع؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
الاحتشام والاحترام.
كان والدى احد رجال و علماء الأزهر الكبار .فلم أسمع منه ولو مرة واحدة عما يسمى الحجاب سواء لزوجته او أبنتيه . وهو العالم بأمور الدين و كنا نزور عائلات أصدقاءه فى جامعة الأزهر فكانت بناتهن و زوجاتهن بلا حجاب على الاطلاق. فهل كل هؤلاء العلماء كانوا على جهل بالحجاب .
Your article helped me a lot, is there any more related content? Thanks!