وفي شهر يوليو الماضي قامت الدنيا ولم تقعد على خلفية احتفالات شهر الفخر للمثليين، التي أصبحت علنية بشكل عام وكبير وجريء هذه السنة، في أغلب دول أوروبا الغربية، مع قوانين صارمة لدعم حضورهم بقوة القانون والدساتير.
وعلى النقيض في بعض البلدان الخليجية فيحتفل عدد كبير من الشعب بطرد المتشبهين بالجنس الآخر، وفرض الوصاية على الآخرين باسم الدين والمذهب والقبيلة.
وعلى الرغم من أن المجتمعات الغربية تمتلئ ببرامج الضحك والكوميديا التي تتناول كل الأديان، وكل شئ بالسخرية والاستهزاء وحتى القذف؛ إلا أن المظهر العام للشعوب الغربية لا يحبذ القيام بهذا النوع من الاستهزاء أو حرق الكتب المقدسة.
أمام هذه الأحداث (حرق الكتب المقدسة، أو المثلية وغيرها)، لم يتغير المشهد الفكري والأخلاقي والحضاري لغالبية العرب والمسلمين، وربما علينا بالضرورة، أن نسلك سبل الحوار والنقاش بروية وهدوء وعدم تعصب أو انحياز قبل أن نستعرض تلك المتغيرات. وهنا ندخل في جدلية أخرى؛ هل نطلق عليها متغيرات حداثية أو نزعات لا أخلاقية ضد الفطرة السوية؟ وما هي الفطرة السوية أو الأخلاق؟
لن ننتهي أبدًا من تلك الجدليات؛ فكل أو غالبية هذه الأزمات، يتناولها العقل العربي المسلم من ناحية واحدة فقط، ومن مدخل واحد لا غيره ولا يريد أن يرى سواه، وهي المشاعر الإسلامية. وعلى الرغم من أن غالبيتها، كما نراها ونتعايش معها، مزيفة ومنافقة وذات وجهين أو أكثر، إلا أن ما يتم تبريره والدفاع عنه، وإيصال صوته إلى دول الغرب والمؤسسات الإعلامية، هو أن مشاعرنا الإسلامية قد انتهكت، وأن الإسلام قد طاله الضرر والأذى، وأن إيماننا قد تزعزع وضعف وشارف على النهاية.
في البداية، وعلى الرغم من أن حرية الرأي والتعبير ذات قيمة عالية، ومصونة ومحمية في المجتمعات المتقدمة والعلمانية والليبرالية، لأنها تمثل أحد أوجه التقدم الثوري والفكري والعلمي والأخلاقي؛ إلا أنه وفي غالبية تلك الدول، وفي غالب مؤسساتهم التعليمية والمدنية والدستورية قد آلوا على أنفسهم عدم المساس (بمعنى عرف وأخلاق وليس قانون)، بالكتب الدينية والطقوس الدينية.
لماذا نرى الإله منتقما جبارًا قاتلاً، ولا نراه رحيمًا عطوفًا يقبل الأخطاء ويسامح ويغفر؟ لماذا نملك الوصاية على الآخرين، ونفرض عليهم شكل اللباس والجنس والدين والمذهب والقبيلة والميول واللعنات كلها؟
وعلى الرغم من أن مجتمعاتهم الصاخبة تمتلئ ببرامج الضحك والكوميديا التي تتناول كل الأديان، وكل شئ بالسخرية والاستهزاء وحتى القذف؛ إلا أن المظهر العام للشعوب الغربية لا يحبذ القيام بهذا النوع من الاستهزاء أو حرق الكتب المقدسة.
بسبب ما تركوه وراءهم بعد فصل الدين عن الدولة، ونظرًا لأن الأديان في مجتمعاتهم قد أصبحت محصورة ضمن نطاق محدد، ونظرًا لأن غالبيتهم قد اتجه إلى العلم والعمل والصناعة والإبداع والفن والرفاه الاجتماعي، بعيدًا عن الكتب الدينية والطقوس الإيمانية التي لا تزال موجودة ومحمية بمجتمعاتهم، بفضل العلمانية ونظام الحكم المحايد، أما مجتمعاتنا؛ فلم تصل إلى مثل هذا التعاطي مع الأديان والمعتقدات.
ونقول هذا بكل أسى وحزن وألم، لماذا يكون التطرف لدينا أكبر؟ لماذا القسوة والعنف والاعتداء باسم الدين في مجتمعاتنا يتزايد ولا ينقص؟ لماذا نخاف على الإسلام أكثر من الله؟ نقتل ونحرق باسمه لمجرد فتوى وغضب وإرضاء لرجل دين أو إمام؟
لماذا نرى الإله منتقما جبارًا قاتلاً، ولا نراه رحيمًا عطوفًا يقبل الأخطاء ويسامح ويغفر؟ لماذا نملك الوصاية على الآخرين، ونفرض عليهم شكل اللباس والجنس والدين والمذهب والقبيلة والميول واللعنات كلها؟
علينا أن ننتهي عن الوصاية الدينية، علينا أن نبدأ من جديد في كل شيء، علينا أن نبني الإنسان المواطن الحر، وليس الفرد التابع الخائف المتطرف، علينا أن نتناقش ونفكر دون حدود وقيود حتى نستلهم أفضل الأفكار والرؤى لقيام مجتمعات عربية حديثة علمانية.
لماذا نحتكر مفاتيح الجنة؟ لماذا نفرح ونرقص ونوزع الحلوى حين يموت المختلف عنا، حين نسجن صاحب الرأي الحر، حين ننتقص من حقوق المرأة، حين نرفض الحريات؟
لعلها أسئلة تحتاج إلى أجيال كثيرة، ومراحل فكرية متقدمة حتى نستطيع الإجابة عليها أو مواجهتها؛ فلا تزال السلطة الدينية في مجتمعاتنا العربية ذات بأس شديد ورعب أشد، وحظوة كبرى لدى أنظمة الحكم ومؤسسات الدولة التي تدعم وجودهم وتنحاز لهم.
لاشك أن الحداثة والعقلانية والليبرالية تدعم حقوق الأقليات، وتدعم الحريات الفردية والتنوعات الثقافية والفكرية. وكذلك مؤخرًا تم قبول التوجهات الجنسية المثلية وشرعنتها قانونيًا بعد أن أخرجتها أغلب المؤسسات العلمية المرموقة من تصنيف الخلل أو الاضطراب النفسي. إلى هنا يمكن التفاهم حول المثلية وقبولها كأحد التنوعات في المجتمع، لكن السؤال: هل مجتمعاتنا الخليجية والعربية جاهزة لمثل هذا القبول؟
وحتى نفهم الصورة بشكل عقلاني ومحايد في مجتمعاتنا العربية؛ علينا أولاً أن نُعرف الأخلاق والأديان، وحدود تواجدهم ومستوى تمثيلهم في المجتمع. علينا أن نفهم أن العقل العربي المسلم، ومنذ صغره قد انغلق على الإجابات اليقينية المقدسة، واستمر في الإيمان من دون تفكير نقدي أو سؤال.
علينا أن نواجه ذاتنا وثقافتنا وتقاليدنا، علينا أن نرى الاختلاف والتنوع والتعددية والأقليات في المجتمع كإثراء وغنى، وليس كانتقاص للأديان والمعتقدات، علينا أن نقيم المؤتمرات والمحاضرات وورش العمل، لفهم المثلية والجندرية والحقوق الجنسية للأفراد دون خجل أو وصاية، لوضع القوانين اللازمة وحماية كل الأقليات من أي تطرف وجور وأذى، علينا أن نعيد صياغة التعليم والمناهج على أسس النقد والشك والسؤال والعلم؟
علينا أن ننتهي عن الوصاية الدينية، علينا أن نبدأ من جديد في كل شيء، علينا أن نبني الإنسان المواطن الحر، وليس الفرد التابع الخائف المتطرف، علينا أن نتناقش ونفكر دون حدود وقيود حتى نستلهم أفضل الأفكار والرؤى لقيام مجتمعات عربية حديثة علمانية.
علينا أن نفهم أولاً أننا لسنا وحدنا على هذا الكوكب الصغير، لسنا مركز الكون، ولسنا أفضل أمة، ولسنا أفضل الشعوب إطلاقًا. وحين نفهم كل هذا، نستطيع أن نفهم ما حولنا، أن نستصغر أفعال الحمقى، أن نتجاوز التفاهات، أن نبدأ في قبول أنفسنا حتى نستطيع قبول غيرنا.