منذ نهاية العصر العباسي ولم توصف جماعة إسلامية أو مذهب جديد باسم المؤسس قبل الفرقة الوهّابية، التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي وسُميت باسم قائدها الأول الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” (1703- 1792م)، والذي ظهر في منطقة نجد بالمملكة العربية السعودية، وكان له شأن كبير في زمنه أدى لظهور دولة قوية جمعت بين سلطة آل سعود وذريتهم، وبلاغة وعلم وتأثير ابن عبد الوهاب وذريته.
الشئ الهام الذي جاء به الوهابيون، يجعل من الطبيعي أن يقف التاريخ وقفة مفصلية تتجمع فيها أفكار وتراثيات المسلمين في شخص جماعة رفعت لواء التوحيد ضد قبائل الجزيرة العربية، وبقية شعوب الشرق الأوسط بأكمله، وهذا الشئ الهام تمثل في توحيد كل مذاهب السنة الفقهية، كي تتحول في النهاية لمشروع سياسي عسكري يطالب بتحكيم دولة الشريعة بالقوة الجبرية وما يتبعها من القضاء على الشرك والأوثان ومعناهما في تحقيق معنى العبودية الكامل لله وحده، وذلك على غرار ما فعلته جماعات الخوارج حين أرادت توحيد كل المسلمين والعرب في الفتنة الكبرى لدولة شريعة تحكم باسم الله؛ فثارت ضد موقعة التحكيم بين عليّ ومعاوية، لأن ذلك -حسب رأيهم- لم يكن عبادة خالصة لله؛ بل تحكيمًا للبشر في أمور التوحيد، وهو أول تحوّل في التاريخ الإسلامي على هذا النمط السياسي أدى إلى صدام بين أنصاره من جهة، وبين الصحابة وآل البيت وخلفاء الدولة الأموية من جهة أخرى.
والشائع عن الشيخ ابن عبدالوهاب أنه بدأ دعوته للتوحيد في عُمر 27 عامًا، أي في سنة 1730م وقد ذكرت كتب التاريخ ذلك ووثقته بالتفصيل بتحالف مع عدة أمراء كعثمان بن معمر (المتوفي عام 1750م)، والذي قُتل بعد ذلك لخلاف بينه وبين ابن عبدالوهاب، ويمكن قراءة هذه الأحداث بالتفصيل في كتابين يمثلان تاريخ الوهابية الأولى، وهما “عنوان المجد في تاريخ نجد” لعثمان بن بشر (1795- 1873م)، و “تاريخ نجد” لحُسين بن غنّام (المتوفي عام 1811م)، اللذين يعدان أوثق كتب التاريخ في ذكر معارك وصراعات الشيخ محمد بن عبدالوهاب من وجهة نظر الوهابية نفسها، والتي تضمنت رحلة الشيخ في الخروج من الدرعية لنشر آرائه بالسيف بين القبائل في تحالف عُرف وقتها في الكتب المذكورة “بالدم الدم، الهدم الهدم”.
وبرغم أن الوهابية اعترفت بالمذاهب الأربعة السنية، وأعلنت توحيدها في مشروع سياسي؛ إلا أن الذي غلب عليها اتباع منهج “أحمد ابن تيمية الحراني” (1263- 1328م)، وهو نسخة متطورة عن المذهب الحنبلي كانت أكثر تشددًا لحد إفتائه بكفر الناس على أكثر من 900 مسألة، وقتلهم على أكثر من 100 مسألة في كتابه “مجموع الفتاوى”، وهو الكتاب – أو الموسوعة – التي صارت سفرًا مقدسًا عند الوهابية منذ ظهورها الأول بشكل مطبوع في القرن 20م، وعلى شكل رقائق ومجلدات وقصاصات متفرقة في حوزة فقهاء الوهابية قبل هذا الزمن.
وقد بلغ تشدد ابن عبدالوهاب في النقل عن ابن تيمية حد الاستدلال بأقواله (كأدلة شرعية)، وليست كاجتهاد له وعليه، مثلما اعترف بذلك الشيخ “محمد بن عبد الله بن حميد النجدي” (1820- 1878م) في كتابه “السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة / صـ 275″، بعد أن ذكر قصة إنكار والد ابن عبدالوهاب عليه هذا العمل، وقلة بضاعته الفقهية وتركه للعمل في الحديث والعلم بالكلية لصالح الدعوة، وجوهر ما ذكره ابن حميد النجدي، كان يقول بأن الشيخ ابن عبدالوهاب مؤسس الفرقة الوهابية (كان داعيًا وليس فقيهًا أو محدثًا أو عالِمًا)، وهو ما أكدته مؤلفاته التي نسبت له لاحقًا، والملحوظ منها خلوّ مؤلفات الشيخ من التصنيف في الفقه والحديث كسائر أهل عصره، واعتماده على خطاب إحيائي ثوري يجمع بين السياسة والدين لا غير.
ولأن الطاغي على الفرقة الوهابية النشاط السياسي والعسكري؛ فقد انخفض مجهودهم العلمي والفقهي لصالح المعارك والاتهامات المتبادلة، ويظهر ذلك من رؤية كل فريق وتتلخص في الآتي:
أولا: رؤية الوهابية التي تقول بأن الناس على عصر ابن عبد الوهاب لم يكونوا مسلمين موحدين مخلصين لله؛ بل شاع فيهم الكفر وعبادة الأوثان، وينسحب ذلك على كل المسلمين؛ سواء في نجد ممن خالفوا الشيخ ابن عبد الوهاب، أو خارج نجد ممن يدينون بمذاهب السنة والشيعة في الشرق الأوسط، وينسحب ذلك على الدولة العثمانية وكافة ولاياتها؛ ما يعني أنه وفقًا لابن عبد الوهاب كان الإسلام في عهده يحتضر، وعليه إحياؤه مرة أخرى بقبلة حياة تعطيه معنى التوحيد المُهمَل.
ثانيا: رؤية خصوم الوهابية، والتي تقول بأن ما جاء به ابن عبدالوهاب ليس جديدًا؛ بل تكرارًا لما فعله الخوارج في الفتنة الكبرى بتكفير المسلمين وإسقاط آيات الشرك على المؤمنين، وتكفير كافة فضلاء وعلماء وأمراء المسلمين في القرن 18 وما بعده، وقد خرج للرد عليه علماء من بني جلدته، منهم شقيقه الأكبر وأخوه “سليمان بن عبدالوهاب” (1699- 1794م)، بمؤلفه المشهور “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية”، وكذلك أستاذه وشيخه “محمد بن سليمان الكردي الشافعي”(1714- 1780م) بمؤلفه “الرد على محمد بن عبدالوهاب”، ثم توالت الردود حسبما روي بأكثر من 300 كتاب منهم “الدرر السَنية في الرد على الوهابية”، و “فتنة الوهابية” للشيخ “أحمد زيني دحلان” (1817- 1889م)، و”تهكم المقلدين فيمن ادعى تجديد الدين”، للشيخ “محمد بن عبد الرحمن العفالقي” (1688- 1750م).
بلغ تشدد ابن عبدالوهاب في النقل عن ابن تيمية حد الاستدلال بأقواله (كأدلة شرعية)، وليست كاجتهاد له وعليه.
والذي يهمنا في ذلك المقام ليس إثبات أو نفي أي من هذه الآراء، لكني سوف أستعرض بعضًا من نصوص ابن عبد الوهاب في اختصار مدعوم بالمصادر تبين بشكل كبير ماهية دعوته:
- في كتابه (كشف الشبهات) أطلق محمد بن عبد الوهاب لفظ الشرك والمشركين على عامة المسلمين؛ عدا أتباعه في نحو 24 موضعًا، وأطلق عليهم لفظ: الكفار، وعباد الأصنام، والمرتدين، وجاحدي التوحيد، وأعداء التوحيد، وأعداء اللّه، ومدعى الإسلام في نحو 20 موضعًا.
- في كتابه “القواعد الأربع”، يُفتي بأن مسلمي زمانه أشد كفرًا وشركًا من كفار قريش، قال “القاعدة الرابعة أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركي زماننا شركهم دائمًا في الرخاء والشدة”، (صـ 202).
- في كتابه “فتاوى ومسائل”؛ قال بكفر الصوفيين في شتى البلاد المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية؛ من مصر والحجاز واليمن والعراق والشام والمغرب وفارس وآسيا الوسطى، إلخ، وقتال من يترك الصلاة والصوم والزكاة فيها، وكان يسمي الدين الذي جاء به دين الرسول، وما عداه دين الكفار والمشركين، ولم يكتف بالحكم في هذا الكتاب على من خالفه بالكفر والردة والقتل؛ بل قال بكفر من أيده واتبع دعوته، لكنه ظل يحب خصومه، أو من أيده واتبع دعوته، لكنه لم يهاجر إلى نجد التي سماها ابن عبدالوهاب دار الإسلام، وما عداها دار الشرك والمشركين” (صـ 9- 11).
- في كتابه “فتاوى ومسائل” أيضًا كان محمد بن عبد الوهاب يقول بإنزال الآيات التي نزلت في الكفار على المسلمين، وينكر على العلماء الذين قالوا هذا فعل الخوارج؛ مصداقًا لقول الصحابي عبد الله بن عمر في الخوارج: “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها على المؤمنين” (صـ 24)، ومُجمل هذه الإشارة أن علماء زمانه رأوا ما كان يفعله ابن عبد الوهاب أنه تكرار لما فعله الخوارج؛ فأنكر عليهم وقال إن هذا هو الإسلام الصحيح.
- في نفس الكتاب “فتاوى ومسائل” قال بأن الصحابة فعلوا أشياء كفرية بعد إسلامهم، لكن تابوا منها لجهلهم بما فعلوه (صـ 37)، وأفتى بأن التوحيد على ثلاثة أقسام، يكفر بها من ينكر واحدًا منها أو يخل بمعناه الأصيل الذي شرحه شيخه ابن تيمية الحراني (صـ 42)، وقال بوجوب قتل المسلمين ممن خالفوه الرأي؛ حيث وصفهم بالمرتدين، وبجواز رجم الزاني المحصن وقتله حتى لو لم يأذن الإمام في ذلك (صـ 67، 68).
- في كتابه “مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد”، قال بأن الإسلام الصحيح لا يقوم سوى بالسيف؛ إذ يلزم كسر الأوثان والشرك معاقبة الناس ودفعهم بالقوة العسكرية لصحيح الإيمان (صـ 284)، ويقول إن كثرة خصومه ليست دليلاً على حسن اعتقادهم؛ فهم مشركون مثلما كان مشركو قريش أغلبية في زمن الرسول، ومن يدعي بأن قول الجمهور يقول بحسن اعتقاد خصومه في القبائل العربية مرتد (صـ 305).
- في كتابه “مجموعة رسائل في الإيمان والتوحيد” أن الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله هو طاغوت كافر وجب قتاله، وأن كل من لا يحكم بما أنزل الله هو كافر (صـ 377)، وأنكر أن للفقه أصولاً وجب الالتزام بها؛ بل شرع لكل أتباعه أن يُعرضوا عن كافة كتب الفقه والعلم في زمانه، وأن يأخذوا بظاهر النصوص الدينية في القرآن والحديث وتطبيقها دون نصيحة مجتهد أو مشورة عالِم، وفي هذه الفقرة اعتبر أن شروط الاجتهاد وضوابطه بدعة وشبهة ملعونة ينبغي محاربتها والرد عليها (صـ 396).
- في كتابه “الرسائل الشخصية” عشرات الرسائل الموجهة لأمراء وقضاة وفقهاء العرب والمسلمين في نجد ومحيطها من الحجاز والعراق واليمامة والأحساء وغيرها، يتهمهم ابن عبدالوهاب بالكفر ويحذرهم بقتالهم إذا لم يستجيبوا لدعوته، وكان يسمي هؤلاء الأمراء والقضاة والعلماء بالاسم؛ بل وصل به الأمر لتشبيه نفسه بالرسول ورفض الناس له كرفض الكفار للنبي (صـ 44)، وكذلك شتم بعض حكام وفقهاء الكويت ووصفهم بالكلاب (صـ 54)، فضلاً عن تكفير بعض علماء ومتصوفة المسلمين كابن الفارض ومحي الدين ابن عربي، وتكفير أتباعهم وقتالهم (صـ 193)، وكذلك تكفير بعض علماء عصره “كمحمد بن عبدالرحمن العفالقي” المذكور منذ قليل، وابن عبد اللطيف وابن فيروز وغيرهم (صـ 206).
أكتفي بهذا العرض من كلام ابن عبدالوهاب، وأظن ما عُرِض يكفي لبيان ماهية دعوته، أنها كانت سياسية أكثر منها فقهية علمية؛ فلم يرد الشيخ ابن عبدالوهاب على خصومه بالقلم؛ كونه لا يؤمن بالاجتهاد مثلما تقدم، ولم يرد عليهم بالتواصل والقبول والمحبة كونه يرى هذا العمل جارحًا لإيمانه الذي تعلمه من ابن تيمية الحراني بما عرف بعقيدة “الولاء والبراء”، وانحصرت ردوده في عبارات التكفير واللعن والشتم، وهي علامات للتعصب الديني الناتج عن خلط الدين بالسياسة، وطموح الشيخ للثورة الدينية السياسية أكثر من التجديد والخروج بمفاهيم مُستحدثة.
لم تتضمن مؤلفات ابن تيمية أي ردود علمية؛ سواء في أبواب الفقه والحديث أو العقل، إنما انحصرت جهوده بنقل نصوص ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومعتقداتهما
فلم تتضمن مؤلفات الشيخ أي ردود علمية؛ سواء في أبواب الفقه والحديث أو العقل، إنما انحصرت جهوده بنقل نصوص ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومعتقداتهما في الرد على علماء عصره وتكفيرهم بتلك النصوص، التي رآها شرعية لا مجرد اجتهادات لهذين الشيخين، علمًا بأن ابن تيمية كان يؤلف كتبه ويفتي بناء على أحداث وفتن طائفية حدثت في زمنه، كفتنة “عساف النصراني” الذي كان يسكن السويداء بسوريا ويسب الرسول، فحشد ابن تيمية الناس وحرضهم على قتله، ولم يتركه سوى بعد أن أجبر عسافًا على الإسلام في مجلس الأمير، ثم ألف كتابه “الصارم المسلول على شاتم الرسول” بناء على تلك الحادثة، وهذا الكتاب تسبب لاحقًا في قتل آلاف المسلمين وغير المسلمين بتهمة سب الرسول؛ فمن انتقد حديثًا أو رده صار متهمًا، ومن انتقد الرسول من المسيحيين كما ينتقد بولس من المسلمين قتلوه وهكذا، برغم أن الله وضع في القصاص أن (النفس بالنفس) فقط، يعني تحريم إزهاق أي روح بناء على رأي أو فعل سوى القتل العمد.
وهكذا انطبع تقليد ابن عبد الوهاب لابن تيمية بطابع طائفي، حتى لم توجه بنادق الوهابية لخصوم ابن عبد الوهاب من المسلمين فقط؛ بل امتدت للشيعة والمسيحيين وفقًا لتأثر الوضع الطائفي في زمن ابن تيمية على كتاباته، وهذه من آثار عصبية الوهابية لابن تيمية، أن هضموا أفكاره وعاشوا وجدانه وخيالاته وانفعالاته، فنقلوا ما كان يلائم ابن تيمية لزمان ومكان مختلف؛ فعمموا الخاص ووسّعوا من فرص التكفير والقتل بكثافة، حتى امتدت هذه الأعمال للقتل على الشبهة والظنون حتى لو لم يأذن الإمام.
ولقد شاعت في زماننا هذا تلك الأفكار للأسف بعد حصول الفرقة الوهابية على الدعم المالي والسياسي منذ هزيمة 1967 بمصر، حين تبنت كافة الجماعات والجمعيات المصرية هذا المذهب باعتباره إنقاذًا للعالم الإسلامي من تغول الاستعمار والصهيونية والشيوعية، إلخ؛ فاكتسب المذهب رونقًا وبريقًا بفعل تبني بعض الزعماء العرب له وحماسهم لنشره، ولي في ذلك وقفة فلسفية تُظهر بجلاء كيف حصلت الوهابية على هذا النفوذ الطاغي رغم قلة بضاعتها العلمية، ورغم العنف الظاهر من سلوكهم وفتاويهم.
فتقديس المذاهب والبشر لا يحدث بشكل واحد وبسرعة كما هو شائع؛ بلي أخذ مزيدًا من الوقت لكي تتطبع الأجيال الجديدة مع هذا الفكر وتراه الدين الصحيح؛ فليس من عاش تحوّلاً فكريًا وأبصر ما عدا مذهبه وتفاعل معه بجوارحه كمن نشأ في صغره على فكر واحد ومذهب واحد رآه دينًا صحيحًا لا يجوز الخروج عن تعاليمه، وفي تقديري أن التحوّل لتقديس شيوخ وزعماء الوهابية حدث بطريقين اثنين:
الأول: بالتحول من القوة القهرية إلى الاختيارية، وأساسها فرض هذا الشخص المراد تقديسه بالقوة، ثم وبحكم العادة يمر الزمن بجيل أو جيلين يتحول القهر السابق لاختيار؛ ففي علوم الاجتماع ما يعرف بـ (سلطة العادة)، ومعناها لو جدك تحول من الإسلام للوثنية بالقهر ثم ورثت تلك الوثنية عنه ستدافع عنها بالاختيار، وهذا الطريق يحدث دائمًا في مجتمع غير عقلي، فلا لا يوجد حينها مفكرون نافذون أو مناضلون يتحدثون في حقوق الناس، بمعنى أن السلطة هي التي فرضت تقديس الوهابية بالقهر حتى نجحت في خنق وتعطيل وقتل كل شئ معارض، وقد حدث ذلك بتقبيح أعمال العقل ووصفها بالإلحاد ومن علامات هذا الأمر كان شيوع تكفير المثقفين والفنانين والمعارضين السياسيين منذ سبعينيات القرن 20م حتى الآن.
الطريق الثاني: بالترميز العاطفي، وهذا تحدث غالبًا في السياسة والاجتماع، ومعناه أن فلانًا ساعد الناس وأصبح مثلاً أعلى يجري تقديسه على الفور ليصعد ويتقلد مركزًا سياسيًا أو اجتماعيًا، أما تقديسه دينيًا فلن يحدث إلا بعد تقديسه اجتماعيًا وسياسيًا أولا، بمعنى أن عاطفة الناس تتبع من يساعدها وتعشق من يدافع عنها؛ فلو قدّم أحد الشيوخ نفسه كمناضل سيتم اعتبار نضاله وحيًا من الله، والعكس صحيح، أي نفس الشيخ لو قعد عن النضال وتخلى عن الكفاح سيسقط بنفس درجة وسرعة صعوده، والسبب أن العاطفة هي التي جعلته مقدسا، وفي نفس الوقت هي اللي حولته لكائن وضيع.
من المثير للذكر أن ابن تيمية لم يُعرَف بشيخ الإسلام سوى عند المتأخرين، ولم يُقدّس بهذا الاسم سوى عند الوهابية في القرن 20
فابن تيمية مثلاً جرى تقديسه في السعودية سياسيًا، وعلى خصوم الوهابية بالقوة القهرية، ثم تحول هذا القهر لاختيار في أجيال لاحقة لأن العرب نشأوا وتعودوا على تقديسه بفعل المال ونشر المكتبات الوهابية، وطبع كتب شيوخها وتوزيعها بأرخص الأسعار، ودعم رجال دين وهابيين في صناعة شرائط كاسيت وفضائيات تُلح على أسماع الناس بالفكر الوهابي كل يوم؛ فخلق هذا الإلحاح والاعتياد لديهم سلطة لابن تيمية وابن عبدالوهاب، حتى جرى تقديس كل كلامهم في الكتب، وهو الذي حدث في السابق لابن حنبل؛ حيث جرى تقديسه سياسيًا في عصر المتوكل، ولسبب واحد؛ هو تكفيره للمعتزلة لاعتبارهم أن البشر خالقون لأفعالهم، وهذه قصة سياسية عارضها المتوكل الجبري الذي أشاع أن كل أفعال الخليفة العباسي هي من قدر الله وإرادته، ومعارضة المتوكل أصبحت بالضرورة هي معارضة لله، (انظر مقالنا على مواطن بعنوان أضواء على المذهب الجبري).
مع الأيام تحول ابن حنبل لرمز مقدس حصل على ميزة الترميز العاطفي بعد دخوله السجن، وهذا ما حدث لابن تيمية حين حصل على دعم وتعاطف البعض حين سجن على أفكاره، ومع ابن عبدالوهاب حين اجتمعت عليه الدول والأمراء والقضاة المسلمون؛ سواء شبه الجزيرة العربية أو خارجها من شتى الولايات العثمانية، وبعدما يحصل هذا التقديس يتم اعتماد تقليده فورًا، ثم تلقين الأجيال كلامه بوصفه المقدس، وعندما يصل الشخص لتلك المنزلة يتحول لإله في الصراعات، أي كلما تحدث محاولة لنزع القدسية عنه تشتعل بعض الأزمات التي تتطور أحيانا لحروب وفقًا لموازين القوى على الأرض؛ فلو انتصر أتباعه يتم نسب هذا النصر لمكانته الدينية عند الله فيجري تأليهه فورًا، أما لو هزم يبقى مظلومًا في نفوس أتباعه لحين امتلاك أحفادهم القوة اللازمة لإحياء دينه؛ فلو لم يملكوا القوة ينتهي ويصبح تاريخًا، ولو ملكوها يُعاد إحياؤه بنفس القيمة والقدسية التي فقدها مع أول هزيمة.
ويمكن اعتبار أن قوة الوهابية العظمى هي في قوة ونفوذ وانتشار مذهب “ابن تيمية الحراني”، واحتكار وصف شيخ الإسلام له؛ فالسلطة الاسمية نافذة المفعول، وتبقى آثارها في النفس لعدة أجيال، ولا شك أن احتكار هذا الوصف “شيخ الإسلام” لابن تيمية جعل المذهب الوهابي ممثلاً أعلى ومعبرًا عن الدين الصحيح؛ فعندما يُذكر ابن تيمية يلحقه على الفور وصف شيخ الإسلام، وهو لقب يجمع بين “الاحترام والتبجيل مع المرجعية العلمية”، وعند احتكار هذا الوصف يصبح ابن تيمية هو المرجعية العلمية الوحيدة ونفي ما عداها، رغم أن هذا اللقب كان دارجًا أواخر العصر العباسي، ثم طوال العصرين المملوكي والعثماني، وآلاف الفقهاء كانوا متصفين به من باب الاحترام، وبعضهم من باب المرجعية العلمية، وأشهر هؤلاء الذين اتصفوا بشيخ الإسلام هو الإمام “سراج الدين البلقيني” الذي ذكره المقريزي بشيخ الإسلام أكثر من ابن تيمية.
العثمانيون في القرن 15م هم الذين غيّروا معنى “شيخ الإسلام”، ليصبح (المرجعية العلمية الأعلى) المرتبطة بالباب العالي، ومعناه (مفتي الديار الأعظم)، ثم قلدهم السلفية في القرن 20م، وحصروه لابن تيمية، وتوقفوا عن وصف أي إمام غيره بشيخ الإسلام خلافًا لأئمتهم وأسلافهم.
ومن المثير للذكر أن ابن تيمية لم يُعرَف بشيخ الإسلام سوى عند المتأخرين، ولم يُقدّس بهذا الاسم سوى عند الوهابية في القرن 20، حتى بعض الحنابلة المعاصرين لابن تيمية لم يعرفوه بشيخ الإسلام؛ بل باسم “تقي الدين”، ومن هؤلاء الإمام “شمس الدين محمد بن مفلح”، لم يعرّفه أبدًا بشيخ الإسلام في كتابه المسمى بالفروع، وفي كتابه الآخر بعنوان “الآداب الشرعية والمنح المرعية”، لم يصف أبدًا ابن تيمية بشيخ الإسلام؛ بل احتكر هذا اللقب “لعبد الله بن محمد الأنصاري”؛ مما يعني أن قدسية ابن تيمية لم يعرفها حتى الحنابلة المعاصرون للرجل، رغم أن ابن مفلح كان تلميذًا لابن تيمية على الورق، علمًا بأن الحنابلة في هذا العصر كانوا يحتجون بابن تيمية (الجد) لا (الحفيد)، فالجد هو “عبدالسلام ابن تيمية” (1194- 1254م) صاحب كتاب “المحرر في الفقه، ” أما الحفيد فهو “تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني”.
والذي حدث؛ أن الوهابية في القرن 20 وعن طريق المطابع والمكتبات ودور النشر (أدخلت) لقب شيخ الإسلام عنوة في تصريح الفقهاء السابقين عن ابن تيمية (الحفيد) في الهوامش، وألغوا ذكر ابن تيمية الجد تمامًا حتى شاع أن ابن تيمية الحنبلي رجل واحد برغم أنهما اثنان، فدلسوا حتى على فقهائهم الحنابلة، وحصل ذلك إما من المُحرر أو المحقق، أو تعديلات من المطبعة نفسها، فورث المسلمون بالعصر الحديث هذا اللقب محصورًا على ابن تيمية (الحفيد)، وتغير التاريخ جذريًا ليصبح الرجل (مرجعية عليا) لا يجوز نقده أو القفز عليه، رغم أن ابن تيمية بميزان التسامح كان (عدوانيًا دمويًا)، وبميزان المنطق كان (فقير الذهن وكثير الخلط والتعصب)، وكتبه مليئة بكافة مغالطات المنطق من الاستدلال الدائري ومصادرات على المطلوب ورجل القش والتوسل بالمجهول وغيرها، مما أثر فعليًا على أتباعه ومريديه بأن ظهروا معظمهم أغبياء ورثوا نفس الطريقة بالتفكير، ولربما يكون لنا وقفة لسرد هذا الخلط لابن تيمية وكشفه على مواطن مستقبلاً.
ومن الإنصاف أن نذكر بأن الفرقة الوهابية لا تفضل ذكرها بهذا الاسم؛ بل تفضل لقب “السلف” أو السلفيين أو جماعة التوحيد، أو السنة والجماعة؛ فهم يرتاحون لهذه الألقاب ويظنون بأن وصفهم بالوهابية هو من قبيل النبز بالألقاب وفقًا لقوله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان” [الحجرات : 11]؛ فيصبح وصفهم بالوهابية عملاً فاسقًا لكونه تنابزًا مذمومًا، رغم أنهم لا يصفون الشيعة سوى بالروافض، وغالبًا يصفون المتصوفة بالقبوريين، والمسيحيين بالصليبيين، واليهود بأحفاد القردة والخنازير، ولا يتوانون عن وصف مخالفيهم من المثقفين والفنانين بصفات الكفر والإلحاد!
الفرقة الوهابية خصصت القرآن في شخص ابن تيمية الحراني، واعتبرت مذهبه وفتاويه، وبالأخص موسوعة "مجموع الفتاوى" هي المرجع الأول للمذهب والسفر المقدس للجماعة
وأختم بالإشارة إلى منهج الوهابية الذي يكاد ينحصر كليًا في مذهب ابن تيمية حرفيًا، والذي يتلخص باعتبار فتاوى ابن تيمية دينًا ودليلاً شرعيًا أوليًا، ثم يعقبه الاستدلال بالإمام أحمد ابن حنبل وكافة فقهاء الحنابلة الأوائل، ثم الأحاديث والكتب التسعة باعتبارها مصدر العلم بالسنة والجماعة، ثم أخيرًا بالقرآن الكريم، وهذا ما عرف عنهم وأنكروه، في وقت يقولون فيه إن أدلتهم بالترتيب (القرآن – السنة – الإجماع – القياس)، لكن قدسية ابن تيمية لديهم جعلت آراءه الفقهية والعقائدية وكافة اجتهاداته واستنتاجاته حاكمة على هذه الأدلة؛ فهم عندما يقولون “قال شيخ الإسلام ابن تيمية”؛ فلا تعني هذه العبارة مجرد اجتهاد له وعليه؛ بل دين يمثل آخر ما وصل إليه المسلمون في فهمهم للقرآن والسنة، وهو الذي فجر خلافًا كبيرًا بينهم وبين الحنابلة المعاصرين لابن عبدالوهاب – منهم أبوه وشقيقه الأكبر – ممن رأوا ابن تيمية شيخ مجتهد له وعليه، وبالطبع كل علماء السنة والشيعة من غير الحنابلة.
فالكلمة المشهورة عنهم (فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة)، تعني فهم ابن تيمية بشكل حصري، وقد عاب خصوم الوهابية هذا الأمر عليهم واتهموهم بالشرك وعبادة ابن تيمية من دون الله، واتباع أقواله على حساب القرآن والسنة، واستند خصومهم لعدة مرجعيات؛ منها أن القرآن في بداياته كان هو مصدر التشريع الوحيد، وكل ما عداه اجتهاد، لذلك ضبطوا قراءة القرآن بفهمه والتدبر فيه عقليًا أو رواية، وعلى ذلك مذهبا (أهل الحديث والرأي)، ولكن في النهاية كان القرآن هو مصدر التشريع الوحيد، ويؤكد ذلك قول الإمام التونسي الطاهر بن عاشور في تفسيره: “ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم” (التحرير والتنوير 1/ 29). وقد أخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال : ( اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرؤه).
أما العمل بالحديث وجعله مصدر التشريع الثاني وأحيانًا الأول؛ بدأ مع ابن الصلاح وابن تيمية وابن حجر، أي بعد موت الرسول بـ 600 عام، وموت البخاري بـ 300 عام، والسبب أن كتب الصحاح والسنن عندما ظهرت في القرن 3 هـ لم تأخذ قدسيتها فورًا، ولكنها ظلت مجرد اجتهاد يؤخذ منه ويرد لعدة قرون، والدليل هو ردود المحدثين على بعضهم، أشهرها ردود النسائي على مسلم، والدارقطني على البخاري، وكذلك طعن المحدثين الأوائل على البخاري، كأبي حاتم الرازي وأبي زرعة الرازي وابن يحيى الذهلي وغيرهم؛ ففي هذه الأجواء أي خلال الـ 600 عام بقيت آثار حجية العمل بالقرآن على ما سواه في ضمير الفقهاء، وتأمل قول الصحابي عبدالله بن مسعود الشهير “أُنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملًا، إن أحدكم لَيقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به”. وكذلك الإمام الحسن البصري: “إنكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملًا؛ فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحل، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم؛ فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار”. (مجلة المنار 1/ 829).
حتى البخاري نفسه لم يكن يؤمن أن كلامه تشريع؛ حيث نقل عن أبي عبد الرحمن السلمي قوله: «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرب على خلقه» (خلق أفعال العباد صـ 40). وقال أيضًا ” عن عبادة بن الصامت أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حيث سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وتصديق بكتابه، ويخرج قوم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فبين أن قراءة القرآن هي العمل”. (نفس المصدر صـ 53).
ومُجمل هذا القول أن الفرقة الوهابية خصصت القرآن في شخص ابن تيمية الحراني، واعتبرت مذهبه وفتاويه، وبالأخص موسوعة “مجموع الفتاوى” المطبوعة في 37 جزءًَ هي المرجع الأول للمذهب والسفر المقدس للجماعة، ويغيب عن الفرقة جوانب التأويل والتدبر العقلي في القرآن لعقائد كان يقول بها ابن تيمية، كالطعن في المجاز وتكفير المتأولين والفلاسفة والمناطقة، وقوله في العمل بظاهر النصوص وغيرها، أما مذهبهم في الجهاد فهو يؤكد هذا المنهج؛ حيث لا يعتمدون على القرآن كمصدر أول ينفي جهاد الطلب، ويأمر فقط بجهاد الدفع؛ بل يحتج الوهابيون بتعاليم ابن تيمية التي قال فيها بحجية فعل الصحابي بنشر الغزوات والفتوحات، وكذلك يعتمدون أقوالاً وحججًا أخرى كمرسل الصحابي والعمل بخبر الواحد في الأصول، وغيرها من العقائد التي أشعلت خلافًا دينيًا كبيرًا بينهم وبين المذاهب الإسلامية الأخرى التي قد نتعرض لتفاصيلها مستقبلاً هنا على “مواطن“، والسلام.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.