منذ خمس سنوات، يعاني أطفال المواطنة الفلسطينية أنعام بركات (37 عامًا)، من سكان بلدة بروقين غرب سلفيت، من أمراض الحساسية الجلدية والأمراض الفيروسية. ووفقًا لما قالته؛ فإن الأطباء يرجعون السبب في تكرار تلك الإصابات، هو إقامتهم في البلدة القريبة من مستوطنات الاحتلال الصناعية، والتلوث الموجود فيها.
وتضيف في حديثها لـ”مواطن“: “في الشتاء تفيض المياه العادمة المتدفقة من المستوطنات على منازلنا، ما يجبرنا على تشغيل المراوح الكهربائية لتغيير الروائح الكريهة”.
استيطان صناعي
تجثم المستوطنات الصناعية الإسرائيلية على مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية، ليخلف عملها أضرارًا لا حصر لها على صحة الإنسان والهواء والتربة والماء، نتيجة تسرب سموم نفايات وعوادم تلك المستوطنات إلى المجال الحيوي الفلسطيني؛ إذ تدفن أو تترك في مناطق مكشوفة دون معالجة؛ لتتسرب إلى المياه الجوفية والينابيع والأودية، فضلاً عن الأدخنة السامة المنتشرة في الهواء.
ووفقًا لإحصائيات مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ فإن السكان في المناطق المحيطة بتلك المصانع الاستيطانية يعانون من أمراض ومشاكل صحية بنسبة ثلاثة أضعاف عن المناطق الأخرى، كما تسجل محافظتي سلفيت وطولكرم في شمال الضفة الغربية، أعلى معدلات لأعداد حالات السرطان في الضفة الغربية، والتي بلغت 143 لكل 100 ألف مواطن في سلفيت، التي احتلت المرتبة الثانية، بعد طولكرم التي سجلت المرتبة الأولى بمعدل 146 لكل 100.000 مواطن.
وإلى جانب الضرر بالبنى التحتية والخدماتية لعدد من التجمعات السكنية الفلسطينية القريبة من تلك المستوطنات، بسبب حوادث العمل والحرائق والانفجارات داخل المصانع والمعامل، لحقت مآسٍ صحية كبيرة بأهالي المنازل المحيطة بالمستوطنات الإسرائيلية؛ حيث سُجلت أعداد كبيرة من أمراض السرطان وأمراض التسمم والتهابات الرئة، نتيجة التلوث البيئي الناتج عن مكبات النفايات الضخمة المقامة على أراضي المواطنين الزراعية.
دمار بيئي وحضري
يوجد في الضفة الغربية 25 منطقة صناعية استيطانية، تضم نحو 300 مصنع تتنوع أغراضها لإنتاج الأسمدة والمبيدات الحشرية والغاز وتدوير النفايات والبطاريات ومواد العزل الحراري، والإسفنج والمعادن الثقيلة ومواد الطلاء والغاز والمواد الكيميائية، بالإضافة للصناعات العسكرية.
ويتورط المستوطنون الإسرائيليون بارتكاب جرائم بحق البيئة الفلسطينية؛ يقول مدير سلطة جودة البيئة في محافظة سلفيت مروان أبو يعقوب، لـ”مواطن”: “إن المستوطنات الإسرائيلية تخلّف كميات كبيرة من النفايات غير المعالجة، وتتخلص منها بإلقائها في مكبات عشوائية، يقدر عددها بنحو 17 موقعًا للنفايات الخاصة بالمستوطنات، منها 7 مواقع لنفايات صلبة، و10 مواقع لنفايات سائلة في محافظة سلفيت”.
يوجد في الضفة الغربية 25 منطقة صناعية استيطانية، تضم نحو 300 مصنع
إحدى القرى المتضررة من الأنشطة الصناعية داخل المستوطنات الإسرائيلية، هي قرية “سرطة” التي تضم مواقع أثرية وتاريخية هامة باتت غير قابلة للاستخدام السياحي، بعد أن قضم جدار الفصل العنصري الإسرائيلي مساحات كبيرة من أراضي القرية لتوسيع مستوطنتي بركان وأرئيل الصناعيتين، ولإنشاء الطرق الالتفافية الخاصة بالمستوطنين، وهي سياسة فصل عنصري تتمثل بالطرق التي تشّقها سلطات الاحتلال حول القرى والمدن الفلسطينية، لربط المستوطنات بالداخل الفلسطيني عبر شوارع خاصة بالمستوطنين.
تقع هذه القرية إلى الجنوب الغربي من مدينة نابلس، وتبعد عنها نحو 30 كم، يصلها طريق محلي معبد يربطها بالطريق الرئيسي وطوله 1.2كم، وتتبع إداريًا لمدينة سلفيت في شمال غرب الضفة الغربية. في القرية بضع أماكن دينية منها: المسجد العمري القديم المنقوش على بابه “بناه عبد الرحمن بن عمر”، منطقة النواميس ومقام أحد الصالحين الشيخ عبد الله؛ أما المواقع الأثرية فهي “مضافة القرية” المشيدة منذ عام 1111 هجرية.
عمل أهالي القرية في مهنة الفلاحة؛ حيث كانوا يزرعون الحبوب والقليل من الخضار، بالإضافة إلى أشجار الزيتون والفواكه والتين واللوز، قبل أن تصادر السلطات الإسرائيلية الأراضي منهم بأوامرَ عسكرية.
مع اتساع وتيرة الاستيطان، زاد حجم انتشار القوات العسكرية الإسرائيلية لتأمين الحماية للمستوطنات، وبسط السيطرة على الضفة الغربية، والتحكم في مفاصل حياة السكان الفلسطينيين، ومثلت مراكز قيادة الجيش ونقاط التفتيش والحواجز العسكرية الطيارة والثابتة منها، والتي انتهت بإحكام الإغلاق والحصار ببناء جدار الفصل العنصري، كأوجه مختلفة لنهج إسرائيل المعروف: إحكام عزلة الفلسطينيين داخل محابسهم الصغيرة في المناطق التي يعيشون فيها.
استعمار إسرائيل الاستيطاني
داخل إسرائيل، تعتمد الحكومة سياسة تمييز لصالح المستوطنين، وتظهر تلك السياسة في تقديم التسهيلات الاقتصادية وتوفير الحماية العسكرية، بغرض تشجيع الاستيطان في الضفة الغربية. تظهر الإحصائيات الخاصة بالموازنات الحكومية الإسرائيلية والهبات والمساعدات الحكومية للمستوطنين، أن التقديرات المالية الإسرائيلية تعتبر “لواء المستوطنات” صاحب النصيب الأكبر من الميزانية المخصصة للألوية في إسرائيل. كما يعادل الإنفاق الحكومي على المستوطنات ما تنفقه الحكومة في الدخل والمعيشة ما بين المستوطنين ومدن المركز في إسرائيل، مثل “تل أبيب”.
وسط شبكة المصالح الاستعمارية تلك، تتقاطع المصالح الاستعمارية الأخرى حول العالم؛ في مفارقة هي أن الرأسمالية متورطة أيضًا في احتلال فلسطين وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني، إذا ما نظرنا إلى النشاط الاستثماري الكبير لشركات متعددة الجنسيات داخل المستوطنات الإسرائيلية، وهي ضالعة في دعم الاحتلال الاقتصادي ودعم انتهاك حقوق الفلسطينيين ومخالفة القوانين الدولية.
من الجانب الفلسطيني؛ فإن هذه السياسات تقوض حل الدولتين، وتدمر الاقتصاد الفلسطيني وتمنعه من أي نهوض وتطور اقتصادي؛ وتجعل حياة الفلسطينيين المعيشية صعبة؛ فالمستوطنات ومصانعها تدمر البيئة الفلسطينية والموارد الطبيعية من مياه ومقالع حجارة وتنوع طبيعي.
في دراسته المنشورة عبر موقع جامعة النجاح، التي أجراها الباحث الفلسطيني عاصي أطرش، تكشف عن طامة كبرى لحقت بالاقتصاد الفلسطيني، بسبب الطبيعة التوسعية للاستيطان الإسرائيلي، والذي بمرور الوقت يعرقل تأسيس نواة اقتصادية لبنية مشروع الدولة على أراضي حدود حزيران/ يونيو 1967؛ حيث تقلص الفضاء الممنوح للفلسطينيين بمصادرة الأراضي لتوسيع المستوطنات السكنية والصناعية ومصادرة آلاف الدونمات بالمحيطة بالمستوطنات بصورة فعلية ومستمرة حتى يومنا هذا.
عن المقاطعة
حددت الأمم المتحدة، قائمة تضم 112 شركة حول العالم، لها علاقات تجارية مع مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية، في مخالفة للقانون الدولي الإنساني. هذه القائمة رفضتها إسرائيل مباشرة؛ فيما رحب بها الفلسطينيون وكانت ناتجة عن جهود مشتركة بين نضال الفلسطينيين أنفسهم ونشطاء حركة المقاطعة المتضامنين مع الحقوق الفلسطينية حول العالم.
تمتلك عدة شركات عالمية امتيازاتٍ في كيان الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن بعضًا من تلك الشركات امتدت الامتيازات الممنوحة لها لتصبح أذرع الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للضفة الغربية، من خلال ضخ الاستثمارات المناطق الصناعية الاستيطانية.
من بين تلك الشركات ظهرت بقوة شركة “فيكتوريا سيكريت” التي تمتلك مخازن ومعامل إنتاج في مستوطنة بركان الصناعية في مدينة سلفيت، كذلك بسبب مصدر الأقمشة اللازمة لإنتاج ملابسها؛ حيث تحصل أكبر علامة تجارية أمريكية على منسوجاتها من شركة دلتا جليل للصناعات، وهي شركة إسرائيلية تملك مستودعًا داخل المستوطنة. وكذلك شركات “بابمرز”، و”يونليفر” لمستحضرات العناية بالبشرة، و”إير بي إن بي”، و”بوكنغ دوت كوم”.
تعد شركة شركة “بروكتر آند جامبل” التي تنتج حفاضات “بامبرز”، واحدة من أكبر العملاء لشركة إسرائيلية استيطانية توفّر تلك الحفاضات، وتستحوذ على ما يقرب من نصف مبيعات الشركة؛ التي تدير مصنعًا في مستوطنة “بركان”.
باتت الشركات العالمية والأشخاص المؤثرون الضالعون في دعم جرائم الاحتلال الإسرائيلي، أهدافًا محددة لحملات المقاطعة الدولية العابرة للحدود، بسبب تورط تلك الشركات والكيانات والمؤسسات في تمييع الجرائم الإسرائيلية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ومساعدتها على عيش ظروف طبيعية، بغض النظر عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين والجيران العرب على مدار عقود من الزمن.
حددت الأمم المتحدة، قائمة تضم 112 شركة حول العالم، لها علاقات تجارية مع مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية، في مخالفة للقانون الدولي الإنساني.
حركة المقاطعة الثقافية والاقتصادية لإسرائيل هي المنظمة السياسية الأكثر خوفًا من قبل إسرائيل في الوقت الحالي، بسبب صداها وتحالفاتها الدولية الواسعة، وللضرر السياسي الذي تسببه على الصورة الإسرائيلية، وأخيرًا وليس آخرًا، للتأثير الاقتصادي الهائل الذي يمكن أن ينبع منها في المستقبل.
علاوة على ذلك، وبالنظر إلى القضية من منظور تاريخي؛ فإن حملة المقاطعة تزداد ثقلًا وتشابهًا مع مرور الوقت، مقارنةً بالصراع الذي أدى إلى سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في عام 1994. لكل هذه الأسباب، من الواضح أنه ليس من قبيل المصادفة أن الكنيست الإسرائيلي صوّت على قانون اضطهادي ضد الحركة يمنع نشطاءها من دخول فلسطين المحتلة، وأن العشرات من أنشطة المقاطعة الدولية حظرتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السنوات القليلة الماضية.
وتقود حركة المقاطعة في الأراضي الفلسطينية اللجنة الوطنية للمقاطعة، وتحت اللجنة الوطنية للمقاطعة، هناك لجان فرعية مختلفة، أو بالأحرى اللجان المحلية، مثل هذه اللجان في قطاع غزة ومختلف مناطق حكم السلطة الفلسطينية. حركة المقاطعة هي إذًا المنظمة الفلسطينية الأكثر اتساعًا وتنوعًا في المجتمع الفلسطيني.
بيد أن نشاط المقاطعة في الأراضي المحتلة صعب للغاية، وفي مقابلة مع “مواطن” يقول المنسق السابق لحركة المقاطعة الثقافية والاقتصادية في قطاع غزة عبد الرحمن أبو نحل: “إن الاقتصاد الفلسطيني يقع أسيرًا تحت السيطرة الإسرائيلية كما تقرر مع بروتوكول باريس لعام 1994، وإن غزة تحت الحصار الإسرائيلي منذ عام 2006، ونحن نواجه إغلاقًا تامًا”، ويضيف: “لم تسمح إسرائيل إدخال شيء إلى غزة إلا إلى السلع اللازمة لعدم تركنا نموت”.
يقول أحد نشطاء الحركة في إيطاليا فضّل عدم ذكر اسمه: “لكن كل هذا يمنح حركة المقاطعة المزيد من التحالف على الجانب التقدمي، حتى الأحزاب اليسارية التي تناضل من أجل نبذ العنصرية وعنف الاحتلال، تهاجمها سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستخدام حجة كاذبة بأننا منظمات معادية للسامية”، ويضيف: “لكننا فخورون بأن العديد من المنظمات اليهودية تدعمنا، ونشرت أكثر من 40 منظمة يهودية نداءً ينص على أن حركة المقاطعة ليست معادية للسامية”.