تقوم نظرية الفيض في الفلسفة على حقيقة أن هناك عالمين، الأول: مادي محسوس، والثاني: معنوي مفارق، العالم الأول هو الذي نراه ونعيشه ويتمتع بكل خواص الجزئيات والنقصان، بينما العالم الثاني لا نراه لكنه يتمتع بخواص الكمال والكليات، ووجوده لدينا محصور في المُثُل العليا التي تشكل في أذهان البشر (عالم المُطلقات).
من هذه الفكرة خرج أفلاطون بنظريته عن “الكهف” وملخصها أن للعالم وجودين اثنين هما: أولاً عالم المثال الدائم الأزلي الذي تعيش فيه المفاهيم والثقافة وجوهر الكون، ثانيًا عالم الواقع الجزئي الميت الذي نراه؛ فيكون وجود الأول حقيقيًا؛ بينما وجود الثاني متوهمًا، وقد مثّل أفلاطون نظريته بكهف يعيش فيه إنسان وبجانبه نار تعكس ضوء الخارج عليه ليرى ظلال العالم الخارجي، هذه النار أو هذه الطاقة التي ساعدته لرؤية الظلال، هي الوجود الحقيقي أو عالُم المُثُل العليا الدائم، بينما الأشياء في الخارج لم يرها على حقيقتها بل رأى ظلالها فقط؛ فتُصبح رؤية ظلال الأشياء عند أفلاطون دليلاً على أن الإنسان لا يرى شيئًا حقيقيًا في الواقع كونه لا يدوم؛ بل إن وجود هذه الأشياء متعلق بالنار أو الطاقة التي تسقط الظلال داخل الكهف فقط، وأن الذي يراه حقيقيًا هو النار أو الطاقة العليا التي من خلالها نرى الأشياء.
نظرية كهف أفلاطون عند كثير من الفلاسفة هي طريقة عقلية روحانية للاستدلال على الله أو الخالق الأزلي أو واجب الوجود، وبرغم أن عليها مطاعن كثيرة واعتراضات؛ خصوصًا من أصحاب الفكر الواقعي والمادي، لكن النظرية صمدت بفضل شراحها وتطورها اللاحق في الأفلاطونية المحدثة؛ فيكون أفلاطون بهذه النظرية هو مؤسس عقيدة (وحدة الوجود) الدينية، أو هو شارحها الأكبر، والتي جاءت من خلال فلاسفة الفيض بالأديان الإبراهيمية؛ فالوجود الحقيقي عنده واحد مثالي أزلي، وأما الأشياء التي نراها فهي عارض لهذا الوجود ومتعلقة به وجزء منه، وكأن أفلاطون كان يثور على أساطير اليونان ليعيدهم إلى إله واحد أزلي متعالٍ عن صور الأشياء.
في الحقيقة إن أفلاطون لم يقل إن الأشياء التي نراها غير موجودة كما يظن البعض؛ بل هي موجودة، لكن وجودها جزء من وجود أعظم؛ فتظل محتملة ومتوهمة، لأن الوجود الحقيقي في ذهن أفلاطون هو الدائم الكلي، أو المصنع والشريان الذي ينتج أشياء ومفاهيم كل يوم وهو الأحق بالفهم من أي وجود آخر، إذًا فالقضية عند أفلاطون هي قضية (أولويات)؛ فيرى أن الأحق بالفهم والتأمل والتدبر ليست الأشياء التي نراها؛ بل الذي أوجد تلك الأشياء في عالم المُثُل، وبصريح العبارة فهو تفكير ميتافيزيقي بحت لكون الرجل كان منشغلاً بشكل كلي بالبحث عن القوة العليا الدائمة التي تُسيّر هذا الكون وأوجدته.
لم يقل أفلاطون إن الأشياء التي نراها غير موجودة كما يظن البعض؛ بل هي موجودة، لكن وجودها جزء من وجود أعظم
ولفهم القصة من جذورها؛ فالبشر قبل ظهور الفلسفة اليونانية في الألف الأول ق. م، كانوا يرون الوجود والعقل والقلب والدين وكل شيء ممثلاً في (الآلهة) وتماثيلهم المختلفة، أما الفرعون أو الملك فهما ظلال الآلهة في الأرض يحرم الخروج عليهم أو معارضتهم بصفتهم وارثي مُلك الآلهة ووجودهم الحقيقي؛ فعندما نشط العقل اليوناني في شرق أوروبا كان يسأل: هل ذلك الوجود الموروث الذي يعيشه الناس حقيقي؟ هل فكرة البشرية عن وجود الآلهة والأشياء عقلانية؟ فالسؤال رغم بساطته لكنه كان وظل محور الفلسفة اليونانية التي تفرعت لاحقًا لأنشطة إثبات وفهم معاني الروح العقل والواقع والمثال والعدل والعلم والدولة والسياسة. إلخ.
كانت أول ثورة عقلية يونانية على الفكر البشري القديم؛ فهي التي بدأت في تحرير معنى الوجود في القرنين 6، 7 ق. م عن طريق 7 فلاسفة عُرِفوا بحكماء الإغريق السبعة، أشهرهم طاليس وسولون، الذين تأملوا في الكون بعقولهم وكسروا ما عاشت عليه البشرية في الدين آلاف السنين، وعن طريق الحكماء السبعة بدأ الناس ينظرون في حقيقة دينهم وما هو أصل الكون بعيدًا عن أساطير الأديان؛ فوصلوا لنظرية (الأصل المائي) لطاليس وغيرها، ثم بدأ الإنسان في الثورة على معتقده القديم حتى ظهرت أديان بوذا وزرادشت، وبدأ أحبار اليهود في كتابة التوراة، علمًا بأن الثورة العقلية اليونانية كانت جزءً من ثورة عقلية إنسانية كبرى على الدين البدائي القديم، لكن ما حدث في اليونان كان أدق وأعمق وأكثر شهرة وأكثر تأثيرًا في تاريخ البشرية، لعوامل؛ منها سبق اليونان والأوروبيين غيرهم في علم التجريب والرياضيات وامتلاكهم بعض سبل القوة في المعارك والسيطرة، ولأن ممالك الإسكندر والرومان حفظت منتجات هذه الثورة العقلية من كتب ومصنفات فبقيت ليراها الجيل المتأخر.
ومجمل ما وصل إليه حكماء الإغريق السبعة هو إعادة النظر في مفهوم الدين والأشياء والعدالة وسلوك الإنسان والعقل والبحث في جذور الأشياء، لكنهم لم يربطوا بين هذه المفاهيم بشكل أعمق لتفسير علاقة الإنسان بالوجود بعيدًا عن الدين، ويمكن حصر إنجازهم العقلي الأكبر في أن تلاميذهم وصلوا للديمقراطية، ولتبسيط مشكلة الوجود التي رآها فلاسفة اليونان؛ فأنت عندما يكون لديك حصان فهو يظل موجودًا إلى أن يموت، وبالتالي فهو له بداية ونهاية. هذا الوجود للحصان عند اليونان ليس حقيقيًا لأنه (وجود جزئي معدوم)، لكن مفهوم الحصان نفسه لغويًا هو الدائم ليشمل كل الخيل التي عاشت وماتت وستعيش للأبد، وقد ميزت هذه الطريقة فكر اليونان التي عبّرت بوضوح عن بحثهم الدائم عن الكمال والمطلقات والنظر في قوانين وسنن الكون بأدق التفاصيل.
من خلال هذه المقدمة لشرح فلسفة أفلاطون يمكن فهم “الأفلاطونية المحدثة” التي جاء بها بعض الفلاسفة في القرن الثالث الميلادي، أشهرهم “أفلوطين” (204- 270م)، ودامت هذه الفلسفة حتى القرن 6 م حين أغلق الإمبراطور الروماني “جستنيان” كافة مدارس الأفلاطونية المحدثة عام 529م، وحظر نشاطاتها وعمل روادها، وقد تركزت بشكل أساسي هذه النشاطات في الإسكندرية بمصر إضافة لروما وأثينا، ونادت بإعادة الاعتبار لمركزية العواطف والمشاعر في البشر باعتبارها من أدوات العلم التي لا تتعارض مع الذكاء العقلي الهلليني، وهي هنا كانت تنادي بالجمع بين المشاعر والروحانية والنظر لما وراء الحس بالواقع المادي، وفي هذه النظرة تم اعتبار الأفلاطونية المحدثة على أنها من ظواهر التفكير الفلسفي “الهلنستي” الذي جمع بين الروح المشرقية والعقل اليوناني.
وكعادة بحث اليونان عن الكمال – كما تقدم -، ظهرت الأفلاطونية المحدثة لتضع الكمال والمطلق هو الأصل الذي تنبثق وتفيض عنه كل الموجودات؛ فالإنسان سيظل في صراع دائم للعودة إلى الأصل؛ فهو عندما يخطئ يصارع نفسه والعالم لكي يعود لكماله السابق وتبرؤه من الخطايا، وعندما يفشل يظل يكافح ويناهض كافة عوامل الفشل لينجح، وعندما يتعثر يسعى لهدم وعبور كل الحواجز التي أدت لتعثره؛ فالكمال عند اليونان هو (عالم الروح المتعالي) أو (المُثُل العليا) عند أفلاطون، ومن خلال هذا المستوى من الكمال ينبثق وتفيض عنه مستويات أخرى أقل كمالاً (كالعقل والنفس)، ومن خلال هذا المستوى تنبثق وتفيض عنه مستويات أقل كمالاً (كالقوة)، ومن هنا يظهر (هرم الكمال المطلق) في الأفلاطونية المحدثة أن أي موجود بالعالم منبثق عن روح عليا تمثل عالم الكمال المطلق والأزلي؛ فجميع المفاهيم والأشياء إذًا يرتبط وجودها بموجود (أول وواحد) هو لب وغاية بحث الأفلاطونية المحدثة.
ومن خلال هذا التفكير الأفلاطوني وصل هؤلاء الفلاسفة لمفهوم “وحدة الوجود” الذي قال به فلاسفة المشائية في الفكر الإسلامي “كالفارابي وابن سينا وإخوان الصفا” وغيرهم، ويمكن فهم آلية عمل وحدة الوجود بنظرية “الفيض الإسلامية“، التي تعد من أبرز معتقدات الفلاسفة والصوفيين المسلمين الأوائل، ومعنى هذه النظرية أن الله أفاض من صفاته على الكون ليُوجَد؛ فالله هو الكمال المطلق والأزلي، أو الذي عرفه فلاسفة الأفلاطونية المحدثة بالروح المتعالية والمثل العليا التي تتنزه عن الصغائر والنقائص، وأن كل الموجود صدرت أو فاضت من الله بمن فيهم البشر كما يفيض الضوء عن المصباح، وكما يفيض النور عن الشمس، وقد اعتمد مفكرو المسلمين في تلك الجزئية على قوله تعالى: “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة ” [النور : 35] وكما في قوله تعالى أيضًا: “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” [المائدة : 15].
نادت الأفلاطونية المحدثة بإعادة الاعتبار لمركزية العواطف والمشاعر في البشر باعتبارها من أدوات العلم التي لا تتعارض مع الذكاء العقلي الهلليني
فكل مخلوق به من فيض الله وصفاته، ولوجود اتصال هنا يعني أن قولهم بالفيض هو أن الله ومخلوقاته وكونه واحد، ثم قالوا بتأويل صفات الخلق والبديع على هذا النحو الفيضي الذي يلزمه تفسير أخلاقي للكون، بأن الفيض والمشترك الوصفي بين الله ومخلوقاته يعني وجود صلة دائمة بين العبد وربه لا تنقطع أبدًا مهما أخطأ، وفي القرآن حضّ وتوضيح على هذا الصلة التي تُكثر من الرحمة والغفران والعفو والصفح، والتأكيد على أن باب التوبة مفتوح دون حواجز وشروط. وطبيعي أن من ينظر للكون بنظرية الفيض هذه (يتطرف في الرحمة) باعتبار أن صفات الرحمن والرحيم لله دائمة ومطلقة لا تزول، ومن خلالها بعث الله الرسل والأنبياء كما في قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” [الأنبياء : 107].
وقلت تطرف في الرحمة، لأن كل سلوك يقبل الزيادة والنقصان؛ فالعقل به تطرف أيضًا لكون العقل سلوك إنساني بالأساس يتطور بالخبرة والتراكم، وهذا يعني أن هناك نوعًا من الرحمة والعقل مرفوض عند البشر بأدلة عقلية وأخلاقية معًا. شيء أدى بعد ذلك لإيجاد تعارض وتباين بين الدين والقانون أو بين الأخلاق والقانون في الفلسفة، أو بين كل ذلك وبين المصلحة، لكن النظر لعلاقة الله بعباده أو لعلاقة الروح المتعالية الكلية وما ينبثق عنها ويفيض منها مختلفة؛ فهي لا تتسم بتلك الصفات المحدودة والتعارضات الموجودة، لأن وجودها في الكون أكمل وأنزه من تعلقها وتأثرها بخطايا وقصور البشر وكافة المخلوقات.
وقد اشتهر عند بعض أصوليي المسلمين أن نظرية الفيض قال بها الفلاسفة بناء على أقوال أفلوطين، ومن ذلك ما قاله “عبدالله بن عبد الرحمن الجربوع” في كتابه “الأمثال القرآنية القياسية 5/ 111”: “ما قاله ابن تيمية – رحمه الله – من أن الغزالي أخذ نظرية فيض الأنوار من ملاحدة الفلاسفة الدهرية يؤيده ما توصل إليه المستشرق ” فنسك” في مقال له نشر عام 1941م، ذهب فيه إلى أن الغزالي استمد تلك النظرية من “أفلوطين”. ويرى د. عبد الرحمن بدوي – المتخصص – بدراسة الفلاسفة – أن الغزالي ربما يكون أخذها من بعض كتب الفارابي التي لخص فيها نظرية ” أفلوطين “. انْظر: مشكاة الأنوار للغزالي صـ 16). ومن ذلك أيضًا ما قاله “سليمان الخراشي” في كتابه “نقض أصول العقلانيين 1/ 21” (وكان من ضمن محاولات أفلوطين للجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو، القول بنظرية الفيض، وهي النظرية التي تبناها الفارابي فيما بعد ثم ابن سينا، حتى شاعت بين فلاسفة التصوف أمثال ابن عربي وابن سبعين).
ويمكن فهم هذا النقد والاعتراض من أصوليين المسلمين لنظرية الفيض ومنبعها الأفلوطيني من عدة زوايا:
- الأولى: أن عقول أصوليين المسلمين مصممة على قبول النص ظاهريًا بشكل حرفي؛ ما نتج عنه انتقال محدودية النص في الماضي للحاضر؛ الأمر الذي من شأنه استدعاء الماضي كدين وشريعة، وليس كتاريخ مثلما فعلت جماعات الإرهاب والعنف الديني تماما، إضافة لعدم مراعاة تماهي وجود النص مع رغبات وقرارات السلطة السياسية، مما أدى لشيوع الوهم والخرافات بين المسلمين وقادة الأحزاب الدينية بالخصوص، وهذه مشكلة قد ناقشها المرحوم “د نصر حامد أبو زيد” (1943- 2010م) في كُتُبه “نقد الخطاب الديني + فلسفة التأويل + النص السلطة الحقيقة” إضافة لدراسة بعنوان “اللغة الوجود القرآن- دراسة في الفكر الصوفي”.
- الثانية: أن القول بنظرية الفيض يعني هدم مذهب النقل، الذي هو أساس تكوين معتقد الأصوليين، والسبب في أن القول بالفيض يعني أن الله الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا نظير قد انبثق عنه “العقل الكلي”، الذي انبثقت منه “الروح”، والتي انبثق منها في الأخير “الجسد المادي”؛ فالعقل الكلي هو قوانين الله وضوابطه وهندسة الكون التي ضمنت لهذا العالم حياة طويلة دون فناء، والعقل من الإحكام والنظام. فالذي يسير بنظام محكم يبقى دائمًا، ويظل المؤمن في تحد لاكتشاف تلك القوانين بالتأمل والتدبر والكشف، وهذا الذي دفع بعض متصوفة المسلمين قديمًا أو المسيحيين أو الذين تأثروا بالأفلاطونية المحدثة بالعموم للقول (بالزهد واعتزال الناس)، لتوفير الظروف الملائمة للتفكير من الهدوء والتواضع والتخلي والتضحية.
ومُجمل هذه الزاوية أنها تؤمن بأسبقية العقل على النص لكونه منبثقًا من الله الواحد الأحد، وتؤمن بأسبقة الاجتهاد على التقليد لكونه سمة من سمات العقل ووسيلة أساسية للتأمل واكتشاف قوانين الكون المعقولة.
- الثالثة: أن قول فلاسفة الأفلاطونية المحدثة بالفيض أو الذين تأثروا بهم يعني تقديم الروح والمشاعر على الجسد الظاهري، وهذه نقطة يمكن فهمها بابتعاد هؤلاء عن السياسة وميلهم الفطري لمقاومة رغبات السلطة والهيمنة، مما يفسر أن تاريخ صوفية المسلمين يغلب عليه اعتزال السياسة، وتأييد الحاكم وعدم الانشغال بصراعات الأمراء والحكام، ولتقريب هذه الجزئية أكثر؛ فالروح ليست مجرد مشاعر وعواطف؛ إنها حاصل جمع العقل الكلي المنضبط مع المشاعر والعواطف؛ فالروح انبثقت من العقل ولأنها صارت جزء منه فورث بعض خصائصه، وهذا خلاف من يدعي التعارض بين مذهبي الروح والعقل بشكل تام؛ فمذاهب الروحانيين يكثر فيها استخدام العقل والفلسفة مثلما ترسخ عند من عُرفوا في الفكر الإسلامي بفلاسفة الإشراق والعرفان.
- الرابعة: أن القول بالفيض الأفلاطوني يعني أن الروح تتوسط العقل والجسد؛ فبالتالي على الإنسان أن يهتم بروحانياته – مشاعره وعواطفه – بالتوازي مع الاهتمام بخصائص العقل والجسد، وهذه عملية نفسية تتطلب القول بأولوية القيم الإنسانية (كالعدل والحكمة والأخلاق)، واعتبارها أصلاً للدين، وسببًا أصيلاً لخلق الكون ومعنىً متأصلاً لوجود الإنسان فيه، وقد أدى ذلك لتميز ديانات الصوفيين ومن تأثروا بالفيض في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوكيات، وقد أكثروا في التصنيف في هذا الباب العلمي دون الانشغال بمظاهر الجسد وعوارضه الأخرى كالسلطة والثروة، ولأن الفيض سلاح ذو حدين؛ فقد أدى هذا الاتجاه لنفي العلم أيضًا أو عدم الاهتمام به كونه عارضًا من عوارض الجسد في المعتقد الصوفي.
- الخامسة: موقف الأصوليين المتشدد ممن يرونه (تنجيمًا وسحرًا)؛ فكل ما لا تقبله عقولهم في عالم المادة يشرعون في تفسيره غالبًا على أنه من الدجل والشعوذة، وقد عانى علماء البشرية من هذا الموقف عند اكتشاف واختراع المواد بعصور النهضة والتنوير في أوروبا، وعانى قبلهم بعض علماء المسلمين كجابر ابن حيان المشهور “بأبي الكيمياء” (101- 194 هـ) في اتهامه بالسحر، حتى إن ابن تيمية الحراني نقل هذا الاتهام لجابر وقال إن ما يفعله في المواد من تحويل هو سحر شركي يخرج صاحبه من الملة.
وتفسير ذلك يعود لمحاورات أفلاطون؛ أشهرهم محاورة “فيدروس” Phaedrus الذي قال فيه بضرورة البحث في ما فوق العقل، وبالتالي ضرورة الجنون الذي قسمه لأربعة أنواع، سماها (أنواع الهَوَس الأربعة وهي التنبؤات + الشعر + الحب + الكشف الصوفي)، لأن البحث في ما فوق العقل سيكون بالعقل، وبالتالي نزع عنه صفة الفوق؛ فلا مناص إذًا من الجنون/ الهَوَس الذي يفرض على الإنسان أن يبحث فيما يراه جنونًا للوصول إلى الحقيقة، وهي المرتبة الفاصلة بين العقل الكلي وبين الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا نظير، وبالقطع سيكون بلوغ هذه المرتبة أمرًا غير عقلاني، هو منبع عمل المنجمين، لذا فقد اتهم كثير من العلماء بالتنجيم والسحر في البداية، حتى إذا تحقق الناس وعلموا بطبيعة الشيء، وأن ذلك التحول للمواد كان يلزمه خروج ولو محدود عن إطار العقل فصلوا بين العلم والسحر.
الهرمنيوطيقا أو علم التأويل لا يؤمن بالمعنى الظاهري للكلمة بمجرد نطقه، ولكن يبحث عن معانٍ خفية لها أو للجملة أو للسياق بالكامل عن طريق أدوات عقلية
ومن خلال هَوَس التنبؤات ظهرت العرافة التي مثلت عند أفلاطون حاصل جمع الروح والعقل؛ فهي تعتمد على العقلانية في التفسير والربط بين الأشياء في الواقع المادي، لكنها تستمد أصولها من المنطقة الفاصلة بين العقل الكلي والحقيقة الكبرى، الذي كان يصفه أفلاطون بالواحد، لذلك قال بضرورة “هَوَس الكشف” الذي جاء لاحقًا بما عرف بالعلم اللدني، ومن خلال هذا العرض لطريقة تفكير الأفلاطونية المحدثة نرى كيف أن جزءً كبيرًا في الصراع بين العلم والسحر والدين كان للثورة الفلسفية التي طرحها أفلاطون، وتجلت في أفلوطين، ثم ورثها فلاسفة المسلمين وأوروبا العصر الوسيط.
شئ آخر؛ فإن الأفلاطونية المحدثة قامت على يد فلاسفة مسيحيين كالقديس “أوغسطينوس” أسقف مدينة هيبو (354- 430م)، والذي تؤمن بقداسته كافة مذاهب المسيحية، ومن تعاليمه أن طقس التناول الذي يعد من أسرار الكنيسة ليس شيئًا رمزيًا، ولكن الشراب والخبز هما جسدا ودما للمسيح حقيقيان، مما أعطى بُعدًا تأويليًا للأفلاطونية المحدثة عرف لاحقًا بعلم “الهرمنيوطيقا” Hermeneutics أو علم التأويل المشتق من اللغة اليونانية من هرمس، وهو إله يوناني قديم، اعتبر أن علم التأويل قرين للهرمسية من هذا الجانب، علمًا بأن الهرمسية معتقد باطني غلب عليه التأويل وصارت له علاقة لاحقة بعلوم التنجيم والسحر، والمسيحية في أحد تجلياتها بالقرون الوسطى ثارت على هذا الاتجاه الهرمسي وعاقبت أتباعه بالحرق أحياء في صراع ديني شهير بأوروبا أدى للفصل بين المعتقدات الدينية المسيحية والتعاليم الباطنية الروحانية مما أعطى للمسيحية طابعًا ماديًا أكثر ظاهرية مما كان، وهو الأمر الذي خدم المعتقد البروتستانتي الإصلاحي في تلك المرحلة الزمنية، باعتبار أن البروتستانت هم أكثر مذاهب المسيحية ميلاً للفكر الظاهري.
ولتقريب هذه الجزئية أكثر فالهرمنيوطيقا أو علم التأويل لا يؤمن بالمعنى الظاهري للكلمة بمجرد نطقه، ولكن يبحث عن معانٍ خفية لها أو للجملة أو للسياق بالكامل عن طريق أدوات عقلية، مثال على ذلك قوله تعالى: ” اذهب إلى فرعون إنه طغى” [النازعات : 17]، هنا يجري تفسير فرعون بمعنى مختلف عن ظاهره الذي يعني أن ملك مصري قديم كان جبارًا ظالمًا، ولكن بمعنى آخر (كالقلب القاسي أو الغرور والتكبر)، فيكون المعنى اذهب لكل من له قلب قاسٍ أو كان مغرورًا متكبرًا فانصحه لعله يتذكر أو يخشى؛ فكلمة فرعون ليست مذكورة في السياق بدلالة الشخص ولكن بدلالة المعنى، كذلك في قوله تعالى عن القرآن: “لا يمسه إلا المطهرون”؛ فقالوا إن التطهير في ذلك السياق لمن (تطهرت أرواحهم من الشرور والحقد والكراهية)، ونتيجة لذلك التطهر (يكشف الله) معاني القرآن لنفس العارِف بالله أو الولي الصالح.
ومن هذه الفكرة خرجت مزاعم “العلم اللدني” التي قال بها الإمام “أبو حامد الغزالي” (450- 505 هـ)، ومعناها قذف الله العلم الإلهي لقلب الرجل الصالح دون واسطة ودون حاجة لاستخدام العقل أو توظيفه. كما سنناقشه بعد قليل.
وقد دخل هذا المذهب في تفاسير المسلمين التي عرفت لاحقًا بالتفاسير الباطنية أو التأويلية، أشهرها “مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار” للشهرستاني، و “روضة التعريف بالحب الشريف” للسان الدين ابن الخطيب، ودخل هذا المذهب جزئيًا في تفاسير كبرى شهيرة كالرازي والطبري وغيرهما، إضافة بالطبع لتفاسير الإسماعيلية القائمة على التأويل كليًا، إضافة لتفاسير أخرى باطنية كثيرة أذكر منها مؤلفات “علاء الدولة السمناني” المتوفى عام 1336م، وسهل التستري 896م، وعبد الكريم القشيري 1073م. وأشهر هؤلاء هو الإمام الصوفي الشهير “جلال الدين الرومي” المتوفى عام 1273م؛ فلم يصنف الرومي تفسيرًا خاصًا للقرآن، لكن أشعاره وحِكَمه الصوفية الباطنية كانت ملحقة بشكل مستقل في رؤية إدراكية لنصوص القرآن لم تسجل ككتاب، لكن سجلت كخواطر وإشارة للحكمة الرومية في التفسير الديني. (1) (2).
ينطلق الفكر الباطني للمسلمين من نفس الجزئية التي تنطلق منها الأفلاطونية المحدثة، وهي (الكمال المطلق والأزلي) الذي تفيض عنه كافة الموجودات
والسر في دخول هذا المذهب الباطني تفاسير المسلمين أن التفاسير الظاهرية اعتمدت على النص المنقول والمتأثر بعوامل السياسة واللغة والمكان والجغرافيا والمصالح؛ فيكون اعتماد الظاهر في معرفة القرآن نقصًا ومحدودية لا تليق عند بعض المفكرين؛ فهم ينطلقون من عالمية الرسالة، والقول بأن ظاهر القرآن كافٍ يجعله محدودًا بالزمان والمكان والمصلحة، مما يهدد مستقبل الدين حينما تتغير تلك الأمور؛ فوصل هؤلاء أن البحث في المعنى الباطني عن طريق تأويل مصطلحات وعبارات القرآن هي التي تقرب إليهم حقائقه، وفي القرآن إشارة لمشروعية ذلك الفعل بقوله تعالى: ” فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب”. [الحديد : 13] في بيان قرآني بعدم التسليم للظاهر والبحث عن بواطن الأمور ومعانيها.
وقد أفرد الدكتور “عبدالرحمن بدوي” (1917- 2002م) مساحة ضخمة في كتابه (الأفلاطونية المحدثة عند العرب) لكثير من هذا الاتجاه، ليقول بمنتهى الوضوح إن علم التأويل والهرمنيوطيقا دخل ثقافة المسلمين وتفاسيرهم الدينية بفضل الأفلاطونية المحدثة، وقد شرح في فصل كامل بهذا الكتاب تعاليم “هرمس” مع عرض شيق لمراجع وأبحاث وكتب الثقافة الغربية التي جاءت منها الأفلاطونية المحدثة وعلاقتها بكتب ومراجع وأبحاث المسلمين في المشرق، لنرى بعد ذلك اتصالاً وثيقًا بين الروح المشرقية التي استقبلت تأويل الأفلاطونية وتوسعت في شرحه بالعقل الهليني اليوناني الذي طوّر من وجود الإله “هرمس” اليوناني أحد كبار آلهة الأوليمب، وابن الإله الأكبر زيوس ليصبح أكثر شبهًا بثقافة وعلوم وروحانيات الشرق.
وينطلق الفكر الباطني للمسلمين من نفس الجزئية التي تنطلق منها الأفلاطونية المحدثة، وهي (الكمال المطلق والأزلي) الذي تفيض عنه كافة الموجودات؛ فوصل البعض منه إلى فكرة “العلم اللدني” الذي ميز قصة موسى والخضر في القرآن، مصداقًا لقوله تعالى: “فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما” [الكهف : 65]. والعلم اللدني ليس هو الذي يأتي بالاكتساب والجهد والحرص على تحصيل المعلومات وتقصي الحقائق، ولكنه طاقة نور يبعثها الله من فيضه على العبد الصالح؛ فالعلم الحقيقي يأتي بالعبادة والصدق، وهو منشأ من جذور التصوف الغنوصي الذي يقول بأن كمال العبادة والصلاح يعني كمال العلم؛ فوصلوا إلى أن السلوك والأخلاقيات شرط أساسي لبلوغ هذا العالم الفوقي اللدني؛ فمن قامت عبادته قامت علومه، ومن حاد عن طريق الأخلاق والصلاح حاد عن طريق العلم والمعرفة.
لكن ولبعض السلبيات التي نتجت عن القول بصحة العلم اللدني، قام بعض العقلاء بنقد هذا العلم، وأنه مجرد خرافة لم يقل بها الدين الإسلامي، وأن العلم اللدني الذي وهبه الله للخضر كان بأسباب حصّلها الخضر نفسه واجتهد بشأنها، لكنه لم يكن مجرد كشف لبلوغ العبادة مثلما ادعى ذلك أشهر متصوفة المسلمين وهو الإمام “أبو حامد الغزالي”، وقد رد عليه الدكتور والمفكر المصري “زكي مبارك” (1892- 1952م) في كتابه ﴿الأخلاق عند الغزالي﴾ سنة ١٩٢٤، الذي انتقد فيه نظرية التواكل ونفي الأسباب عند أبي حامد، حتى رُميَ بالكفر والزندقة من بعض فقهاء الأزهر آنذاك. وهو كتاب مهم لنقد التدين الحالي القائم أساسًا على فكر الغزالي التواكلي، وإنكار العلم وقوانين الكون الذي هو عارض من عوارض القول بالعلم اللدني، وأفضل ما في الكتاب أنه تعامل مع الغزالي كحالة تاريخية، لذا كان من الضروري نقده سياسيًا واجتماعيًا بالتوازي مع النقد الفكري.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.