لازالت تداعيات وتوابع أحداث جنين الفلسطينية التي اندلعت بداية الشهر الحالي، تفرض نفسها على الساحة السياسية، وشهدت الفترة الأخيرة حملة اعتقالات في جنين، قامت بها السلطة الفلسطينية بزعم ملاحقة جهاديين، ما أثار غضب الفلسطينيين من جديد؛ خاصة وأن تلك الإجراءات جاءت بعد أيام قليلة من قيام إسرائيل باقتحام جنين وضربها بالطائرات.
استهدفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من عملية اقتحام مخيم جنين القضاء على المقاومة الفلسطينية، وتوجيه ضربات قوية لبنيتها التحتية، استخدمت فيها ٢٠٠٠ جندي من جنود الاحتلال، وشنت أكثر من عشرين غارة جوية.
اعتبرت كل من المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، والمقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان للمشردين باولا غافيريا بيتانكور، أن العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في مخيم جنين، ترقى إلى جرائم حرب.
وتشير التحليلات وفق تقرير منشور في سكاي نيوز عربية، إلى أن سبب العملية العسكرية، هو لفت الأنظار بعيدًا عن احتاجات المعارضة الإسرائيلية، بالإضافة إلى ضغط تيارات يمينية على الحكومة الإسرائيلية بتوجيه ضربة عسكرية ردًا على بعض عمليات الفصائل الفلسطينية؛ خاصة مع انطلاق بعض العمليات من جنين، والتي لا تريد تل أبيب أن تحصل الفصائل الفلسطينية على موطئ فيها، بسبب أن المسافة أقرب بكثير إلى الداخل الإسرائيلي مقارنة بقطاع غزة.
تحذيرات من آثار العنف ضد الفلسطينيين
في الوقت الذي زعمت قوات الاحتلال تحقيقها لانتصار عسكري على أولئك المدنيين العزل؛ يرى مراقبون ومحللون سياسيون أن ما حدث يؤكد فشل الإدارة الإسرائيلية في التعامل مع الأزمة سياسيًا وكذلك عسكريًا، لأن ما تم لم يكن سوى ارتكاب مزيد من الجرائم الإنسانية بحق الفلسطينيين، وهو ما وصفه مندوب فلسطين بالأمم المتحدة بأنه “عدوان همجي”.
"سيكون لمعركة جنين وتصاعد المقاومة الفلسطينية تأثير كبير وتداعيات على الهرولة الخليجية لتل أبيب؛ فنحن نعلم جميعًا أن الشعوب العربية ترفض التطبيع، بينما الحكام هم الذين يقبلون به". حسبما عقب لمواطن المفكر الفلسطيني كاظم ناصر
فيما اعتبرت كل من المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، والمقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان للمشردين داخليًا باولا غافيريا بيتانكور، أن العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في مخيم جنين، ترقى إلى جرائم حرب.
ووصف تقرير في الـ سي إن إن العملية العسكرية في جنين بالأكبر خلال آخر عشرين عامًا، وأشار التقرير إلى وجود مراهقين بين القتلى الذين قد يصل عددهم إلى اثنى عشر قتيلاً، أعلنت الفصائل الفلسطينية المسلحة عن انتماء ثمانية أفراد من بين القتلى لها، فيما أعلنت قوات الاحتلال أن القتلى لم يكن بينهم أي مدنيين.
وقام وفد دبلوماسي يضم أكثر من 30 سفيرًا وممثلًا لدول الاتحاد الأوروبي ودول غربية، بجولة استقصائية في مخيم جنين، كما أدانت الأمم المتحدة إسرائيل لاستخدامها القوة المفرطة.
تصنع الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين بين تارة وأخرى، صدى واسعًا من التعاطف مع ضحايا العدوان، وغضبًا جمًّا تجاه إسرائيل؛ ما يوقع بالدول المتجهة نحو التطبيع مؤخرًا في حرج أخلاقي أمام شعوبها المتعاطفة مع الجانب الفلسطيني، مع الوضع في الاعتبار أن المبرر المعلن للدول الخليجية التي وقعت اتفاقيات مع إسرائيل، هو السعي إلى نشر السلام، والعمل على نزع فتيل الحروب والصراعات، ورفع الظلم عن الفلسطينيين، إلا أن ما يحدث على أرض الواقع يشي بعدم مصداقية هذه المبررات.
الأمر لم يتوقف على الغضب الشعبي والأمنيات بفرملة عجلة التطبيع على خلفية تردي الأوضاع الفلسطينية بسبب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وإنما امتد إلى تصريحات سياسيين أمريكيين تكشف عن التخوف من تأثير العمليات ضد الفلسطينيين سلبيًا على جهود التطبيع التي تقوم بها بلادهم كوسيط بين إسرائيل والدول العربية.
وأعرب السفير الأمريكي السابق في إسرائيل دانيال شابيرو، عن تخوفه من تراجع الدعم الشعبي للتطبيع، حتى في الإمارات والبحرين، وأن اتفاقيات التطبيع تواجه تحديات جديدة بسبب تصاعد مستوى التوترات الإسرائيلية الفلسطينية، وذلك وفق ما كشفه موقع Atlantic council عما دار في جلسة استماع للسفير الأمريكي أمام الكونجرس في مارس 2023.
"ما يتعرض له الشعب الفلسطيني ليس عنفًا عاديًا؛ بل لا يمكن أن نطلق عليه "عنفًا"؛ إنما سياسة تطهير عرقي وفصل عنصري يمارسه جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين". يقول رضي الموسوي
وفي أعقاب التصعيد الإسرائيلي المستمر بالضفة الغربية في يونيو من العام الحالي، حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين من صعوبة توسيع اتفاقيات التطبيع لتشمل السعودية وذلك في مكالمة هاتفية معه، قال له فيها إنه من الصعب وربما المستحيل، تعزيز اتفاقيات التطبيع أو توسيعها من خلال التطبيع مع السعودية، بينما الساحة الخلفية لإسرائيل مشتعلة.
ويؤيد ذلك المفكر والكاتب الفلسطيني الدكتور كاظم ناصر الذي قال: “إن ممارسات حكومة إسرائيل العدوانية الحالية ضد الفلسطينيين أحرجت قادة دول التطبيع في المنطقة العربية، وجعلتهم يشعرون بخيبة أمل”. ويشير إلى أن “التطبيع مع المحتل لن يجلب لهم الأمان والسلام لشعوب المنطقة كما يعتقد بعض الحكام العرب”.
ولا تتفق هديل كمال الدين، عضو الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع، مع المفكر الفلسطيني قائلة: “لا أعتقد بوجود أي حرج أخلاقي بالنسبة لمعسكر التطبيع؛ فبالرغم من رفض شعوب الخليج للتطبيع بشكل قاطع، إلا أن بعض دول الخليج، أصرت على علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، على الرغم من عدم اضطرارها لذلك”.
وتشير إلى أن أحداث العنف ضد الفلسطينيين كانت ولا زالت مستمرة، وعلى الرغم من ذلك استمر توقيع الاتفاقيات من قبل بعض الحكومات الخليجية مع الكيان الصهيوني.
تقول القانونية والناشطة في مجال مناهضة التطبيع: "من يقف مع الحق الفلسطيني، وقلبه على أهل فلسطين لا يتغير، و من لديه خطط للتطبيع سيستمر فيها"
ويعلق الكاتب والسياسي البحريني، رضي الموسوي: “يقف الشعب الفلسطيني وبعد أكثر من سبعين عامًا شامخًا في نضاله وتصميمه على تحرير أرضه، على الرغم من التضحيات الجسام، والتواطؤ الذي يحصل منذ عقود طويلة وتوج في اتفاقات التطبيع”.
ويضيف: “ما يتعرض له الشعب الفلسطيني ليس عنفًا عاديًا؛ بل لا يمكن أن نطلق عليه “عنفًا”؛ إنما سياسة تطهير عرقي وفصل عنصري يمارسه جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، وهذا فعل فاشي وجريمة مستمرة”.
ويؤكد “زادت الفاشية الصهيونية في توحشها مؤخرًا، وضاعفت عمليات القتل والتهجير والتشريد والأسر تحت غطاء دولي وتواطؤ وصمت عربي مريب”.
مشاريع التطبيع في الخليج، إلى أين؟
شهد عام 2020 قفزات سريعة في خطوات التطبيع الإسرائيلي الخليجي، والتي تركزت جهودها في منطقة الخليج بدعم أمريكي فعال، أكده وزير الخارجية الأميركي وقتها، مايك بومبيو خلال جولة في الشرق الأوسط في أواخر أغسطس من نفس العام، والتي أعرب خلالها عن تفاؤله بأن المزيد من الدول العربية ستطبع علاقاتها مع إسرائيل.
وتعد الإمارات هي أول دولة خليجية أعلنت عن إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل وذلك برعاية أمريكية، وكان الدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية، قد صرح بأن تطبيع بلاده العلاقات مع إسرائيل كان ضروريًا، لمنع الإسرائيليين من فرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، مشيرًا إلى أن خطة الضم الإسرائيلية كانت ستقضي تمامًا على حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني؛ إلا أن إسرائيل نفت ذلك وقالت إنها لم توافق إلا على تأجيل خطتها، وليس وقفها نهائيًا!
وكانت البحرين هي المحطة الثانية في قطار التطبيع الإسرائيلي الخليجي، وهي أول دولة خليجية رحبت باتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل. وتعود الاتصالات بينها وبين إسرائيل إلى فترة التسعينيات من القرن الماضي. وعلى الرغم من أن عمان لم تقم بعد علاقات رسمية مع إسرائيل، لكنها كانت من المرحبين باتفاق التطبيع الذي أقدمت عليه كل من الإمارات والبحرين، كما أن السلطان الراحل قابوس قد أجرى محادثات مع نيتانياهو في مسقط عام 2018.
وسبق تلك الخطوة تبادل افتتاح مكاتب تمثيل تجاري عام 1996 بين عمان و إسرائيل قبل أن يتم إغلاقها عام 2000 للتضامن العماني مع الانتفاضة الفلسطينية آنذاك، ويبقى الموقف العماني حذرًا من التطبيع مع إسرائيل بسبب حالة الرفض الشعبي والضغط الإيراني. ولم تفتح عمان مجالها الجوي لإسرائيل في 2020 مثلما فعلت السعودية، في ظل توجه برلماني بتوسيع قانون مقاطعة التطبيع حسب مطالبات لأعضاء في مجلس الشورى العماني، على خطى كل من الكويت والعراق، بحظر أي تعامل للأفراد والجهات الاعتبارية مع إسرائيل.
"الدول التي أقدمت على التطبيع ترتبط بسياسة أكبر من رد فعل على أحداث جنين أو غيرها". حسبما قال مصطفى الشميري أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد لمواطن.
وبالنسبة لقطر فهي لا تخفي اتصالاتها مع إسرائيل، وكانت أول دولة خليجية تفتح فيها إسرائيل مكتبًا تمثيليًا، وذلك في العام 1996، ولكن تم إغلاقه في 2000؛ ما يعني تأثر العلاقات بما يدور في الأراضي المحتلة من ممارسات إسرائيلية. كما استبعد وزير الخارجية القطري مسألة تطبيع بلاده مع إسرائيل، رابطًا مسألة العلاقات بالسلام مع الفلسطينيين.
أما الكويت وعلى الرغم من كونها حليفًا للولايات المتحدة، لكنها ترفض الحديث عن أي تطبيع، والذي يبدو بعيدًا ويزداد صعوبة في ظل اشتعال الأوضاع في فلسطين، وتصاعد العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. بينما السعودية والتي يزداد الحديث عن اقترابها من خطوة التطبيع، إلا أن موقفها الرسمي هو أن التطبيع لن يتم إلا بمنح دولة للفلسطينيين؛ حسبما أكد وزير خارجيتها فيصل بن فرحان.
ونخلص من هذا إلى أن المواقف الرسمية لدول الخليج غير المطبعة، تتوقف على حل القضية الفلسطينية، ما يجعل أي أحداث عنف من الجانب الإسرائيلي يفترض أن تشكل عائقًا للتطبيع، إلا أن الافتراضات المنطقية لا يفترض أن تكون نفسها واقع الأمر، كما أن السياسة دائمًا ما تحمل لونًا رماديًا يستخدم الأخلاق تارة، ويتجاهلها تارة أخرى.
وعن هذا يرى المحلل السياسي العراقي الدكتور مصطفى الشميري أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد عدم حدوث تأثير لأحداث جنين على مواقف التطبيع ويضيف لمواطن: “الدول التي أقدمت على التطبيع ترتبط بسياسة أكبر من رد فعل على أحداث جنين أو غيرها، كما أن إسرائيل لم تتغير سياستها منذ القدم؛ فهي قائمة على العدوان والتوسع الاستيطاني المستمر؛ فأقصى ما أتوقعه هو ردود فعل آنية، لا ترتقي إلى تراجع أو تحول كبير في سياسة التطبيع، لا سيما وأن هناك لاعبًا دوليًا كبيرًا متمثلًا في الولايات المتحدة”.
وفيما يتعلق بالدول التي لم تطبع علاقاتها مع إسرائيل، يقول: “ستمضي قدمًا إلى التطبيع، حتى وإن تجمدت الخطوات في الوقت الحالي، لكن لن يحدث تراجع ولا تحول كبير، وسبب ذلك من وجهة نظري، أن الدول الخليجية وغيرها من دول عربية متجهة للتطبيع، وصلوا جميعًا إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن محاربة إسرائيل”.
وعن مستقبل التطبيع مشاريع التطبيع في المنطقة تعلق هديل كمال الدين: “من يقف مع الحق الفلسطيني، وقلبه على أهل فلسطين لا يتغير، و من لديه خطط للتطبيع سيستمر فيها؛ فهناك حكومات مهيأة للتطبيع، لكنها تنتظر الظروف المناسبة. وتختم: “يجب أن تقف كل الدول العربية والخليجية أمام العنف الواقع ضد الفلسطينيين، بدل وضع الشعوب في مواقف حرجة أمام إخواننا في فلسطين، لذا نتمنى أن تبقى هذه الدول الخليجية (غير المطُبعة) صامدة على موقفها”.
ويرى رضي الموسوي أن جرائم الكيان الصهيوني ربما تشكل بعض الحرج عند بعض الحكومات الخليجية المطبعة، لكن هذا الحرج لايبدو أنه يتحول إلى فعل حقيقي. يتمثل في التوقف عن التطبيع وطرد سفراء الكيان من العواصم المطبعة، وإغلاق السفارات وإلغاء الاتفاقيات الموقعة معه بعد أن تكشفت الأهداف الحقيقية لها؛ وهي استئصال الشعب الفلسطيني من أرضه وتثبيت كيان الدولة القومية والقيام بعملية ترانسفير للشعب الفلسطيني.
ويضيف: “ربما نشهد خطوات تطبيعية جديدة في منطقة الخليج، يعتمد هذا على طبيعة وحجم الضغوطات التي تتعرض لها المنطقة من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، والتي تبحث عن مكسب للرئيس جو بايدن لحملته الانتخابية المقبلة؛ إنه يريد أن يطمئن اللوبي الصهيوني في أمريكا بأن الإدارة الحالية معنية بمواصلة ما بدأه الرئيس السابق دونالد ترامب”.
ويوضح أن صمود الشعب الفلسطيني يحرج الجميع ويضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية وواجباتهم تجاه القضية المركزية للأمة، الأمر الذي يفرض تحركًا من طراز جديد يغير المعادلات القائمة حاليًا، كما يفرض على دول الخليج اتخاذ موقف موحد ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني ودعم الشعب الفلسطيني على كافة الاصعدة.
وعلى الرغم من التشابكات ما بين السياسي والجماهيري والأخلاقي؛ فلا يمكن لأحد مطالبة الشعوب الكف عن الدعم والتعاطف مع الفلسطينيين؛ في ظل انقسام خليجي ما بين التطبيع الحكومي الرسمي وعدم التطبيع المعُلن مع الاكتفاء بحد أدنى من العلاقات في الظل، يأمل داعمو القضية من الخليج وخارجه، باهتمام أكبر من قبل حكومات بلادهم، من أجل رفع الظلم عن الجانب الفلسطيني ونصرة قضيته.