أدى تأخر دول الخليج في ترسيم الحدود بينها، أو مع دول الجوار وبالأخص إيران، إلى مشكلات وخلافات كثيرة منذ حصولها على الاستقلال، وما قضية حقل “الدرة” للغاز، التي ظهرت على السطح في الفترة الأخيرة إلا حلقة في هذه السلسلة التي تمتد منذ عقود، وشكلت واحدة من أبرز الخلافات في البيت الخليجي.
لم تكن لبريطانيا رسميًا أية مستعمرات في منطقة الخليج، ولكنها كانت القوة الأجنبية الأكبر في المنطقة منذ القرن الثامن عشر وقد اتبطت معها إمارات الساحل المتصالح ( الدول الخليجية بعد ذلك) بمعاهدات حماية
ونصت تلك المعاهدات على أن تسيطر بريطانيا على سياسات هذه الإمارات الدفاعية والخارجية، بينما يتولى الزعماء المحليون شؤون إماراتهم الداخلية.
ومع تخارج الإنجليز من المنطقة في نهاية ستينيات القرن الماضي، وحصول الدول الخليجية على استقلالها، لم تكن الحدود بين هذه الدول الوليدة مُرسّمة بشكل فعلي، ما تسبب في كثير من المشكلات بين هذه الدول وبعضها من جهة، وبينها وبين الجار القوي إيرن من جهة أخرى.
الخلافات الحدودية
هناك عدة خلافات حدودية بين الدول الخليجية تؤدي إلى بعض التوترات فيما بينها، ومنها الخلافات بين قطر والبحرين اللتان تطالبان بالسيادة على جزر حوار المسيطر عليها فعليًا من قبل البحرين منذ عام 1930، وكذلك على مدينة الزبارة في الطرف الشمالي لشبه جزيرة قطر المسيطر عليها حاليًا من قبل قطر، على الرغم من أنها مقر لأسرة آل خليفة قبل السيطرة على البحرين في عام 1783.
وهناك أيضًا خلاف بين الدولتين حول جزيرة حدجنان، وعلى مجموعة من الجزر غير المأهولة، والتي تبعد بضعة كيلومترات عن قطر، وعلى بعد 20 كم من البحرين.
الدولتان تبنتا في نهاية الأمر قرار المحكمة الدولية الذي صدر في شهر يونيو 2001 بنقل سيادة جزر “حوار” إلى البحرين، وبقية المناطق التي تتواجد فيها طبقات كبيرة من النفط إلى قطر، وتجدد هذا الخلاف خلال مقاطعة قطر “2017 – 2021″، عندما تم القبض على بعض الصيادين البحرينيين اتهمتهم قطر بدخول مياهها الإقليمية.
وهناك خلافات بين قطر والعربية السعودية، تتنازعان على المنطقة التي أعطيت للسعودية من قبل دولة الإمارات كجزء من اتفاق، تم التوصل إليه عام 1974، والذي يحرم قطر من الانتقال البري إلى دولة الإمارات، وهي منطقة “خوفوس“.
كما تم حل النزاع حول واحة البريمي بين عمان ودولة الإمارات والسعودية في 1974، منح عمان ثلاث قرى، ودولة الإمارات القرى الست المتبقية.
بعد ذلك بثلاثة أعوام في نوفمبر 1977 أعطت عُمان للنزاع بينها وبين إمارة رأس الخيمة التي تقع بالقرب من شبه جزيرة “مسندم” بُعدًا علنيًا.
لامس النزاع قطاعًا بطول 16 كلم بالقرب من مضيق هرمز؛ حيث اكتشفت فيه حقول نفط كبيرة وهامة، وأرسلت عمان قوات مشاة وسفينة حربية لمطالبة رأس الخيمة بأن تتوقف عن استخراج النفط من المنطقة.
وتمحور الخلاف السعودي البحريني حول حقل “أبوسعفة” النفطي الواقع في المياه الإقليمية بينهما، وانتهى الخلاف مؤقتًا بينهما فى العام 1958 بتوقيع اتفاقية تنص على تقاسم الطرفين إنتاج البترول، الأمر الذى استمر حتى عام 1996، وفي عام 2004، طالبت المملكة باقتسام إنتاج حقل النفط، ما أثار أزمة بين البلدين بعدما رفضت البحرين، إلا أنها وافقت فى نهاية الأمر.
ومع إيران هناك واحد من أعقد الخلافات؛ حيث تحتل إيران ثلاث جزر إماراتية، (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وهي الجزر التي احتلتها إيران قبل يومين من قيام اتحاد دولة الإمارات، ثم عملت على عسكرة هذه الجزر وإقامة منشآت تابعة للجيش والحرس الثوري فيها.
وفي 2012 أعلنت إيران إقامة محافظة جديدة تدعى “خليج فارس”، وجعلت جزيرة أبو موسى عاصمتها بعد أن كانت تابعة لإقليم “هرمز غان” وعاصمته بندر عباس، بينما سمحت لشركات سياحة إيرانية بتنظيم رحلات سياحية إلى الجزر الثلاث، كما أجرت منذ التسعينيات عشرات المناورات العسكرية البحرية والجوية في مياه المنطقة. كمان يوجد خلاف بين إيران وعمان حول حقل “هنغام”، وعلى الرغم من أن حقل النفط والغاز البحري يمثّل أهمية لكلا البلدين؛ فإن المشروع متوقف منذ 17 عامًا، بسبب الخلاف بشأن حصة كل دولة من محتواه؛ إذ إن المفاوضات بشأن بناء خط أنابيب بحري يربط بين الحقل في إيران وسلطنة عمان بدأت في عام 2005.
وتقول المحللة السياسية الكويتية الدكتورة خالدة الخضر، لـ “مواطن”: “إن ترسيم الحدود موضوع مهم جدًا؛ فهو يحفظ للجميع حقوقهم، وهذا مطلب قديم للكويت مع جيرانها؛ حيث إن بدايات الفتن تأتي من الحدود، وهي أصل ومنبع الفتن”.
أزمة حقل الدرة
يقع حقل غاز الدرة في منطقة بحرية متنازع عليها حدوديًا بين السعودية والكويت، ويقدر احتياطي الغاز القابل للاستخراج منه بنحو 200 مليار متر مكعب، هذا الكم الهائل من الثروة الغازية، إضافة إلى وجود بعض المكثفات الأخرى، جعل أعين إيران تتجه نحو الحقل الذي تسميه من جهتها حقل “أراش”.
لكن وزارة الخارجية الكويتية ترفض الادعاء الإيراني بوجود حقوق لها في حقل الدرة، قائلة إن “المنطقة البحرية الواقع بها حقل الدرة تقع في المناطق البحرية لدولة الكويت، وأن الثروات الطبيعية فيها مشتركة بين الكويت والسعودية، ولهما وحدهما حقوق خالصة في الثروة الطبيعية في حقل الدرة”.
وتوافقها في الرأي المملكة العربية السعودية، التي أصدرت وزارة خارجيتها بيانًا جاء فيه أن “ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة -بما فيها حقل الدرة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة”.
وفي نهاية العام الماضي، وقعت كل من السعودية والكويت على اتفاقية لتطوير حقل غاز الدرة، بحضور وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان ونظيره الكويتي بدر حامد الملا.
تحتل إيران ثلاث جزر إماراتية، (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وهي الجزر التي احتلتها إيران قبل يومين من قيام اتحاد دولة الإمارات، ثم عملت على عسكرة هذه الجزر وإقامة منشآت تابعة للجيش والحرس الثوري فيها.
بدوره أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، أن بلاده تجري مباحثات مع الكويت بخصوص حقل الدرة للغاز، ورد كنعاني على سؤال بشأن رفض السعودية والكويت مشاركة طهران لهما في الانتفاع بالحقل، قائلا: “نتابع هذا الموضوع في إطار المحادثات الثنائية مع السلطات الكويتية”.
وتقول إيران إن لها حصة في الحقل، ووصفت الاتفاق السعودي الكويتي الموقع العام الماضي لتطويره بأنه “غير قانوني”.
ويعود النزاع بين الدولتين إلى الستينات، عندما منحت كل من إيران والكويت امتيازين للتنقيب في البحر لشركة النفط البريطانية الإيرانية، التي أصبحت (بي بي) لاحقًا، والثانية لشركة (شل)، وكان مجال نشاط الامتيازين محصورًا في شمال حقل غاز الدرة.
وقد باشرت إيران في العام 2001 أعمال تنقيب في الحقل، مما دفع الكويتيين والسعوديين إلى ترسيم حدودهما البحرية نهائيًا، والاتفاق على تطوير الموارد الموجودة في المنطقة معًا، ومنها حقل الدرة.
وفي عام 2003، أعلنت إيران رفضها إحالة الخلاف مع الكويت بشأن ترسيم حدود حقل غاز الدرة إلى التحكيم الدولي.
وأكدت الحكومة الإيرانية أنها اتفقت مع الكويت العام الماضي على عدم تطوير الحقل قبل ترسيم الحدود بينهما، إلا أن الكويت والسعودية أنشأتا في أبريل لجنة مشتركة لإعداد مشاريع لتطوير الحقل.
غياب الترسيم
أكد نائب رئيس مجلس الوزراء الكويتي ووزير النفط سعد البراك، على وحدة الموقف الكويتي والسعودي فيما يخص حقل الدرة للغاز الواقع في المنطقة المغمورة من المنطقة المقسومة بين البلدين، مشددًا أنه لا مجال لمفاوضات مع إيران في هذه القضية إلا بعد ترسيم الحدود لتحديد الحقوق.
وأكد الوزير الكويتي أن تطوير الحقل حق حصري للكويت والسعودية، مضيفًا: “من يدعي عكس ذلك فليبدأ بترسيم الحدود أولًا، وإذا كان لها (إيران) حق ستأخذه وفقًا للقانون الدولي”.
قال الوزير إنه لم يتم بدء التفاوض حتى الآن بين الكويت والسعودية وإيران، موضحًا” “يجب على إيران أن تبدأ أولًا بترسيم الحدود واعتمادها دوليًا وفقًا للقواعد الدولية المعتمدة، وبعد ذلك يظهر إذا كان لها حق من عدمه في هذا الحقل”.
إن كان لدى إيران أي حقوق في حقل الدرة؛ فسيتم تسوية الأمر وفق القانون الدولي البحري
فواز بن كاسب
الدكتور فواز بن كاسب، الضابط البحري السعودي المتقاعد، يقول: “يعتبر حقل الدرة الموجود في المياه المغمورة للخليج العربي أحد المخزونات الطبيعية للبترول والغاز، وقد تم اكتشافه في الستينات، وهو ما أثار الخلاف بين إيران والدول العربية، وقد تم تأجيل الاكتشاف فيه للتفاوض حوله.
وأضاف فواز بن كاسب، لـ”مواطن” أن المملكة العربية السعودية تعيش في الست سنوات الأخيرة فترة تغيرات على مستوى السياسة الخارجية، وقد تقاربت في كثير من وجهات النظر مع الدول الشقيقة والصديقة، بما يخدم ويحقق أهداف التنمية المستدامة.
وتابع أنه “إن كان لدى إيران أي حقوق في حقل الدرة؛ فسيتم تسوية الأمر وفق القانون الدولي البحري بين السعودية والكويت، وإن كنت أرى أن إيران تدعى ملكيتها في الحقل من خلال نظرية الجرف القاري، والذي يصعب تطبيقه في هذه الحالة، وإن تم تطبيق القانون الدولي للترسيم الحدودي فستكون حدودها أيضًا بعيدة عن الحقل”.
ويتفق معه الكاتب فيصل الفايق، الذي يرى أن تصرفات إيران تعتمد على ثغرة عدم ترسيم الحدود البحرية مع إيران؛ إذ تماطل الدولة الفارسية في ذلك، مما يجعلها مخالفة للقانون الدولي وقواعد ترسيم الحدود البحرية.
ويضيف في مقال له أن “الادعاءات الإيرانية بأن حقل الدرة يقع ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة منذ ستينيات القرن الماضي، يتم تجديد هذه الادعاءات كلما تتجدد مطامعها في ثروات المنطقة، أو محاولة للتكسب السياسي، أو حتى إشغال الداخل الإيراني عن مشاكلها الداخلية، أو بهدف المحاولات اليائسة للانضمام إلى مشاريع تطوير الحقل والاستفادة منه بشكل أسرع في ظل وجود استثمار سعودي كويتي.
وتابع: “تعتبر إيران مستفيدة من عدم ترسيم الحدود؛ فهي تستخدمها للابتزاز، أو كورقة قد تلجأ إليها في المفاوضات الشاملة لمحاولة تحقيق مكاسب أو تنازلات بهدف عرقلة ترسيخ السلام الشامل”.
أهمية ترسيم الحدود
المحلل السياسي والضابط البحري المتقاعد فواز بن كاسب، يقول: “إن هناك أهمية كبيرة لترسيم الحدود بين الدول الخليجية وبعضها وبين دول الخليج وإيران، ومن خلال الخبرة والتاريخ السياسي، سبب غياب الترسيم بعض المشكلات بين الدول الخليجية وبعضها، وتسعى السعودية إلى تسوية الأمر وتسوية الخلافات، ومنها الحدود البرية والبحرية، من أجل ضمان مستقبل الأجيال القادمة، وحتى لا تقوم بعض الدول باستغلال الأمر وتصدير الأزمات وإدارتها.
ويضيف ابن كاسب، لـ”مواطن”: “يأتي ترسيم الحدود السياسية كمطلب ضروري لتحقيق الاستقرار لتحقيق المنافع الخاصة لكل دولة ضمن حدودها، بما يضمن تنمية الثروات الموجودة فيها”.
كما يرى محمد الرميحي، أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت، أن نزاعات الحدود في المنطقة الخليجية ليست جديدة، بين فترة وأخرى تطل برأسها، وفي السنوات الأخيرة صار الوفاق بين الدول العربية الخليجية أكبر كثيرًا من الخلاف الذي ساد في الماضي، بالطبع لا يمكن أن يسمح للماضي لدى عقلاء أن يقرر المستقبل”.
ويضيف الرميحي في مقال له، أن “معظم الخلافات الحدودية بين بلدان الخليج تم حلّها بالتراضي، والخوض في تلك الملفات هو قصور في فهم التحديات الإقليمية والدولية المحيطة بالجميع؛ فنحن في الخليج في قارب واحد، وفي بحر متلاطم، ،علينا جميعًا التجديف معًا حتى نصل إلى بر الأمان، من يحاول خرق القارب فهو في حقيقة الأمر لا يفعل بسبب حرية الرأي؛ بل هو يعرض الأمن الوطني للجميع إلى الخطر”.