في العقد الأخير وتحديدًا بعد حدوث ثورات الربيع العربي، والتي امتدت رياحها إلى بلاد الشام، برز العديد من التغيرات السلبية والظواهر المجتمعية الخطيرة في سوريا، في ظل ما شهدته ولازالت تعيشه من أجواء حرب، وصراعات دموية وانقسامات وتنازع بين قوى سياسية، تحت مسميات مختلفة، كان حصيلتها الخراب والدمار وتعرض الشعب السوري لأصعب المحن الإنسانية.
لم تقتصر الكوارث على مقتل الآلاف ونزوح وتشريد الملايين، وتدمير للبلاد وإبادة لمدن بأكملها، ولكن امتد الأمر إلى انهيارات اقتصادية كبرى في أعقاب الأزمة المصرفية في لبنان، وتزامنها مع وباء كورونا، وقانون قيصر (العقوبات الأمريكية) الذي اعتبر سوريا رسميا بلد مخدرات.
وللحروب أثر كبیر في انتشار تعاطي المخدرات، ما يعزز حالات انعدام الأمل والأمان، والحالات التي تعيشها الشعوب تحت ضغط الحرب، وفقًا لدراسة أثر الحروب على انتشار المخدرات للدكتور عبد الرحمن محمد الحسن، والصادرة عن جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
وفي الوقت الحالي تعد سوريا نموذجًا حيًا ومؤلمًا لهذه الحالة، التي ارتبط فيها انتشار تعاطي المخدرات بأحداث سياسية عصيبة، كوسيلة للهروب من الواقع الأليم.
ويعد انتشار مخدر الكبتاجون من أخطر تداعيات الحرب في سوريا؛ إذ تحول إلى تجارة رابحة تفوق قيمتها عشرة مليارات دولار، وكشفت تحقيقات وتقارير أجرتها مؤسسات صحفية عالمية، منها وكالة فرانس برس عن تفاقم خطر الاتجار في هذه المادة المدمرة، مع ظهور مؤشرات على وجود علاقة بين رواج هذه التجارة القاتلة وبين تورط شخصيات هامة في النظام السوري.
وفي تحقيق استقصائي لفريق عمل الـ بي بي سي، تم كشف النقاب عن صلات مباشرة جديدة بين تجارة الكبتاجون، وشخصيات قيادية في القوات المسلحة السورية، وامتنعت الحكومة عن الرد على تساؤلات الـ بي بي سي.
وأورد التحقيق ما يفيد بوجود أدلة على تورط عائلة الرئيس الأسد، وكان كل من بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قد قاموا بفرض عقوبات في مارس/ آذار من عام 2023 على قائمة من الأشخاص، بينهم اثنان من أبناء عمومة الرئيس الأسد، يشتبه في تورطهم في تجارة الكبتاجون.
وأشار تقرير بعنوان الكبتاجون.. مخدر منطقة الشرق الأوسط، والمنشور في إندبندنت عربية، إلى تورط حزب الله، وصرح مسؤول الخزانة الأميركي السابق ماثيو ليفيت، أن لحزب الله تاريخًا طويلًا من الخبرة في تجارة المخدرات للمساعدة في التمويل، وحبوب كبتاجون، للحصول على هوامش أرباح عالية لتأمين مواردهم المالية.
كان "الكبتاجون" يعرف باسم مخدر الحروب، وذلك بعدما استخدمه الجيش الأمريكي لتمكين الجنود من البقاء مستيقظين وقت الحروب، وقد تم تصنيعه لأول مرة في ألمانيا عام 1961.
وكانت هناك 3 شحنات ضخمة من الكبتاجون بقيمة مليار دولار، تم ضبطها بعدما اكتشفتها السلطات الإيطالية، وتبين أن من ورائها حزب الله.
تصنيع الكبتاجون بالمنازل
شهدت السنوات الأخيرة تزايد نشاط إنتاج حبوب الكبتاجون في الأراضي السورية؛ فضلا عن تهريبها في مناطق مختلفة من سوريا؛ خاصة في جنوب البلاد.
كما أدت سهولة إقامة معامل ومعدات تصنيع هذا المخدر، إلى انتشاره؛ حيث إنه لا يحتاج إلى بنية متطورة؛ بل يمكن أن يتم التصنيع داخل المنازل لترويجها في السوق المحلية.
وعن الواقع المخيف لانتشار الكبتاجون داخل سوريا، وارتباطه بتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، يقول الكاتب الصحفي السوري كدر أحمد لمواطن: “تنتشر المخدرات بشكل مرعب في جميع مناطق سوريا، حتى إن المدارس والجامعات باتت بؤرًا لتوزيع هذه المخدرات؛ فالجميع مسؤول عن الحالة التي وصل إليها المجتمع السوري بكل أطيافه”.
ويعود انتشار المخدرات في سوريا، إلى أسباب عديدة، يمكن تلخيصها في حالة الصراع والحرب التي تشهدها سوريا منذ مارس/آذار 2011، الأمر الذي تسبب في حالة غلاء وفقدان العملة السورية لقيمتها بشكل كبير، وأيضًا نقص فرص العمل وانهيار الاقتصاد السوري.
وأضاف أن “الظروف التي تمر بها البلاد كانت من أسباب جعل بعض السوريين؛ وخاصة فئة الشباب يلجؤون إلى تعاطي مخدر الكبتاجون، كمهرب من الحالة الحياتية الصعبة التي يمرون بها”.
وختامًا يرفض “أن يكون هذا الواقع الصعب مبررًا للتوجه نحو الإدمان والتوهان، ويستطرد في حديثه “أن اللجوء إلى التعاطي جريمة يرتكبها المتعاطون بحق أنفسهم وحق المجتمع”
مخدر الحروب
كان “الكبتاجون” يعرف باسم مخدر الحروب، وذلك بعدما استخدمه الجيش الأمريكي لتمكين الجنود من البقاء مستيقظين وقت الحروب، وقد تم تصنيعه لأول مرة في ألمانيا عام 1961.
وتقول الصيدلانية ميسون محمد لمواطن، “عندما تم تصنيع الكبتاجون، كان ذلك بهدف علاج الأطفال الذين يعانون من فرط الحركة المرضي، ومشكلة عدم الانتباه وانخفاض مستوى التركيز، وذلك لاحتوائه على مواد كيميائية تعمل على علاج هذه المشاكل”.
وكالعادة خرج عن الاستخدام الطبي المقيد إلى استخدامه كمادة مخدرة، بعد ملاحظة آثاره في زيادة قدرة المخ على التركيز حتى مع عدد ساعات النوم القليلة والشعور بالسعادة، وافتقاد الرغبة في الطعام، إلا أن الوصول إلى مرحلة التعود والإدمان عليه، يؤدي إلى كوارث صحية، ومشكلات عقلية بسبب ظهور الهلاوس بكل أنواعها، والتي قد تؤدي إلى الجنون.
ويعد الكبتاجون من أخطر عقارات الإدمان؛ إذ يسبب اضطرابات عضوية في المخ؛ مثل التشنج وإتلاف خلايا المخ، إضافة إلى نقص كريات الدم البيضاء والأنيميا، وفقدان الاتزان والحكم الصحيح على الأمور والشك في الناس، ما يؤدي إلى الانطواء والعزلة وسرعة الانفعال واضطرابات عقلية، و توارد أفكار انتحارية.
كما يؤدي إدمانه إلى ارتفاع ضغط الدم وسرعة ضربات القلب وهبوط التنفس والسكتة القلبية، أي أن الوقوع في براثن إدمان الكبتاجون بمثابة تدمير لحياة الإنسان.
لم يكن صدور قانون قيصر على سوريا صدفة، لأنه جاء بناء على اتهامات بتورط كل من سامر كمال الأسد ووسيم بديع الأسد في تهريب المخدرات؛ إذ يمتلك الأول مصنعًا في مدينة اللاذقية الساحلية أنتج 84 مليون حبّة كبتاجون في 2020.
وعلى الرغم من كل هذه المخاطر، تروج تجارة هذا المخدر في سوريا، كما تتركز فيها النسبة الأكبر من عملية تصنيعه، ويعلق عادل سحلول، طبيب سوري لمواطن: “الكبتاجون الحديث المصنع في سوريا يختلف عن الكبتاجون العلاجي، ويتضمن عدة مواد كيماوية منبهة ومهلوسة مهيجة ومثبطة للألم، مثل الامفيتامين والثيوفيلين والباراسيتامول والافدرين وغيرها”.
ويستطرد: “يؤدي الكبتاجون إلى ارتفاع الضغط ودقات القلب والهيجان، وأحيانًا اضطرابات في نظم القلب، وهذه المواد وخاصة الامفيتامين مثيرة للإدمان بشكل كبير”.
ولا تقتصر تداعياته على المخاطر الصحية فقط؛ إنما تمتد إلى توابع اجتماعية لا تقل خطورة، تبدأ بالتسبب في التفكك الأسري، وزيادة معدلات الجريمة، والغرق في إدمان مخدرات أخرى أخطر كالكريستالين ( يسمى إتش بوز في سوريا ) والهيروين و الفنتانيل وغيرها.
ولذلك يسمى الكبتاجون أيضًا بالدواء “البوابة” أو gateway drug، لأنه يفتح المجال على دائرة إدمان أوسع وأشد فتكًا. ويحذر سحلول من أن زيادة الجرعة من هذا العقار يمكن أن تؤدي إلى توقف التنفس ثم الموت.
وكشفت مراكز بحثية في تقارير متخصصة العديد من الحقائق الخطيرة حول مخدر الكبتاجون في سوريا، وعلاقته بانهيار الاقتصاد بسبب الحرب والعقوبات الغربية، بجانب الفساد والوضع المالي والاقتصادي المتردي في لبنان.
ووصفت سوريا بأنها أصبحت دولة مخدرات لنوعين رئيسين يثيران القلق؛ هما الحشيش والكبتاجون، وأنها أصبحت مركزًا عالميًا لإنتاج الكبتاجون، بعد أن وصلت قيمة صادرات سوريا السوقية منه عام 2020 إلى ما لا يقل عن 3.46 مليار دولار، وهو ما دفع المسؤولة في وزارة الخزانة أندريا جاكي للتصريح في بيان رسمي بأن “سوريا أصبحت الرائدة عالميًا في إنتاج الكبتاجون”.
قانون قيصر
لم يكن صدور قانون قيصر على سوريا صدفة، لأنه جاء بناء على اتهامات بتورط كل من سامر كمال الأسد ووسيم بديع الأسد في تهريب المخدرات؛ إذ يمتلك الأول مصنعًا في مدينة اللاذقية الساحلية أنتج 84 مليون حبّة كبتاجون في 2020.
ما يجعل للقضية أبعادًا سياسية خطيرة نتيجة التهم الموجهة لشخصيات سياسية كبرى، من النظام السوري وخارجه بالتورط في ممارسة هذه الأنشطة المشبوهة، والمتاجرة في سموم قاتلة للشعب لأغراض مختلفة، وهو الأمر الذي وصلت أصداؤه للخارج وأثار غضبًا دوليًا؛ سيما بعد تكرار ضبط شحنات كبتاجون مهربة من سورية في اليونان وإيطاليا وغيرها.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد وافق في مارس الماضي على موازنة الدفاع الأمريكية لعام 2023، والتي تضمنت قانونًا لمحاربة الكبتاجون الذي يُصنَّع في سوريا، ليكون القانون في حيز التنفيذ، بعد إقراره من قبل مجلسي الشيوخ والنواب.
وقد توافقت القوى السياسية الأمريكية على ضرورة التصرف لعدم السماح بتحوّل صناعة وتجارة المخدرات السورية إلى أمر ثابت في المنطقة، وتحويل المسألة إلى قضية محل اهتمام إقليمي ودولي.
من معطيات الواقع المحيط بقضية الكبتاجون السوري، يتبين أنه عندما تستحكم الأزمات وتتكالب المصائب على الشعوب، قد يضطر البعض للانتحار هربًا من هذا الواقع، ولا يشترط أن يكون الانتحار بالمعنى الحرفي للكلمة؛ إنما قد يكون بإلقاء النفس في أحضان غيبوبة مؤقتة حسب القدرة المالية على شراء المخدرات، وسط فساد سياسي يسمح للمتاجرة بـأوجاع السوريين.