أطلق أستاذ العمارة والعمران والباحث في التاريخ الحضري د. ياسر الششتاوي؛ في عام 2004، مصطلحًا معماريًا جديدًا يعبر عن طبيعة عمرانية خاصة، ونمط معماري مرتبط بمدينة معينة دون غيرها؛ ألا وهو «Dubaization». عبّر من خلال هذا المفهوم عن نمط العمران الذي عاشته مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة، بداية من التدفق البترولي حتى هذا التاريخ وما تلاه، والذي ميزها كمدينة عن غيرها من مدن الدول العربية، ويعبر كذلك عن مدى تأثير “نموذج دبي” في المجتمعات من حوله، وفي أنماط المدن الجديدة في المنطقة.
ولم يكن لمصطلح «Dubaization» أن يصك لولا تأثير دبي كنموذج معماري وعمراني في المدن من بعدها. لكن، هل تمتلك دبي فعلاً نموذجًا عمرانيًا فريدًا؟ وهي يستحق نمط دبي العمراني أن يكون نموذجًا يحتذى به؟
كيف بدأ عمران دبي؟
في ستينيات القرن الماضي، ونتيجة الفوائض البترولية، بدأ عمران دبي يصعد بوتيرة عالية على مدينة صحراوية ساحلية، لها تاريخ معماري ضعيف في قلب الصحراء، لا يكاد يصنع نموذجًا عمرانيًا يتوافق مع آليات الوقت الحالي، لذا كان على الدولة هناك أن تبدأ من الصفر، وتلك وضعية يجب مراعاتها لاحقًا عند الحديث عن عمران دبي؛ فلم تبدأ على مدينة قديمة أو بتاريخ معماري وعمراني في المنطقة واجب الاحترام والتقديس؛ بل بدأ من “لا شيء” يتحكم في سيرورة عملها.
وهو ما يعبر عنه صاحب مصطلح «Dubaization» د. ياسر الششتاوي؛ في حوار له مع الإمارات اليوم بقوله: “إن البناء العمراني لابد أن يكون له تأثير على الجانب الاجتماعي، بمعنى أنه إذا أقيم مشروع معين في وسط المدينة فذلك سيضطر المنفذين إلى عمل إزاحة للبيئة الاجتماعية ونقل السكان من تلك المنطقة، وهدم مبانٍ قديمة قائمة، وهذه إحدى سمات النموذج العمراني في دبي؛ حيث يتم التخلص من المناطق القديمة وإعادة بنائها بشكل حديث، غير أن دبي بما أنها مدينة شابة وحديثة؛ حيث لا طبقات تاريخية للتجمع السكني والمناطق التي يتم إزالتها، مثل ما هو موجود في مدن مثل بيروت ودمشق والقاهرة؛ فإن التأثير الاجتماعي بالتالي قد يكون محدودًا وسلبياته غير مؤثرة”.
كانت بداية دبي مع البنايات العالية والمرتفعة سنة 1978 ميلاديًا، عندما شيدت مركز دبي التجاري العالمي، الذي تألف حينها من 39 طابقًا، وهو من عمل المهندس البريطاني جون هاريس، كان هذا النموذج هو الأول في المباني ناطحات السحاب في المدينة. تأسس المطار قبل هذا التاريخ كنموذج عمراني أولي ومهم أيضًا، إلا أنه تطور وزاد من عمارته وعمرانه مع التدفق النفطي في المدينة؛ حيث كان ضروريًا لسريان الاقتصاد فيها.
يُعلّق ياسر الششتاوي في حديثه لـ “مواطن” حول تاريخ دبي العمراني قائلا: “في 2004 كانت دبي لا تزال في أوائل التطور العمراني؛ مثل جزيرة النخيل وغيرها من المباني المشهورة، وشوارع مثل شارع الشيخ زايد وغيره من معالم دبي التي بدأت تظهر، والبنايات العملاقة الموجودة فيها، تلك كانت البداية لعمران دبي، بالإضافة إلى ظهور المجتمعات المسورة “الكمبوندات”. فيما يؤكد على أن دبي لم تخترع تلك الأنماط العمرانية؛ بل هي موجودة في العالم، لكن الذي ميز دبي عن غيرها؛ حيث إن مساحة المشروع نفسها غير المعتادة، والتقليد المباشر لبعض الرموز الموجودة في البيئة هناك مثل النخلة.
مؤثرات العمران في دبي
اعتمدت دبي في عمرانها على الجذب السياحي والاستثماري، وهو ما جعلها إحدى أهم المدن حول العالم الآن في عملية الاقتصاد السياحي؛ حيث تستقبل ما يقارب 15 مليون زائرًا سنويًا، وهو رقم كبير وضخم مقارنة بمدن أخرى في المنطقة. كان برج خليفة مثلًا الذي صمم وأنشئ في وسط المدينة تقريبًا، أحد تلك النماذج التي استقطبت السياح حول العالم؛ فضلًا عن الاستثمار العقاري فيه؛ حيث يحتوي على ثلاثين ألف وحدة سكنية، وتسعة فنادق، وتسعة عشر برجًا سكنيًا، فضلًا عن دبي مول والبحيرات الصناعية من حوله.
حاولت دبي في بعض النماذج، أن تعبر عن هويتها العربية؛ حيث أنشأت مثلًا برج العرب على شكل شراع مركب، أيضًا نموذج عمراني مثل مشروع النخيل الذي بدأ سنة 2001 كمشروع جذاب إلى أثرياء العالم، كان أحد تلك النماذج العمرانية التي أنشئت لنفس الغرض الوظيفي والشكلي.
ربما ما يميز نموذج دبي العمراني فعلًا أنها تقوم على مبدأ صيغة “أفعل”، وهو مبدأ الأضخم أو الأكبر أو الأطول أو الأعمق وغيرها من صيغ التفضيل، وهو مبدأ عمراني ومعماري أقرته دبي بالفعل وجعلت منه نموذجًا عرفت به في العالم. وعلى هذا الأساس باتت تستقطب عددًا كبيرًا من المستثمرين والمؤثرين حول العالم لهذا الغرض.
اعتمدت دبي في عمرانها على الجذب السياحي والاستثماري، وهو ما جعلها إحدى أهم المدن حول العالم الآن في عملية الاقتصاد السياحي؛ حيث تستقبل ما يقارب 15 مليون زائرًا سنويًا
مثل مصطلح الفندق الأفخم في العالم؛ حيث يشار عادة إلى برج العرب بأنه أفخم فندق في العالم؛ فضلًا عن أغلى سباق للخيول في العالم؛ حيث قدرت الجائزة الكبرى للمتسابقين ب 10 ملايين دولار، وأعمق حمام سباحة في العالم وغيرها من المسميات.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح ويناقش فعلًا؛ هل امتلكت دبي نموذجًا عمرانيًا متفردًا تستحق من خلاله أن تنفرد بمصطلح على اسمها؟
الجواب على هذا السؤال مرتبط بالواقع قبل أي شيء؛ فتمتلك دبي ناطحات سحاب، وبنايات حققت أرقامًا قياسية في الارتفاع أو الاتساع والضخامة وغير ذلك، فضلًا عن سوق استثمارية كبيرة جدًا في العقارات والتسويق. لكن تلك الحالة ليست فريدة بدبي كمدينة؛ بل تواجدت وظهرت في مدن كثيرة حول العالم، لاس فيجاس ونيويورك على سبيل المثال، وغيرها من المدن التي ارتبطت بهذا العمران “ناطحات السحاب والمولات المفتوحة وغيرها من منتجات الحداثة والعولمة”، ربما كانت دبي هي السابقة في نقلها إلى منطقة الشرق الأوسط بمفهومه كمدن عربية، لكنها لم تخلق هذا النموذج ولم تنفرد به كمدينة، وبالتالي لم تخلق مصطلحًا خاصًا بها دون غيرها.
تفردها؛ كما يتم تصدير ذلك كان من خلال المباني ذات الأرقام القياسية، لكنه في الأصل يظل مفهومًا مؤقتًا؛ فأطول مبنى في العالم سيلحق به مبنى آخر في مدينة أخرى أطول منه، وأعمق حمام سباحي في العالم سيلحق به حمام آخر يكون أعمق منه، إلى آخره من تلك المسميات، والعمران والعمارة ذات مفهوم أعمق من أن تجعل من تلك النماذج مقومًا لإطلاق مصطلح.
يجيب الششتاوي على تلك المسألة بقوله: “ما يحدث في دبي ليس اختراعًا خاصًا بها، Neo-Liberal Economy، وعملية إخلاء وسط المدينة من المناطق الفقيرة والعشوائيات تحدث في العالم كله، لكن المشكلة في دبي أنه لا يوجد بديل آخر له، لأنه هو التوجه الأوحد هناك؛ حيث يتم النظر إلى أي أراضٍ في دبي بنظرة استثمارية وكيف تجلب الأموال”. ويضيف: “إن الهدف الرئيسي من العمران في دبي لفت الانتباه والأنظار والتسابق، وواضح أنه ناجح في دبي؛ حيث لا تعتمد على البترول في اقتصادها، لكن مدن أخرى في المنطقة لا يجب أن تنظر إلى هذا النموذج وتقلده، لأنه سيؤدي إلى تفاقم التباعد الاجتماعي”.
نموذجية دبي في المنطقة!
يستكمل الششتاوي حديثه لـ”مواطن” بقوله: “دبي كانت مثالًا يحتذي به الناس؛ سواء كان هذا بشكل مباشر عن طريق التدخل المباشر من قبل المستثمرين الإماراتيين في مدن مثل القاهرة؛ حيث بدأنا نرى مشروعًا مثل city center المعادي، الذي يتبع لشركة جمعة الماجد، يمتلكون نفس النموذج في دبي، لم تكن مصر تعرف هذا النموذج وغير معتادة عليه من قبل، مشروع مثل up town Cairo في المقطم، نفس مطوري برج خليفة هم من قاموا بإنشائه، وهو نموذج المجتمعات المسورة الذي يعتمد على نفس النماذج العمرانية الموجودة في دبي، كانت تلك النماذج تأثيرات مباشرة”.
“هناك أيضًا نماذج غير مباشرة مثل smart city على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، ظهرت بعد إنشاء نموذج شبيه له في دبي قبل ذلك، مع كونه استثمارًا مصريًا وإنشاءً مصريًا بالكامل، إلا أنه تأثر بشكل غير مباشر بنماذج أنشئت في دبي. واستمر التأثير المباشر مثلًا في Cairo festival city مثل mall of Cairo أيضًا”.
تبدو مسألة تقليد المدن الأخرى في الوطن العربي لنموذج دبي هي التي جعلت للمصطلح ذريعة في التواجد؛ حيث تم توضيح مفهوم المصطلح بكون نموذج دبي أصبح مقلدًا في مدن كالقاهرة ودمشق وعمّان وغيرها من المدن من حولها.
مدينة مسقط لها تاريخ طويل منذ ألفي سنة تقريبًا، وبالتالي تختلف تمامًا عن مدينة دبي، ولا تتوافق الطبيعة العمرانية فيها مع ما تم في دبي مثل المباني الطويلة وناطحات السحاب وغيرها
إن الذهنية العمرانية العربية حين حددت نموذجها العمراني على دبي كمدينة حداثية صالحة لوقتنا الحالي، دون اعتبار تاريخها العمراني غير المتوافق مع كثير من تلك المدن التاريخية، كان سببًا لهذا التقليد، لكنها في الحقيقة لا تقلد دبي في ذاتها؛ بل تقلد النموذج العمراني العالمي المنتشر في مدن كثيرة حول العالم بفعل الحداثة وغيرها، كحل جذري لمشاكلها السكانية والبنيوية التي عانت منها على مدار سنوات طويلة.
بالإضافة إلى أمر آخر لا يجب التغافل عنه؛ وهو تدخل دبي نفسها كقوة اقتصادية سياسية في إنشاء تلك المدن في الوطن العربي، والذي جعل من مسألة “الدبينة” سياسية أكثر منها عمرانية، ودخولهم في هذا الحقل لم يكن من باب العمران فقط؛ بل كان من باب الاقتصاد واليد الفاعلة في السياسة، مثلما جرى في مصر مثلًا بعد يونيو 2013؛ حيث كانت الإمارات فاعلًا رئيسيًا في السياسة المصرية، وبالتالي تم الاعتماد عليها في إنشاء مدينة مثل العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها من المجمعات السكنية الصغيرة المغلقة.
عمران مسقط.. النموذج المضاد لعمران دبي
في هذا الصدد يتحدث محمود الوهيبي المخطط الإقليمي والحضري في سلطنة عمان لـ”مواطن” بأن “المشكلة تكمن في خلط الناس بين مصطلحين؛ حيث يجب التفريق بين دبي كنظام اقتصادي وكنظام عمراني؛ حيث دائمًا ما يتحدث البعض عن أن أنظمة العمران في دبي هي التي حققت النظام الاقتصادي، لكن الحقيقة الواقعية تختلف عن هذا؛ حيث إن دبي صنعت نظامًا اقتصاديًا ورأسماليًا مفتوحًا، شبيهًا باقتصاد لاس فيجاس مثلًا؛ حيث إن الحاجة الاقتصادية هي التي حركت العمران، وهي المحرك الرئيسي للحركة العمرانية، والتي ولدت سوقًا معينًا لتلك العمارة التي تعبر عن الإثارة، أطول مبنى، ومبنى على شكل خيمة وغيره.
أما محاولة تقليد هذا النموذج العمراني في مدن أخرى دون مراعاة طبيعتها التاريخية والعمرانية الخاصة بها، أمر في غاية الخطورة وهو ما يتحدث عنه الوهيبي بقوله: “مدينة مسقط مثلًا لها تاريخ طويل منذ ألفي سنة تقريبًا، وبالتالي تختلف تمامًا عن مدينة دبي، ولا تتوافق الطبيعة العمرانية فيها مع ما تم في دبي مثل المباني الطويلة وناطحات السحاب وغيرها؛ بل لا توافق الثقافة العمانية نفسها، لأن معظمها معمرة ويوجد بها نماذج تاريخية وقصور أثرية وبيوت قديمة، وغيرها من النماذج المعمارية على عكس دبي تمامًا”.
ويضيف: “هناك أمر آخر؛ وهو أن النموذج الاقتصادي الذي أخذته دبي، لا يتوافق مع النماذج السياسية في دول أخرى مثل مسقط مثلًا؛ حيث لا تنتهج عُمان نهج دبي الاقتصادي. وهنا يجب أن نشير إلى أمر آخر؛ حيث يتحدث بعض الناس عن أن بعض الدول والمدن تأخرت كثيرًا لأنها لا تمتلك مباني مثل دبي، هذا المفهوم خطأ تمامًا، مثلًا مدينة مثل جينيف وما تعبر عنه من تطور كبير لا تمتلك مباني مثل دبي؛ بل معظم المباني فيها تراثية وقديمة حيث تتوافق مع البيئة فيها”.