كتبت في تويتر قبل فترة تغريدة تستعرض مفارقة ساخرة، أشير خلالها لحاسب انستغرامي يحمل اسم 248am، والذي يشير بدوره لدور العرض السينمائية في السعودية، والتي يمكن للكويتيين الذهاب لها لمشاهدة فيلم باربي، الممنوع في الكويت والمباح في السعودية.
لست هنا بصدد استعراض نوعية الردود الفوضوية الغرائبية التي تصل عبر وسائل التواصل، والتي تتشكل موجات في بحر مفتوح، لا قانون يردعه ولا أخلاق تحكمه ولا أطر تحكم كيف وأين يقف “المايكروفون”، والتي كذلك، رغم فوضويتها وعنفها، تنطوي على الكثير من الفوائد والمقويات النفسية والذهنية. ما أوده هو مناقشة الإشكالية الحقيقة أو الاستحقاق، إن وجد، في منع الفيلم، أو أي مادة مرئية، مقروءة أو مسموعة في الواقع، ومعنى وتداعيات و”فوائد” هذا المنع.
منع فيلم باربي، هو مجرد رد فعل لحكومات مجتمعات محافظة، حكومات لا تخاف على ثقافة أو فكر أو أخلاق المجتمع، ذلك أن الحكومة ليست أماً أو أباً أو معلماً أو مفكراً ذي رسالة، الحكومة جهاز، والأجهزة بطبيعتها عملية لا تتعامل بالمشاعر ولا تتواصل عاطفياً.
والحقيقة أن كلا الطرفين، السعودي والكويتي، يبدوان في هذا الموقف حادَّي النزعة السياسية، متجهين بعكس “المود” العام لشعبيهما. فالتحرر المجتمعي السياسي الذي يأتي دون اختيار أغلبية عامة، وتحول فكري شعبي حقيقي يتحول إلى ضرب من القمع الفكري، ويبقى مجرد رقاقة مدنية هشة تغطي مساحة عشائرية عميقة، وهي مساحة تحتاج وقت وجهد فكري، ولربما جسدي لتنتقل من موقع لموقع ومن حالة فكرية وأيديولوجية لأخرى مختلفة، وعلى هذه الدرجة من الاتساع والتحول.
وبمثل هذا التحرر القسري تكون المحافظة القسرية في هشاشتها، مُحافَظة غير متوائمة مع طبيعة شعب اعتاد الانفتاح والتحرر، وأن يكون مركز الثقافة والفنون في محيطه. كلا الشعبين، الكويتي والسعودي محافظين عشائريي الروح، وكلاهما منفتح على العالم ومتحرر النزعة، إلا أن الدرجات تفاوتت بلا شك، والأيديولوجية السياسية التي قادت هذه الشعوب اختلفت بعمق وعلى مدى من الزمن. أن تُعكس هذه الحقائق وتقع التحولات في هكذا وقت قصير ودون أي مقدمات، لن يحدث كل ذلك بلا ثمن.
ليست المشكلة حقيقة في منع الفيلم، وهو المنع الذي اتفقت عليه من بين كل الدول العربية الكويت والجزائر، وتسير على دربه لبنان في مفارقة غريبة، فالحصول على نسخة إلكترونية منه اليوم هي عملية سهلة وقريبة المنال حتى لأيادي الأطفال. كما وأن الفيلم بحد ذاته، وأنا هنا أطلق أحكاماً عمياء ذلك أنني لم أر الفيلم بعد، لا يبدو على هذه الدرجة من القيمة الفنية والفكرية التي تجعل من منعه خسارة ثقافية، ولا حتى رسالة سياسية أو أيديولوجية خطيرة، رغم ما قرأت من نقد نسوي حوله يشير إلى أن الفيلم يرسل رسالة مختلفة قوية تمكينية للمرأة، عن تلك التي طالما التصقت بالدمية بحد ذاتها.
منع هذا الفيلم هو مجرد رد فعل لحكومات مجتمعات محافظة، حكومات لا تخاف على ثقافة أو فكر أو أخلاق المجتمع، ذلك أن الحكومة ليست أماً أو أباً أو معلماً أو مفكراً ذي رسالة، الحكومة جهاز، والأجهزة بطبيعتها عملية لا تتعامل بالمشاعر ولا تتواصل عاطفياً.
هذا المنع هو مجرد رد فعل حكومي سياسي تشكل إرضاءاً لأصوات سياسية عالية في الشارع، واتقاءاً لشر البلبلة التي قد تخلقها، أو، في أحسن الأحوال، هو إجراء مقايضي سياسي: ترضخ الحكومة لضغط منع الفيلم مقابل اصطفاف الطرف النيابي معها في قضية أخرى. تلك هي الخطورة الحقيقية لمنع المواد الثقافية والفنية، أنه خاو من أي وكل معنى أيديولوجي أو قيمة أخلاقية، هو مجرد إجراء لحكومات تريد أن تخلص نفسها وتسيِّر أمورها بأسهل السبل حتى لو كان أسهلها هو أسوؤها.
تبنى الحراك النسوي في موجته الثالثة عدة حملات ترمي إلى ضم فكرة الجمال والأنوثة للحراك، لتتشكل شعارات مثل: يمكنك أن ترتدي فستان مليئ بالزهور وتضعي أحمر شفاه وتكونين في ذات الوقت قاضية رصينة أو طبيبة جادة.
والحقيقة أن الاعتراض على أي مادة مرئية أو مسموعة هو مفهوم، وأحياناً مبرر، في أي وكل المجتمعات، إلا أن هذا الاعتراض يفترض أن يكون لاحق لا سابق، أي ألا تكون الرقابة مسبقة، وإنما يأتي تفعيلها بعد أن يتقدم المتضرر منها بشكوى يبت فيها القانون.
هذا ويجب أن يكون الاعتراض مجتمعي لا حكومي، أي أن من يشتكي وبالتالي يحقق المنع يكون فرد من أفراد المجتمع لا الحكومة بضربة قلم قرارية إدارية. في المجتمعات المتحررة بحقيقية وعمق، لا يتحقق المنع إلا إذا كانت المادة شديدة الاستشكالية، ذات خطاب كراهية واضح أو فساد أخلاقي بيِّن، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبية التوصيفين الأخيرين، ومن خلال حكم قضائي واضح ومبرَّر يرمي إلى احترام كافة الأطراف المعنية، المهتمة بالمادة والمعترضة عليها.
وإذا ما وضعنا كل النقاش الحرياتي الحقوقي جانباً، وناقشنا المنطق الفكري للمجتمع خلف تأييد المنع، نجد أن مؤيدي منع فيلم باربي يطالبون بذلك خشية على قيم وأخلاقيات المجتمع المحافظ من رسالة هذا الفيلم. إلا أن الأحداث المتواترة تقول أن الفيلم كان ملعوناً قبل عرضه، وذلك بسبب ثيمته المتعلقة بالدمية باربي، وما تمثله هذه الدمية من توجه تحرري للمرأة.
فهذه الدمية التي “تحيا” حياة رفاه خالصة من خلال كل البلاستيكيات الفاخرة، التي تمتلكها كالبيت والسيارة واليخت والطائرة والملابس، التي لا تعد ولا تحصى، وغيرها من مخمليات الحياة والتي “تستعملها” كلها في صيغة تحررية تامة، هي رمز استشكالي ليس فقط عند المحافظين الذين يرون تحريضية هذه الدمية على القيم التي تُبقي النساء تحت أجنحتهم الذكورية، ولكن كذلك عند التيار النسوي، الذي أنتمي له، والذي يرى تضاد هذه الدمية مع العمق الفكري ومفاهيم النجاح الحقيقي والقيم الإنسانية للشخص بعيداً عن شكله، والتي هي كلها مفاهيم وقيم طالما عانت المرأة لترسيخها، وذلك بسبب الربط الدائم بين استحقاقها كإنسان وبين مظهرها وشكلها.
لماذا الخوف من هذا الفيلم تحديداً؟ لربما 95% من الأفلام الهوليوودية التي تقدم في السينمات العربية هي متضادة والقيم المجتمعية لمجتمعاتها، فلماذا كل هذا الهجوم على فيلم باربي بذاته، وقبل حتى مشاهدته؟
واليوم تغيرت الكثير من توجهات صناعة هذه الدمية بدافع من الحراكات الحقوقية الغربية. فأصبحت الدمية تأتي بألوان مختلفة، ليست فقط البيضاء الشقراء، كما وأنها أصبحت “تهتم” بمناحي أخرى من الحياة، تتمثل في بعض الألعاب المرافقة لها، والتي تقدم زوايا أخرى بعيدة عن الرفاه والسطحية، كأن يكون لها عيادة طبية أو كأن تأتي بشكل قاضية أو شرطية وغيرها.
كما وأن الحراك النسوي بحد ذاته تعدى فكرة الحساسية من الشكل الجميل، وعقدة أن إثبات الجدية يتطلب عدم الاهتمام بالمظهر، أو يفرض اتخاذ شكل وسلوك ذكوريين، كما حدث وبقوة إبان الموجة الثانية من الحراك النسوي. لقد تبنى الحراك النسوي في موجته الثالثة عدة حملات ترمي إلى ضم فكرة الجمال والأنوثة للحراك، لتتشكل شعارات مثل: يمكنك أن ترتدي فستان مليئ بالزهور وتضعي أحمر شفاه وتكونين في ذات الوقت قاضية رصينة أو طبيبة جادة.
وعليه، لربما يحاول هذا الفيلم أن يكون جزء من الحراك الجديد، أن يأتي بخطوة جديدة “لتنظيف” هذه اللعبة من استشكاليات صناعتها المبدئية، ولإضفاء قيم إنسانية وفكرية لها تواؤماً مع الحراكات الحقوقية والنسوية المعاصرة، لتقدم وتشكل رسائل مهمة للصغيرات المحبات لهذه الدمية.
إن ما حرك الرأي العام العربي عموماً، والذي تجاوبت معه بعض الحكومات العربية، هو في الواقع الخوف لا الغضب، الخوف على منظومة هرمية ذكورية، يجلس على قمة هرمها "الأب" المتسلط، من أن تهز عرشها دمية.
وعودة لفكرة الخوف على القيم المجتمعية التي “تهاجمها” الدمية بمظهرها وتحررها يأتي السؤال بيناً، لماذا الخوف من هذا الفيلم تحديداً؟ لربما 95% من الأفلام الهوليوودية التي تقدم في السينمات العربية هي متضادة والقيم المجتمعية لمجتمعاتها، فلماذا كل هذا الهجوم على هذا الفيلم بذاته وقبل حتى مشاهدته؟
تنحصر الإجابة في الاستشكالية النسوية الجندرية، والتي هي الاستشكالية التهديدية الأكبر في عالمنا العربي، ذلك أن لا شيئ يهدد الذكورية الصارمة لمجتمعاتنا مثل تمكين المرأة من جهة وإعادة قراءة المفاهيم الجندرية من جهة أخرى. هذان التوجهان يشكلان الرعب الأكبر للذكورية الشوفينية الشرق أوسطية، والتي تشكل جانب هوياتي مهم في المجتمعات العربية.
إن ما حرك الرأي العام العربي عموماً، والذي تجاوبت معه بعض الحكومات العربية، هو في الواقع الخوف لا الغضب، الخوف على منظومة هرمية ذكورية، يجلس على قمة هرمها “الأب” المتسلط، من أن تهز عرشها دمية.
يبقى أنني لم أنسى ما ذكرته في بداية المقال حول حق العامة أن ترفض دفاعاً عن قيمها، إلا أن الرفض في الدول المدنية المتحضرة، كما ذكرت أعلاه، لا يأتي مصحوباً بالسيف ولا التهديد ولا الصراخ، الرفض يأتي مقنناً، مرسوم الخطوات، ليأخذ شكل شكوى لاحقة لعرض الفيلم، ولتبت فيه المحكمة والتي يفترض ألا توافق على المنع إلا في أضيق وأصعب الحدود.
وهنا علينا أن نتوقف عند نقطتين إضافيتين مهمتين” أولهما أن الخصوصية الثقافية المنغلقة أصبحت اليوم مفهوماً واهناً نظراً للانفتاح الثقافي العالمي، وتخالط الناس من خلال السفر والتبادل الفني، وبالتأكيد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ما يخشاه المجتمع من “دخيلات” ثقافية إنما يتعرض لها الكبار والصغار بشكل يومي وعصابي مستمر من خلال تويتر وانستغرام والتيك توك وبقية وسائل التواصل، بلا توقف، بلا مراقبة، وبلا غربلة.
الحماية والغربلة والفلترة، خصوصاً بالنسبة للأطفال، هي مسؤولية الأفراد البالغين الواعين الذين ينظر لهم على أنهم مكتملي الأهلية في مجتمعاتهم، والذين يفترض أنهم لا يحتاجون حكومة أمومية أو أبوية لتأمرهم أو ترشدهم أخلاقياً.
إن الحوارات التي تدور في الأعمال الفنية الغربية، ومنها حوارات التعددية والمرونة الجندرية، هي حوارات عالمية، جزء من الفكر الإنساني العام، والتي، اتفق الناس أو اختلفوا معها، ليس من صالحهم أن يتفادوها أو يتجاهلوها، ذلك أنهم إن أغلقوا عليها الباب، ستدخل عليهم وعائلاتهم من الشباك. من الأفضل أن نتعامل مع هذه القضايا العالمية ونواجهها ونعيد التفكير فيها ونرتب لمقاومتها، إن تطلب الأمر، بوضوح وشجاعة، لا بخوف يستعرضه صراخ وزعيق لا طائل منهما ولا نتاج لهما.
من فكاهة المفارقة في الكويت، أن ألعاب باربي تملأ السوق المحلية، وأن هناك حالياً مسرحية يتم الإعلان عنها تحمل إسم وألوان باربي، وأن بضائع الفيلم بحد ذاته تنتشر في الأسواق ويقبل عليها الناس، وأن من يرغب في مشاهدة الفيلم له أن يقود سيارته ساعتين أو ثلاث ليصل لدار عرض مجاورة، وأن من لا يرغب في القيادة يمكنه أن يحمِّل الفيلم انترنتياً، وأن من لا يرغب في هذا أو ذاك ما عليه سوى أن ينتظر بضع أيام أو أسابيع أو شهور ليتوفر الفيلم على إحدى منصات المشاهدة الشهيرة.
وهكذا نعود لنقطة الصفر والتي تتمثل في مسؤولية الأشخاص عن أنفسهم. قريبأ، إن لم يكن قد حدث فعلاً، سيتوفر الفيلم للصغار قبل الكبار، وسيكون على من يرى فيه ضرراً أو من يجد مانعاً فكرياً أو أخلاقياً من مشاهدته اتخاذ إجراء شخصي على نفسه وأهل بيته، لأنه لا حكومة في العالم ستكون قادرة على السيطرة على “الكون الإنترنتي”. فما الهدف من كل هذه الضجة “المنعية”؟ أي هدف تحقق منها؟ هدف أوحد فقط: الحكومة حققت مكسب أو مقايضة سياسية. هل تحقق أي هدف أخلاقي أو تعززت أي قيمة مجتمعية أو تم إيقاف وصول الفيلم فعلياً بهذا المنع؟ لنواجه أنفسنا بجدية ونحن نجاوب على هذه الأسئلة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.