مؤخرًا؛ أثارت تجربة الإسلام السياسي في الشرق الأوسط خيال الأدباء والمفكرين في محاولة فهم وتصور ما يحدث، مما ليس له مثيل في العصر الحديث، كاستدعاء صور الحياة في القرون الوسطى، بعدما ظنّ الإنسان المعاصر أن تلك الحياة أصبحت من الماضي؛ فرأينا جماعات الإسلام السياسي تقتل وتذبح باسم الله، وترجم بالحجارة نساءً ورجالًا حتى الموت، وتُقام أسواق لبيع وشراء العبيد والجواري، كأن الزمن قد عاد بآلاته الفخمة التي لم نكن نتوقع أن نراها سوى في أفلام الخيال العلمي.
وضع يُحتم على ذوي العقول دراسته، والبحث في أسباب استدعاء هذه الحياة البائدة لتصبح أكبر تهديد يواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، وعليه صدرت التساؤلات؛ ما الذي أدى بهؤلاء البشر أن يقدسوا ماضيهم بهذا الشكل؟ وهل يمكن للإنسان أن يستغني عن عقله وتفكيره وضميره إلى هذا الحد؟
نعرف بحكم التجربة التاريخية أن الإنسان يمكنه التخلي عن ضميره لبعض الوقت في عز صراعاته وحروبه، لكن فور هدوء السيوف وصمت الرصاص تسكن النفوس ويعود للعقل اتزانه وللنفس علاماتها الفكرية والأخلاقية، لكن الذي نراه يختلف تمامًا؛ حيث سعت جماعات الإسلام السياسي لدولة شريعة إسلامية بقوانين خاصة كانت منتشرة في القرون الوسطى، واستغنوا تمامًا عن كل منجزات الحداثة سوى السلاح الذي يقتلون به، وبعد تحقق هذه الدولة وشعورهم بالأمن لم ناهم يراجعون هذا التصور السياسي لحُكمهم، وامتلأت جلساتهم بالمُنظّرين الذين يطلبون المزيد في الأراضي، وتوسعات جديدة تحقق سيادتهم الكلية على العالم.
حكمت “دولة داعش” شمال العراق ثلاث سنوات من 2014- 2017، وكذلك منطقتي دير الزور والرقة في سوريا لبعض السنوات، وكذلك بعض المناطق في ليبيا، إضافة لحُكم تنظيم القاعدة شريكًا لداعش في تلك المناطق مع مناطق في أبين باليمن، وأخيرًا وصل الإخوان المسلمون – وهم في رأيي الذراع السياسي لجماعات الإرهاب – لحكم مصر والمغرب وتونس لبضع سنوات، ومع هذا الصعود السريع غير المتوقع كان سقوطهم سريعًا، ولكن بشكل متوقع؛ فما الذي أدى لتوقع سقوطهم مع عدم توقع نجاحهم في الصعود؟ وهل استمعت جماعات الإسلام السياسي لنصائح الخصوم؟ وهل لديهم القدرة على مراجعة أفكارهم عن الدولة الحديثة وتصوراتهم للإنسان المعاصر؟ وهل يرغبون فعلاً بالتعايش مع المخالفين ولديهم القدرة على الإيمان بدولة العلم وأولوية مصالح الشعب عامة؟
البراجماتية كتعريف
إن مفتاح الإجابة عن تلك الأسئلة يتطلب بحثًا دقيقًا حول تصور جماعات الإسلام السياسي للبرجماتية، وهي اسم مشتق من اللفظ اليوناني براجما (Pragma)، وتعني (العمل)، ويعرفها قاموس “ويبستر” العالمي (Webster) بأنها: تيار فلسفي أنشأه “تشارلز بيرس” (1839- 1914م) Charles Sanders Peirce ووليام جيمس (1842- 1910م) William James، ويقول بأن حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العلمية، لذلك اصطلح عليها بلفظ (العملية) كأقرب تصور مفهومي لها؛ حيث ترجمت بعدة معان لا تعطي هذا المحتوى الدقيق، وقد كان ظهورها بهذا المعنى ثورة علمية تجريبية أضافت لتجريبية هيوم وفرانسيس بيكون الكثير.
ويمكن تبسيط فكرة البراجماتية في نظرية “العاطفة والسلوك” لويليام جيمس؛ حيث قال: إ”ن المشاعر ليست هي التي توجه أفعالنا (نشعر بالسعادة وستضحك)على العكس من ذلك؛ فإن أفعالنا هي التي توجه مشاعرنا (اضحك وستشعر بالسعادة)؛ فقاده إلى استنتاج رائع: “إذا كنت تريد السعادة والجودة؛ فتصرف كما لو كنت تمتلكهما بالفعل”. وباختصار: يقول جيمس إن الحل في المبادرة وعدم انتظار الظروف وتغير الأحوال لصالحك، وهذا يعني في حال رغبت بتكوين صداقات ناجحة وعلاقات جيدة؛ فلابد أن تسعى وتبادر بإنشائها وتحافظ على نسيجها بمرور الوقت، عبر المفتاح الوحيد والحل السحري وهو (المبادرة)، ومن خلال هذا المفتاح وصل علماء النفس إلى أن علاج مشاكلنا العاطفية والجنسية غالبًا يكمن في استنتاج جيمس، ولو أسقطنا ذلك على العلاقة الزوجية المتأزمة؛ فالطبيب النفسي ينصح الزوجين بأن علاقتهما ستتحسن لو تصرفا مثل المتزوجين حديثًا بغرض إحياء الزواج.
البراجماتية والإسلام السياسي.. تأصيل فقهي
بدأت القصة بأول ثورة فقهية في التاريخ الإسلامي عرفت بثورة (المصالح المرسلة)، وهي التي بدأ الحديث فيها الإمام “أبو المعالي الجويني” (417- 478هـ)، ثم شرحها باستفاضة الإمام “أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي” المتوفي عام 790هـ في كتابه المعروف “بالموافقات”، والمصالح المرسلة هي التي لم يذكرها الشارع أو يلغيها، يعني سكت عنها، لكن تحقق منافع الناس وتدرأ المفاسد عنهم، ولها أداة شهيرة عند الفقهاء تسمى (بالاستصلاح)، وتعني اختيار الأصلح، وأداة أخرى تسمى (الاستحسان)، وأخرى تسمى (الاستصحاب)، وتعني أن يستعين الفقيه بحكم سابق لحكم لاحق، وبالتالي فالمصالح المرسلة هي استنتاج الفقيه بناءً على واقع سيئ أراد الفقيه أن يصلحه، وسميت مرسلة أي لا دليل نصيًا عليها لكن تحقق المصلحة بالعموم.
وقد وضعوا لها هدفًا عامًا يتحقق بها؛ وهو (مقاصد الدين الخمسة) التي تعني “حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال”، والمعنى أن الإسلام جاء ليحقق تلك المقاصد بأية وسائل، وبالتالي صار هناك تفريق بين الوسيلة والمقصد، وتفريق آخر بين الواقع والتصور الذهني؛ فالفقيه أصبح مطلوبًا منه أن ينطلق من الواقع المادي المحسوس على حساب تصوراته وميوله، لأن تصوراته سوف تكون مقيدة بشكل مؤكد بنصوص الدين الظاهرية، وهو على حساب تلك المصالح مطالب أن يستنتج صالح الناس العام والخاص بناء على اجتهاد عقلي منه غير منصوص عليه في الكتب، وهي عملية فقهية شاقة بكل تأكيد، لكنها في الأخير أعطت رونقًا وبريقًا للفقه الإسلامي، ومرونة عالية للمذاهب كي تبقى في محيط مختلف أشبه بالتقية؛ لكن هذه المرة ليست دون خوف ولكن بدليل عقلي وفقهي معتبر صار الأمر مختلفًا.
إن القول بأن الحكومة هي التي تحقق مقاصد الدين سيفضي إلى (دولة دينية)
نرى من ذلك أن جماعات الإسلام السياسي عندما تعاملوا بالمصالح المرسلة في فترة ما بين قيامهم عام 1928 حتى دخولهم السجن عام 1954، ثم تعاملوا بها بعد خروجهم من السجن في السبعينات حتى قيام ثورة يناير 2011، نجحوا فيها باختراق المجتمع، وظنوا أن دور المصالح المرسلة انتهى وعلى الإخوان أن ينتقلوا للمرحلة الثانية حسب برنامجهم وهو (التمكين)؛ فكفروا بكل المصالح التي آمنوا بها طيلة أربعة عقود، كذلك فالسلفية الوهابية تعاملوا بتلك المصالح في التواصل بالحكومة أو مع بعض التيارات الدينية الأخرى كالصوفية والشيعة والمسيحية واليهودية إلخ. وسلفيو مصر طبّق بعضهم ذلك قبيل ثورة يناير، لكن بعد الثورة كأن هناك فيروسًا أصابهم فعزلوا أنفسهم عن الجميع وكفّروا كل مخالفيهم، وحدث كل ما حذرهم منه المثقفون بأن مشروعهم كان بالأساس بشريًا سلطويًا ولا علاقة له بالدين.
إن سر صمود الجماعات بالمصالح المرسلة أن فقاءهم من خلالها وصلوا لعدة أنواع جديدة من الفقه، وهي:
- فقه الواقع، والذي يعني اعتماد الحس مصدرًا للمعرفة، بالضبط مثلما ينطلق فلاسفة البراجماتية، وبالتالي ترى وتسمع، يعني أن تعرف وتفقه، ولا مجال هنا للحديث على النظريات والأمور العقلية.
- فقه المآلات، والذي ينظر فيه المسلم للنتائج، وأن يتحسس خطواته؛ فلا يتخذ قرارًا بمجرد تأثير العاطفة والميول؛ بل لابد من دراسته بشكل علمي محايد ومجرد.
- فقه الأولويات، ويعني البدء بكل ما هو أولي وأهم، وتحكيم العقل والشرع في معرفة الأولوية، يعني قول الله: “لا تعتدوا” مقدمًا على قوله: “قاتلوا”، لأن الثانية مقيدة بأفعال الآخرين، وبالتالي أصبح قوله “لا تعتدوا” في حد ذاته مبدأ.
- فقه المقاصد، وهو الأرقى على الإطلاق كونه هدفًا عامًا للمصالح المرسلة، ويعني حفظ (المال والنفس والدين والنسل والعقل) كما تقدم.
ومعنى المقاصد أنه لو قال الدين بحرمة النفس بإطلاق فيحرم إزهاقها ولو بفتوى شرعية، وقد خالف الشيوخ هذا المقصد الديني وقالوا بحد الردة وقتل الزاني المحصن وشاتم الرسول، رغم أن الله في القرآن يقول: “النفس بالنفس” بينما المرتد والزاني والشاتم لم يقتلوا أحدًا ولم يعتدوا على الأرواح، وقتلهم مخالفة شرعية كبيرة حدثت بأثر تمسك الشيوخ بأقوال البخاري وفتاوى أئمتهم منذ قرون، وهي ردة عقلية لجماعات الإسلام السياسي نتجت عن توظيف تلك الجماعات لصالح الحكام في فترة زمنية ما؛ فأوجد هذا الأمر في نفوسهم طموحًا ومسؤولية للتغيير ظنوا من خلالها أنهم مكلفون بتغيير المجتمع؛ فلو لم يوظفهم الحكام لصراعاتهم الخاصة؛ ما أوجد ذلك في نفوسهم أي مسؤولية للتغيير، وظلت دعوتهم على مستوى السلوك والأخلاق والجانبين التربوي والتعبدي.
الخلط بين المقاصد والوسائل
وصل الشيوخ قديمًا لقاعدة فقهية نجحوا من خلالها في تعميم النص الديني وفقًا لرغبات الحكام، وعن طريقها حرفت أجزاء كبيرة من الدين، تلك القاعدة هي (للوسائل حكم المقاصد)، أو (الوسائل لها أحكام المقاصد)، وتعني اعتبار الوسيلة مقصدًا وغاية في ذاتها، وبالتالي صارت أمورًا كثيرة في الدين بدلا من كونها وسيلة متغيرة تتبدل أصبحت غاية ثابتة لا تتغير.
ومن أمثلة الخلط بين الوسائل والمقاصد بناء على تلك القاعدة الفقهية ما يلي:
- اعتبار الحدود والعقوبات القرآنية مقصدًا في ذاتها وليست وسيلة للارتقاء المجتمعي، أو فرض القانون وإرهاب المذنبين، وبناء على تلك القاعدة تأسست جماعات العنف الإسلاموية، التي ترى مجرد تطبيق هذه الحدود هدفًا.
- الخلط بين الوسائل والمقاصد أيضًا جعل من مجرد قراءة القرآن هدفًا وغاية ومصدرًا لكسب الحسنات، دون إعمال العقل والتدبر والعمل الصالح، وقد تسبب هذا الخلط في شيوع الدين الشكلي بكثرة والاعتقاد الجماهيري بسهولة كسب الحسنات عن طريق القراءة، وسهولة إبطال السيئات أيضًا بمجرد القراءة؛ علمًا بأن الأمر بقراءة القرآن هو لفهمه فقط؛ فأنت لن تفهم الإسلام سوى بقراءة النص القرآني، إنما هؤلاء أنكروا مقاصد القراءة، وهي الفهم والتطبيق العملي السلوكي، وجعلوا نصوصه مقصدًا في حد ذاته مما تسبب في شيوع الغباء وتعطيل القرآن وإنكار آياته عملاً.
- لو كان شخص ما يؤمن برضاع الكبير من حلمة الثدي مباشرة؛ فهذه أصبحت غاية ومقصدًا في ذاتها، وليست وسيلة للتحريم بالرضاع كما هو شائع في كتب الفقه، وهذه النقطة التي عن طريقها أنكر بعض الفقهاء رضاعة الكبير وجعلوها مخصوصة لسالم مولى أبي حذيفة وللفرار من تبعاتها الخطيرة.
- الخلط بين الوسائل والمقاصد جعل (المصالح ثانوية)، وهو ما اشتهر بين فقهاء الإسلام السياسي بكلمة (المبادئ فوق المصالح)؛ فهم قوم لا يعملون للمصلحة ولا يهمهم حياة الناس؛ بل تمسكوا بحرفية النصوص، وجعلوا وسائلها غايات ومقاصد في ذاتها حتى لو أدى ذلك لنتائج كارثية على المجتمع، ومن يرى داعش والقاعدة وما آلت إليه المجتمعات من دمار وخراب سيتأكد.
وما حملهم على القول بتلك القاعدة هو عدم تفريقهم بين الوسيلة والمقصد من حيثية الأخلاق، ومن حيثية المجتمع والسياسة؛ فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا (أخلاق)، وإذا كان المقصد نبيلاً فالوسيلة نبيلة (أخلاق)؛ إنما عند التطبيق ظنوا أن كل وسائل القرآن والحديث هي طيبة لذاتها لا لموضوعها؛ فعندما يقول الله تعالى بضرب الزوجات جعلوها غاية لا وسيلة مخصوصة فقط لمجتمع قريش، الذي كان يضرب دون هجر وعظة؛ فاختفت لديهم المساحة بين الذات والموضوع، حتى ظنوا أن فعل الضرب حسنٌ لذاته، أو كما يصفه بعض فقهائهم أن (الضرب مكرمة للنساء)! ولولا ضعف هؤلاء الفقهاء الذهني وتحريمهم للعقل وتقديمهم للنقل ما قالوا بتلك القاعدة؛ فالواجب عليهم دراسة المجتمع والسياسة قبل إقرار مبادئهم الفقهية، لكن علم السياسة لديهم مستهجن، وإذا تكلموا فيه فلمصالح الحكام لا غير، وعلم الاجتماع أيضًا لديهم مستهجن؛ فبأقل دراسة لعلم الاجتماع سيكتشفون أن كل ما درسوه عن الشريعة وفتاوى الأئمة لم يعد صالحًا، وهم يخشون الصدمة، ولا أن يصحو أحدهم على فجيعة تدمر مذهبه بالكلية.
الواقعية الغائبة عن جماعات الإسلام السياسي
“إن القاعدة التي تسيطر على جماعات الإسلام السياسي تقول: “إن الحكومة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق مقاصد الدين”؛ فالمقاصد لديهم هي ثوابت كالتوحيد والرسالة والنبوات وحراسة الأخلاق والعقيدة، وتطبيق الشرع المنصوص عليه والدفاع عن المسلمين، ثم يرون هذه المقاصد البديل الوحيد لعدم انهيار الإسلام وشيوع الكُفر مثلما يعتقدون، وبعد سنوات طويلة من تأليف عبد السلام فرج كتابه “الفريضة الغائبة” الذي يقصد به الجهاد لتحقيق مقاصد الدين، لم يتغير هذا التفكير حتى الآن، لكن مواقف هذه الجماعات تتباين من ناحية قدرتهم على تحقيق تلك المقاصد بالقوة، منهم من يضع المبادئ فوق المصالح، وبالتالي فالجهاد أولى حتى وهم ضعفاء، ومنهم من يقول بالعكس؛ بأن المصالح أولى حين يستحيل تحقيق المبادئ، وأن تلك المصالح المتحققة هي في ذاتها تحفظ المبادئ لحين قدوم عصر التمكين، والفرقة الثالثة والأخيرة تجمع بين الاثنتين، أي تقول بالموازنة بين المصالح والمبادئ متى استطاعوا ذلك، وهذا ملف تنظيمي كبير يكتب فيه قادة وشيوخ الإسلام السياسي.
إن القول بأن الحكومة هي التي تحقق مقاصد الدين سيفضي إلى (دولة دينية) قولاً واحدًا؛ فالدول الدينية التي حدثت في التاريخ – والتي يتحلل من اسمها المشبوه بعض جماعات الإسلام السياسي لتاريخها السيئ في أوروبا تحديدًا – هذه الدول حدثت بنفس الطريقة وعن تطبيق نفس القاعدة وهي: “أن الحكومة هي وسيلة إنجاز مقاصد الدين”. (من مقالي: هل الحكومة واجب ديني أم مصلحة دنيوية؟ / الحوار المتمدن بتاريخ 6/ 7/ 2022).
يصبح الوضع مختلفًا لو فكروا بواقعية انطلاقًا إما من المصالح المرسلة أو من البراجماتية، وسوف أضرب مثالين لكيفية التفكير بشكل واقعي عملي، نلاحظ من خلالهما أن غيابهما عن جماعات الإسلاميين كان سببًا في سقوطهم السياسي والاجتماعي والعسكري السريع، حتى إن حججهم الدينية وشعاراتهم صارت مستهلكة لم تعد مقنعة لرجل الشارع مثلما كان عليه الوضع قبل 15 عامًا.
أما الواقعية فليست مذهبًا عقلانيًا؛ بل هي طبيعة في الشخص قد تكون فطرية أو مكتسبة
المثال الأول للواقعية: هو أن ترفض أحداثًا منتهية مثل الفتنة الكبرى مثلاً بين علي ومعاوية، مثل الملك فاروق، وهل كان أفضل من عبد الناصر أم لا؟ مثل مبارك وهل قتل المتظاهرين أم لا؟ مثل يونيو 2013 وهل كانت ثورة أم انقلابًا؟ هل سجن ابن تيمية وابن حنبل ظلم أم عدل؟
فالعيش داخل هذه الأحداث أدى لحرب طواحين الهواء، ويعني أن الإسلامي حينها كان يُحاول فهم أو إصلاح شيء (غير موجود)، وانشغاله بتلك الأمور الأيدلوجية دام واستمر معه (أيدلوجيا) حتى أصبح جزءً من كيانه، مما أدى لتشبعه بالوهم وسيطرة الخرافات على جسده بالكلية، والحالة الأيدلوجية – في الغالب- تؤدي بصاحبها للعزلة وإهمال واقعه وبالتالي يتخلف.
المثال الثاني: يفرض عليك الانشغال بالأحداث (الحالية والمعاصرة) يعني مثلا حرب سوريا والعراق واليمن، حرب داعش في سيناء، أهداف روسيا وأمريكا في المنطقة، أهداف إيران والسعودية، كذلك الفقر والفساد وخدعة التنوير بالنسبة للمصريين، المستقبل المجهول بالنسبة للسودان وليبيا واليمن، وهكذا، لأن العيش داخل تلك الأحداث محاولة فهم وإصلاح شيء (موجود)، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن خلال هذا النجاح يمكن للإسلامي أن يرى حاضره بوضوح، ومن ثم يمكنه اختيار مستقبله؛ فالمستقبل دائمًا يأتي من الحاضر وليس من الماضي كما تتوهم جماعات الإسلام السياسي، وهذا يتطلب منهم نقدًا لماضيهم وماضي أئمتهم.
يبقى السؤال: ما الذي يحدد إذا كان هذا واقعيًا أم لا؟ يعني من الممكن أن يكون الحدث المنتهي مثل الفتنة الكبرى؛ له تأثير واقعي، وبالتالي فالانشغال به واقعية. والجواب: أن التأثير الواقعي لحدث منتهٍ جاء بسلوك وطريقة أيدلوجية؛ فلا يوجد شخص واقعي يفكر أيهما أحق بالخلافة من 1400 سنة، من يسأل هذا السؤال هو شخص رجعي، وعليه فالسؤال الحقيقي: كيف نتعامل مع الشخص الرجعي؟ أو على الأقل كيف نجعل هذا العالم واقعيًا، وهل إهمالنا للشخص الرجعي سيساهم في إصلاحه أم لا؟
وشخصيا أنا أتعامل مع الحالة الرجعية بطريقة واقعية؛ فكل الحروب التي تحدث في اليمن وسوريا والعراق أساسها الرجعية التي أنتجت نُظما سياسية وجماعات لها أطماع ومعتقدات لا علاقة لها بالواقع، وبالتالي أواجهها كما هي:
أولًا: عن طريق ربطها بالحالة الرجعية وكشف طبيعتها الأيدلوجية المرفوضة.
ثانيا: بفضح جرائمها الحالية وتحميل أيدولوجيتها المسؤولية، وينطبق ذلك على كل الحروب الطائفية بالشرق الأوسط بين المسلمين، والتي كان أساسها السؤال الرجعي (أيهم أحق بالخلافة معاوية أم علي؟)، وفي تقديري أن هذه الطريقة مفيدة جدًا لفهم الأحداث والتنبؤ بمستقبلها؛ فعندما يستقر في ذهني أن معركة ما أساسها سؤال رجعي فيعني أن الحرب بالكامل تجري بطريقة خاطئة، وأن ملخص ما يحدث هو فرض مجموعة ما على أخرى، إجابتهم المذهبية على سؤالهم الرجعي.
الواقعية ليست مذهبًا عقلانيًا؛ بل طبيعة شخصية
أما الواقعية فليست مذهبًا عقلانيًا؛ بل هي طبيعة في الشخص قد تكون فطرية أو مكتسبة (معيار) يعني أنه لا يوجد مذهب فلسفي يسمى الواقعية مثلما توجد مذاهب فلسفية كالوجودية، بمعنى أن الوجودي قد يكون واقعيًا وقد لا يكون، وكل ما ذكر هنا في الواقعية يخص الفنون، وترجمتها بالإنجليزية Realism، وهو اتجاه لتمثيل الواقع الفني بصدق (تمثيل- رسم- نحت)، ومؤخرًا ظهرت برامج تحاكي هذا الفن اسمها (تلفزيون الواقع)، مثل ستار أكاديمي بالعربي والأخ الأكبر في الغرب، الهدف منها الفصل بين الواقع العملي للإنسان وبين خيالاته وأحلامه منذ الصغر، أما فلسفيًا فالواقعية تفرض عليك الاهتمام بالفلسفة التحليلية وتفكيك الكليات إلى جزئيات، ثم تجريدها كمفاهيم مستقلة وجمعها بعد ذلك بالاستقراء، كذلك الاهتمام باللغة وتأثيرها الثقافي، هذا جزء من الاتجاه الواقعي الذي أطلق عليه البعض (فلسفة مادية).
ومختصر الواقعية من الناحية الفلسفية، هي: لو افترضنا وجود السؤال السابق: “أيهم أحق بالخلافة معاوية أم علي؟”؛ فالواقعية هنا تناقش تأثير هذا السؤال على حياتنا، وهل الواقع يهتم بالإجابة أم لا؟ كل الواقعيين عموما يعتبرون مثل هذه الأسئلة عبثًا لا يقدم شيئًا للبشرية، ولو كان تأثيرها موجودًا فلا يعدو كونه حالة أيدلوجية نناقشها بطريقة واقعية، بمعنى أن المختلفين على الإجابة يعيشون سويًا؛ ربما داخل أسرة واحدة، وبالتالي أمامك خياران، الأول: أن تقتل من يجيب إجابة خاطئة لا تناسبك، والثاني: أن تعيش مع الطرف الآخر مهما كانت إجابته، والإسلاميون عمومًا مع الخيار الأول (الأيدلوجي)، بينما دعاة التنوير والثقافة مع الخيار الثاني (الواقعي)، ولا يوجد احتمال لخيار ثالث قد تتهم من خلاله بالنفاق أو الجهل بأبجديات الصراع؛ فالإرهابي مهما كان مفكرًا مستقلاً فقد اختار طريقه بوضوح، أما من يبرر ويختار طريقًا وسطًا لا انحياز فيه، يعني أنه لا يوجد شخص واقعي ولا أيدلوجي؛ بل قدم مصالحه الشخصية الضيقة على العامة.
إن ضياع الواقعية والمنهج العملي عند الإسلام السياسي أدى لقولهم بترجيح المظنون على المقطوع به، أي يقدمون الظن على اليقين، وفي أمثالهم نزل قوله تعالى: "إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون"
أذكر أيضًا أن من أهم علامات ضعف وفشل جماعات الإسلام السياسي هي (نفيهم للأسباب)، وهي مرتبطة -كما تقدم– بإهمال الواقع لحساب التصورات الذهنية والميول، وهذه العلامة ليست وليدة اللحظة أو القرن الذي نعيشه؛ بل هي ضاربة في عمق التاريخ، لكن جماعات الإسلام السياسي تأثروا بها ونفوا علاقتهم بالأسباب نتيجة لقولهم بقدسية الماضي، والانطلاق لدولة الشريعة في تصورهم من دولة الخلافة القديمة، وهذه نقطة طالما حيّرت وأعجزت فقهاء الإسلام السياسي حتى ممن قالوا بالمصالح المرسلة؛ فقد عجزوا عن تحرير إشكالية نفي الأسباب لمؤداها الذي قد يفضي بهم للقول بما يعتقده الفلاسفة أو المعتزلة.
وللتوضيح: فالسائد في الفكر الإسلامي طريقتان للتصوف، دخلت الثانية منها الفكر الإسلامي الحديث وطُعّمت بها كافة جماعات الإسلام السياسي؛ إذ كان منشأ تلك الجماعات ينطلق من نفس الجزئية التي انطلق منها أسلافهم الذين تأثروا بالمنهج الصوفي؛ خصوصًا الذي كان سائدًا طوال العصرين المملوكي والعثماني:
- الطريقة الأولى: عقلانية، وهي التي كان عليها ابن عربي وغيره في التأمل، واختصارها أن العين أساس المعرفة والقلب أساس اليقين، وبالتالي مهمة الصوفي هي ربط الناس بالواقع المحسوس من الإبصار لا إنكاره، والصفة الأهم في تلك الطريقة أن يحدّ الصوفي من تأثيره الشخصي في المعتقدات، يعني لا يحرص على اختراع مذهب ديني جديد طالما يؤمن بأن الكون يسير بالعلم المسبق من الله؛ فيكون تدخله ليصبح مؤثرًا هنا سيكون عملاً سلطويًا سياسيًا، يصبح فيه الصوفي فوق الدين نفسه، وهذا شرك وهرطقة عند هذا التيار، والأولى أن يكون اجتهاده دنيويًا لا دينيًا، وهذا يفسر اتجاه وميول هذا التيار لعدم التورط والاستغراق في مناقشات العقيدة والخلافات اللفظية، أو التحريض على كراهية الآخر بالعموم.
- الطريقة الثانية: خرافية، وهي التي عليها سائر ومعظم صوفية هذا الزمان، الذين أخذوا عقائدهم من دراويش ومجاذيب القرون الوسطى، وشرحها بعض فقهاء الصوفية المعاصرين – كالشعراوي – بطريقة مبسطة في جلساته التفسيرية الدعائية، واختصارها أنه طالما كل شيء مكتوب بعلم مسبق؛ فنشاطك وجهدك لا قيمة له، وبالتالي غير مطلوب منك العمل والتفكير والاجتهاد وحين تتعرض للأذى سيدفع الله عنك بمعجزات وكرامات كما دافع عن الأنبياء والصالحين. وهنا الفارق بينها وبين الطريقة الأولى، أنه لو كانت الطريقة الأولى لا تحبذ الاجتهاد في الأمور الدينية وتصورات العقائد الأخروية – لوضوحها في القرآن لديهم – بينما تقول بأولوية الاجتهاد الدنيوي وتطوير الفقه لمصالح الناس؛ فالطريقة الثانية تقول بحرمة الاجتهاد في كلا الأمرين – الديني والدنيوي –، والتاريخ يشهد أن تزامن علوّ وصعود تلك الطريقة في الفكر الإسلامي تزامن مع وقف الاجتهاد الفقهي والتشدد في قمع المخالفين، وبرغم قولهم بمنع الاجتهاد الديني، إلا أنهم قلدوا سلفهم فيه فانشقوا لمذاهب إسلامية كثيرة يكفر بعضها بعضًا على مسائل ميتافيزيقية ولغوية وتفاسير بعض الآيات والأحاديث.
علمًا بأن هذه الطريقة تؤمن بدور الصوفي المحوري في التغيير، وبالتالي على الشيخ أن يزيد من تأثيره وجماهيره حتى لو أدى ذلك لصناعة طريقة دينية خاصة به، وهذا تفسير لتعدد الطرق عند هذا التيار للآلاف طبقًا لعدد منتسبيه، أما الطريقة الأولى العقلانية فهي التي تعززت بقوة التيار التنويري الأوروبي منذ 300 عام؛ فالمسيحية دين صوفي بالأساس، وقوة التنوير الأوربي منذ القرن 18 شجعت هذا التيار العقلاني للظهور؛ فبدأ رجال الدين يدعون الشعب للانسجام مع دعوات الصناعة والإنتاج المادية المنتشرة في هذا العصر، إضافة لتعزيز مذهب الواقعية البراجماتية الذي استفاد من الفكر الظاهري البروتستانتي، خلافًا للتيار الثاني الذي كان معزولاً بشكل شبه كامل عن الواقع، ويرى لنفسه سلطة تأثير بمعتقدات دينية تنفي الأسباب وتعتقد بأفضلية المسلمين لمجرد الاسم.
خاتمة
إن ضياع الواقعية والمنهج العملي عند الإسلام السياسي أدى لقولهم بترجيح المظنون على المقطوع به، أي يقدمون الظن على اليقين، وفي أمثالهم نزل قوله تعالى: “إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون” [الأنعام: 116]، و” ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون” [الزخرف: 20]؛ فجماعات السلفية الآن تمارس (الخرص) المنهي عنه شرعًا، وهو الحكم على الناس بمجرد الظنون، حتى إنهم يتهمون فلانًا بالكفر والبدعة لمجرد الشك، ويأخذون الأحاديث الظنية على أنها صادقة وصحيحة، مما يفسر عدم أخذهم بالأيسر في الأحكام والمعاملات الفقهية، ودائما يُعسّرون على الناس شؤون حياتهم؛ فكلما اتبعوا الظن آمنوا بالمتشابه والمختلف عليه فتشددوا فيما يسره الله عليهم، وأصبح كل رأي مخالف هو كفر في ذاته رغم أن ما قدموه في الأخير مجرد ظن ورأي مرجوح بأدلة أقوى منه في الغالب.
وفي المصالح المرسلة كما قلنا “دليل الاستصحاب”، ويعني الاستدلال بأصل الشيء كصاحب وقاعدة يقينية لا تزول إلا بدليل أقوى؛ فإذا أرادوا تطبيق دولة إسلامية شبيهة بدولة طالبان؛ فالشرع يُحتم عليهم رفضها لفشل دولة طالبان وسوء تطبيقها كأصل، ولو أرادوا اتهام واحد بالكفر؛ فالشرع يثبت إيمان ذلك الواحد كأصل يقيني لا يزول إلا بدليل أقوى/ صاحب مقطوع به لا يساوره الشك، بينما نجد الجماعات السلفية والإسلام السياسي يطالبون بدولة شبيهة بما عليها تجربة طالبان ويسموها الدولة الإسلامية، ويُفحشون في تكفير من يُنكر عليهم هذه التجربة، ويُبالغون في تكفير معارضيهم بالشبهات رغم كثرة القرائن النافية.
وبما أن هذا التصرف منهم غير واقعي وغير عملي، أدى لرفض تجاربهم من الشريحة العظمى من الناس، ومن استعداء وخصومة لمعظم دول وشعوب العالم؛ فمن الطبيعي إذًا أن تصبح تجاربهم عند الناس لا علاقة لها بالشريعة، وما تطالب به وتحرض الناس على اكتسابه هي أهواؤهم الشخصية في الحقيقة، وأغلب ما أحلّوه للبشر هو ما ألفوه، وأغلب ما حرموه هو ما نفرت منه أنفسهم، ثم ألبسوه رداءً مقدسًا ليقبله العامة، ومن يتابع ردة فعل الشعوب التي سقط لديها حكم الإسلام السياسي يرى هذه الاتهامات الموجهة إليهم بوضوح، رغم أن أصل الفكرة الدينية وخلطها بالسياسة لا زالت رواسبها في وعي المسلمين من أثر الصحوة الوهابية، لكن التجربة في الأخير صارت حَكَما واقعيًا على الصحوة ككل، وهو ما يهدد أي تجربة لهم في الحاضر والمستقبل إذا لم يتراجعوا عن هجرة الواقع لصالح الرغبات، وإهمال العلم والعقل لصالح الميول والعواطف.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.