أن تكون مندوب توصيل للطلبات تبدأ يومك راكضًا في الصباح، تهرول بين المناطق في كل حدَبٍ، ومن الظهيرة حتى المساء، أو تفترش الأرصفة لبيع البطيخ أو الألعاب أو الفاكهة متسمرًا كأنك جذع أكلته الأرضة على بسطتك، تنتظر من يأتي ويشتري منك، حتى تتصلب عظامك، ثم يظهر موظف البلدية فتفر راكضًا هاربًا؛ إنه المعنى الحرفي والواقعي لأن تكون بدون.
أن تكون بدونًا؛ فتكاليف دراستك بالنسبة بمثابة جهاد لأهلك، ودراستك الجامعية عبارة عن حلم بعيد، وحصولك على عمل شيء أقرب للخيال، لأنه بكل بساطة؛ زواجك ودراستك ووظيفتك وسفرك، وحتى الحج لبيت الله الحرام و معيشتك بأكملها، كل ذلك مقرون ببطاقة يدون بها جنسية، أنت لا تمتلكها، وفضلًا على ذلك أن هذه البطاقة لاتعد إثباتًا رسميًا لحامله.
حياة، على حافة الهاوية
يعيش المجتمع البدوني على فكرة واحدة في هذه الحياة؛ أنك خلقت لتثبت تواجدك ومجيئك لهذه الحياة بورقة، وعندما تموت يكمل الأحياء تلك المسيرة عنك، ويحاولون إثبات خروجك من هذه الحياة بـورقة أخرى، وليجاهد المجتمع كله ويقضي حياته في سبيل ورقة تثبت الوجود، و ورقة أخرى تنفي.
بينما تسعى الدول الأخرى لتنمية الأفراد، ومحاولة العمل لبناء أجيال قادمة تقود المجتمع بالعمل والإنتاج والفكر، يعيش البدون حصارًا وابتزازًا من قبل الجهاز المركزي، مقاطعة على خطى منصور بن عكرمة، الذي كتب صحيفة لحصار المسلمين، وكان فيها المنع من أن لا يزوجوهم، وأن لا يتزوجوا منهم، وأن لا يبيعوا لهم، وأن لا يشتروا منهم، وأن لا يجالسوهم أو يخالطوهم.
ولم تشفع خدمة أجدادنا وتضحياتهم لاكتساب حق المواطنة، وحتى تواجدنا الذي سبق إحصاء ١٩٦٥، الذي يجب العمل به، لم يكن شفيعًا لنا؛ فما الذي يشفع وكيف تكون المواطنة؟
ماذا عساك أن تتوقع بعد كل ذلك من مجتمع يسخرون منه يوميًا، بسبب عجزه الذي لم يكن هو يومًا سببًا فيه. إن سياسية الإقصاء هذه صنعت مئات الحالات النفسية الصعبة، التي تصل في بعض الأحيان للانتحار.
جيل كامل مهمش وسط المجتمع، ومعدم بتضييق الجهاز، لا يمارس حياته كإنسانٍ طبيعي، ولا ينسجم مع المجتمع، ماذا يتوقع من جيلٍ أكلت الغربة صدورهم وهم في وطنهم، بعد أن تم عزلهم منذ الصغر حتى الكبر.
وطالما عاد الحديث الآن عن الأوبئة والجوائح؛ فنستذكر الأزمة الأقرب والأخيرة مع جائحة كورونا، عندما شلَّت الحياة بأكملها في الكويت، وأصبح الفرد البدون بلا وظيفة، ودون مصدر رزق، وبلا مأكلٍ ومشرب، مع إيجارات متراكمة بين كل هذه المآسي، لم يكترث به أحد.
في وسط كل ذلك كواحد من مجتمع البدون، قد يتم الحجز على أموالك في البنوك، بحجة انتهاء البطاقة، والتي لا تستطيع تجديدها، لوجود قيد أمني وضع عليك بمزاجية.
في ظل هذا ماذا لو جاعت ابنتك؟ وأنت في كل هذا العجز ووسط قيود كورونا، هل تسرق؟ هل تخرج عن كل حدود المنطق؟ بدافع الأبوة سيدفعك الجنون لأمور غير عقلانية، ويكون للشيطان مئات المداخل عليك، ولكن بعد ذلك لاتلومن إلا نفسك، أنت المتهم وأنت المسائل، ومن أوصلك لهذا الحال بريء، هذه نتاج السياسة المتبعة منذ ٢٠١٠ حتى ٢٠٢٣، وحتى الغد سنظل نعاني من هذا الفشل الحكومي المتأصل.
فلا يعي أصحاب تلك الرؤية الفاشلة، أن الله قد خلق الإنسان وكفل له هذه البديهيات الحياتية، كالحق في التعليم والعمل والصحة وغيرها، وإن لم يجدها أو لم يستطع الحصول عليها، ينكسر ويتحطم به شعور العزة والكرامة، وبعد ذلك سوف يستعصي عليك إصلاح كل ذلك وترميمه.
الهوية، كيف تكون؟
هذا الوطن قام على الهجرات، من شتى بقاع الأرض، وأننا عبارة عن بدو رحل استقررنا واستوطننا هذه الأرض، ويجب التعامل معنا حصرًا لتاريخ تواجدنا مقرونًا بقانون الجنسية، ونصوص الدستور لهذه الأرض، وأننا جزء لا يتجزأ من هذا الوطن، الذي تخضب ترابه بدماء أجدادنا، وكانت المعارك السابقة خير شاهدٍ لذلك.
وتعد «الهوية» هاجسًا يؤرق اليمين المتطرف في الكويت، متناسين سلسلة من الإخلاص للأجيال المتعاقبة من المجتمع البدون، ولم تشفع خدمة أجدادنا وتضحياتهم لاكتساب حق المواطنة، وحتى تواجدنا الذي سبق إحصاء ١٩٦٥، الذي يجب العمل به، لم يكن شفيعًا لنا؛ فما الذي يشفع وكيف تكون المواطنة؟
ثم يخرج علينا ذاك المسؤول ليقول جملته الشهيرة «أن تكون بدون في الكويت، أفضل من أن تكون مواطنًا في أي دولة بالعالم».
وكيف يبقى الفرد البدون معتلًا على السرير، لا يعيش إلا بوخز الإبر ومغذيات الحلول الوهمية ومخدر الصبر، دون قرارٍ حازم ونهائي، ينهي هذا الهراء كله؛ فإن كان قرار الجنسية سياديًا، وكان يوجد ولو مزورًا يعطل هذا الحل، لماذا لا يتم تحويله للقضاء ومواجهته بتزويره ومحاسبته؟
إذ يدعي الجهاز المركزي أن تعطيل حل قضية البدون منذ الستينيات إلى الآن سببه وجود مزورين، أخفى بعضهم جنسياتهم ودخلوا للكويت، خلسةً وادعوا أنهم بدون.
كيف لا يستطيع الفرد البدون أن يقاضي المتسبب في تأخير حل قضيته بحججٍ واهية؟ كمية التساؤلات التي تفصل الجدل في هذا النقاش كثيرة، وتقطع الطريق على من ينادي بعبارة «يوجد مستحقون ويوجد مزورون لايستحقون».
ويبقى من يدفع ثمن هذا الفشل الحكومي، هم المجتمع البدون بأكمله، ويبقى أفراده تعيش في أزمات نفسية تجعل منهم أشخاصًا غير أسوياء، ولا يشبهون الذين من حولهم.
أخيرًا وليس آخَرًا؛ فالجميع ساهم ببناء هذه القاعدة الظاهرة، واعتبار ما يقدمه الجهاز المركزي حلولًا لمشاكل البدون، مع أن باطنها مقْصلة إعدام مدني يقف عندها ربع مليون من البدون طوابير، ليلقى حتفه كُلٍ منهم واحدًا واحدًا، وكانت المساهمة إما بالقبول بما يحصل، أو القبول بذلك التسويف الحاصل، أو عدم الاكتراث، أو بالرفض الصامت، والسكوت عن الحق.
وبمرور الأيام، تحتضر أحلام مجتمع البدون وتنطوي الآمال، وتنتهي الأجيال، ويذوب لقب الإنسانية المزيف، وتظهر حقيقة ظلم المجتمع البدون شيئًا فشيئًا، حتى نفذ صبر الفرد البدون، وكان السبيل الوحيد لإنهاء هذا الهراء أن يرمي بنفسه للتهلكة إما مشنوقًا أو مدهوسًا.
ثم يخرج علينا ذاك المسؤول ليقول جملته الشهيرة «أن تكون بدون في الكويت، أفضل من أن تكون مواطنًا في أي دولة بالعالم». ويعلن تناقص تعداد المجتمع البدون كإنجاز.
ولكن الحقيقة دائمًا واضحة، وهي أن عدد المجتمع البدون في ازدياد، والمواطنة الحقيقية قد أثبتها المجتمع بأكمله دون الحاجة لأي أدلة وبراهين، لأننا وبكل بساطة قد تجاوزنا مرحلة الإثبات، ومن أراد الحقيقة فواجبٌ عليه أن يبحث عنها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.