تمر اليمن في الوقت الراهن بأسوأ أزماتها على مختلف الأصعدة، لا سيما على الصعيدين الصحي والنفسي، وعلى الرغم مما خلفته سنوات الحرب الهائلة من آثارا نفسية وصدمات كبيرة، إلا أن المأساة الحقيقية تكمن في انعدام الكوادر المتخصصة في مجال الصحة النفسية، وهو ما فاقم الوضع الصحي والنفسي لآلاف المرضى النفسيين في اليمن.
على مدى 7 أعوام يعاني عبد الله اليوسفي، في حالة من العزلة، على إثرها تدهورت حالته الصحية، وأصبح شبه مشلولا وغير قادرًا على الحركة أو حمل جسده الهزيل، بعد أن تبددت آمال أسرته في شفائه من الاضطرابات النفسية، لتطوى سنوات عمره بين الكثير من النوم والهذيان والصمت الطويل.
يواجه المصابين بالاضطرابات النفسية في اليمن صعوبة الوصول أو الحصول على خدمات الرعاية الصحية المناسبة، من علاج وجلسات الدعم النفسي والتشخيص.
تقول شقيقته في حديثها لمواطن ،عبد الله الذي كان يعمل تربويا في إحدى مدارس أمانة العاصمة صنعاء، ما يقارب العقدين من عمره وكان بصحة جيدة، إلا أن حالته تدهورت في العامين اللذين تلاهما انقطاع راتبه مصدر دخله الوحيد في مارس ٢٠١٦ م، بسبب الحرب.
وتضيف: “إن انعدام الخدمات الصحية المتعلقة بالصحة النفسية، لم تمكن شقيقها من الحصول على العلاج والرعاية المناسبة، وتوافرها بشكل مستمر الجلسات الخاصة بالدعم النفسي، ما أدى إلى تفاقم حالته وتدهورها نحو الأسوأ”.
وتلفت في ختام حديثها، أنه ليس أمام أسرتها أي خيار أخر لإنقاذ حياة شقيقيها الصعبة، وإن وجدت سوى بضعة مراكز طبية متخصصة وسط العاصمة اليمنية صنعاء، والتي من المفترض أن تكون مليئة بالأطباء والمراكز المتخصصة في مجال الصحة النفسية” .
تعد قصة عبدالله واحدة من مئات القصص التي تكرر نفسها في كثير من منازل اليمنيين، لا سيما في ظل الحرب الدائرة منذ أكثر من ثمانية أعوام والتي تركت، أثارا نفسية وصدمات كبيرة لدى مختلف شرائح المجتمع، وبلغ نسبة المصابين بالاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة وفق دراسة صادرة عن “مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري” نحو 32% بالمئة من إجمالي السكان ما بين 2014 و2017.
حوالي 8 ملايين يمني، أي بمعدل فرد واحد من كل أربعة أفراد، يعانون من مشاكل عقلية ونفسية اجتماعية، تفاقمت بسبب الحرب والنزوح القسري والبطالة ونقص الغذاء وغيرها من الظروف القاسية.
ويواجه المصابين بالاضطرابات النفسية في اليمن صعوبة الوصول أو الحصول على خدمات الرعاية الصحية المناسبة، من علاج وجلسات الدعم النفسي والتشخيص وبحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، فإن نظام الرعاية “الصحية النفسية” في اليمن يعاني من نقص شديد في التمويل والاهتمام، وندرة المختصين العاملين في المجال بشكل كبير.
ومن (يناير وحتى أغسطس) من العام الجاري استقبل مستشفى الأمل للأمراض النفسية والعصبية وسط العاصمة صنعاء (9000) ألف مصاب نفسي، تنوعت واضطراباتهم النفسية بين والإدمان والفصام والقلق والاكتئاب، وبحسب الطبيبة النفسية” مارية الحميدي” فإن أغلبهم لم يكون بحالة جيدة منذ قدومهم للمستشفى، ولم يحصلوا في وقت مبكر على الرعاية أو العلاج المناسب مما تفاقمت وساءت حالتهم الصحية.
وتشير ماريا الحميدي، المشرفة على متابعة حالات المرضى في مركز الأمل، إلى أن هناك قصور في الخدمات التي يتم تقديمها للمرضى بشكل عام سوى في المركز أو في مراكز أخرى وتضيف لمواطن “إن هناك ما يزيد عن(300) حالة استقبلهم المركز وحالتهم كانت متأثرة ولا تزال حتى الآن الصحية غير جيدة وصحتهم متدهورة بشكل كبير.
ويشير تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية، خلال 2023 إلى أن حوالي 8 ملايين يمني، أي بمعدل فرد واحد من كل أربعة أفراد، يعانون من مشاكل عقلية ونفسية اجتماعية، تفاقمت بسبب الحرب والنزوح القسري والبطالة ونقص الغذاء وغيرها من الظروف القاسية.
فيما بينّت دراسة سابقة صادرة عن (مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري) إن هناك 195 فرد من كل 1000 فرد، من الفئة العمرية ما فوق 16 عاما، وكبار السن يعانون من اضطرابات نفسية. الدراسة نفذت خلال الفترة (مارس 2015 – يونيو 2017)، وخلصت نتائجها إلى أن نحو (5.5 خمسة ملايين ونصف مليون) شخص يعانون من اضطرابات نفسية.
رحلة البحث عن طبيب نفسي
في رحلة مثقلة بالوجع وفي منطقة ريفية تخلو من مركز متخصص بالأمراض النفسية، كانت والدة الشاب سنان العمري، تتنقل ما بين دور الروحانيين والمشعوذين علّها تجد دواء يشفي إبنها البالغ من العمر 25 عاما، ممّا علق به من مرض.
وتروي الأم منتهى صالح (50 عاماً) ودموعها تسابق حديثها أن ابنها كان مصابا باضطرابٍ نفسي، وليس مسحوراً، كما كانت تعتقد، موضحة إنه بعد ثلاث سنوات من المعاناة وبعد تدهور صحة ابنها ، تلقت نصيحة من أحد أقربائها بنقله إلى مستشفى متخصص بالأمراض النفسية، بدلاً من مشايخ فك الأعمال والسحر.
وحاليا سنان نزيل مشفى الأمل للأمراض النفسية في العاصمة صنعاء، التي تبعد عن مسقط رأسه في مديرية “القفر” غرب محافظة إب بنحو( 252.6)كم.
وصنفتْ اليمن في أدنى مراتب خدمات الصحة العقلية، كما تعاني من ندرة الكوادر المؤهلة، إذ لا يعمل حاليا سوى 45 طبيا نفسيا في عموم اليمن، وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن (36) منهم يعمل في العاصمة اليمنية، فيما يعمل (9) منهم في محافظة عدن جنوب البلاد – طبيب واحد لكل 700.000 فرد وهي نسبة أقل بكثير من المعيار العالمي الذي يتطلب توفر 33.9 طبيب نفسي لكل 100,000 شخص.
وبحسب دراسة تقييمية حديثة أعدتها “وزارة الصحة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي” نفذت في ست محافظات هي -: أمانة العاصمة، محافظة صنعاء، الحديدة ، تعز، المحويت حجة، فإن الأطباء العاملين في مجال الصحة النفسية في هذه المحافظات 48 طبيا منهم 17 استشاري كلهم ذكور و30 طبيب وطبية (24 طبيب 6 طبيبات).
ووفق تقييم الدراسة فإن نسبة الذين يعملون في أكثر من منشأة صحة حكومية 45% من الكوادر النفسية، وكما وجد التقييم أن الكوادر الطبية النفسية في التخصصات الفرعية لطب النفسي معدومة مثل: علاج الادمان والطب النفسي الشرعي ويوجد فقط 2 أطباء مختصين في الاضطرابات النفسية للأطفال والمراهقين.
وبحسب التقييم فإن التوزيع الكوادر الطبية في المحافظات 80% في أمانة العاصمة 0% بصنعاء 13% في محافظة حجة والمحويت و 6% الحديدة، كما أظهرت نتائج التقييم أن 75% من إجمالي الأطباء العاملين في مجال الصحة النفسية في اليمن يعملون في ثلاث محافظات فقط.
معاناة قائمة ومستمرة
من جانبه يقول عبد الكريم زبيبة، الرئيس الأسبق لقسم علم النفس في جامعة ذمار “إن ندرة الكوادر المؤهلة في مجال الصحة النفسية في اليمن من ممرضين وأطباء ومعالجين مشكلة، لا تزال قائمة رغم إنها ليست وليدة اللحظة”.
ويشير إلى أن مشكلة ندرة الأطباء تؤثر بشكل مباشر على صحة المصابين وتهدد مستقبلهم الصحي النفسي من جميع الجوانب. كما إن حياة أغلب المصابين الذين لم يتلقوا الرعاية الصحية بشكل متكامل بسبب انعدام الكوادر والأطباء النفسيين مهددة بالانتحار والموت نتيجة عدم تلقي الرعاية.
ويقول مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي بوزارة الصحة في صنعاء الدكتور عادل الذرة لمواطن “إن تزايد الحالات النفسية استدعى برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة والسكان لتنسيق مع منظمة الصحة العالمية لمواجهة ذلك من خلال افتتاح 30 عيادة متخصصة في المستشفيات العامة، وتأهيل الكادر العامل فيها خارج أمانة العاصمة صنعاء”.
ويكمل بأن ذلك العدد غير كافي، ولا يسد الاحتياج وإنما هو مجرد حلول، وبدائل للتخفيف من معاناة المرضى وتفاقم حالتهم، حد قوله.
ويشير إلى أن الفجوة والاحتياج في الكادر الطبي النفسي لليمن حتى تصل إلى المستوى الإقليمي للدول الأقل دخلا، والذي يتمثل في وجود عدد (1) طبيب نفسي لكل 100000 من السكان، بمعنى أننا بحاجة ماسة الى تدريب 225 طبيب وطبيبة في الطب النفسي.
حلول ممكنة
مع استمرار إشكالية ندرة الأطباء النفسيين، يعاني نظام رعاية الصحة النفسية في اليمن من نقص شديد في التمويل، وانخفاض الاهتمام الحكومي، بالإضافة إلى وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بأمراض الصحة النفسية، والاهتمام المحدود من الجهات الإنسانية الفاعلة في تعزيز الصحة النفسية، ونُظم الدعم النفسي والاجتماعي.
ويرى استشاري العلاج والإرشاد النفسي، ومدير مستشفى السعادة للصحة النفسية ذمار، محمد عامر، أن الحكومة ملزمة بأن تعمل على رفع درجة مادة الطب النفسي والعلوم السلوكية في كلية الطب وجعلها مساوية لباقي المواد وإعادة فتح دبلوم علم النفس الاكلينيكي ضمن مساقات المجلس الأعلى للتخصصات الطبية، كونه كان الرافد الوحيد للعلاج النفسي.
ويلفت إلى ضرورة تدريب عدد من الأطباء العموم على مستوى المستشفيات والمراكز الطبية على دورات متخصصة، حتى يساهمون في تخفيف الفجوة، بالإضافة إلى تزويد المستشفيات والمراكز الطبية بالأدوية النفسية المجانية، التي بالامكان توفيرها من المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني.
ومن جانب آخر يقول الخبير النفسي في مجال الصحة النفسية الدكتور، محمد البعداني، “إذا كان هناك دافع ورغبة لتجاوز تأثيرات نقص الأطباء والمعالجين النفسيين فمن أهم ما يجب القيام به هو اتخاذ إجراءات لزيادة توفر الخدمات الصحية النفسية وتعزيز التوعية والتعليم في هذا المجال تعزيز الاستثمار في التدريب والتوظيف والتأهيل وتحسين ظروف العمل للأطباء والمعالجين النفسيين الموجودين لتعزيز استمراريتهم”.
ختاما قد لا تكون هذه حلول نهائية للإشكالية، إلا إنها قد تمثل نقطة بداية أو خارطة طريق لتحقيق حلم لا يزال آلاف اليمنيين في إنتظار تحقيقه، أو الوصول إليه بسهولة ويسر، وهو الحد الأدنى من خدمات الرعاية النفسية، لاسيما وأن الواقع القاسي فتح الباب أمام المزيد من أشكال المعاناة التي لا تنتهي.