من بين الوثائقيات الجميلة التي تابعتها مؤخرًا على “نتفليكس”، برنامج عن سر المناطق الزرقاء التي يعمِّر أبناؤها إلى سن متأخرة، يصل إلى المئة وأحيانًا يتجاوزها، ومن بين الأسباب التي ذكرها مقدم البرنامج بالإضافة لطبيعة الغذاء ونقص التوتر والقيام بأعمال غير شاقة؛ كان الترابط العائلي والبقاء في محيط من الأهل والأًصدقاء؛ فمثلاً يكبر الفرد في سردينيا مثلاً وهو في أمان واطمئنان، لأنه معتاد على تواجد الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، بالإضافة طبعًا للأم والأب من حوله في البيت، وبالتالي فهو يعرف أن يومًا ما سيُعتنى به كما يعتنِي هو الآن بالمسنين في عائلته.
لا يمكنك متابعة البرنامج دون الشعور بجمال هذه العلاقات الممتدة من آباء الأجداد إلى الأحفاد، كما أنك لن تستطيع التوقف عن مقارنة هذه العوائل بعوائل أخرى يكبر أفرادها على الفردانية وحب الذات؛ فينتهي بهم المطاف وحيدين مهمَلين، ولا أشك أن المشاهِد مهما كان انتماؤه الفكري سيفضّل أن ينتمي للنوع الأول من العوائل، ويموت بعد عمر طويل في كنف أحبابه.
في السنوات الأخيرة انتشر خطاب يدعو للفردانية، ويشجع الفرد أن يحيا لذاته، ويقنعه بأن لا فضل لأحد عليه في الحياة، خطاب يحض على التخلي بسهولة عن كل ما يجلب الطاقة السلبية للفرد غير آبه بالمعنى الفضفاض لهذه الجملة، وكأنك ملزم بأن تشع طاقتك الإيجابية طوال الوقت حتى وإن كنت مريضًا أو متعبًا أو فاقدًا أو غارقًا في أزمة، وإن لم تفعل فأقرب المقربين قد يبتعد عنك لأن طاقتك معدية.
خطاب أناني فردي شوه علاقات كثيرة في البيت الواحد، وفكك روابط أسرية يرى كل فرد فيها أنه ليس بحاجة للآخر، وقد طالت النتائج أمهات وآباء أصبحوا في خطر الانعزال والوحدة، لأن أحدًا لا يريد أن يضحي ويتحمل، والنتيجة لم تكن راحة لأي طرف؛ فالفرد الذي رفع راية “عدم الحاجة لأحد“، هو نفسه قد وضعته الحياة في مواقف الحاجة؛ فوجد نفسه وحيدًا وبائسًا؛ بل وأصبح يبث تلك الطاقة السلبية التي كان يهرب من أصحابها ولا يجد من يتحمله لنفس السبب.
قد يُفاجأ البعض بأن كاتبة هذا المقال نسوية؛ فمفهوم النسوية تم تشويهه من قبل المهاجمين له، الذين أذاعوا بأن النسوية ضد الأسرة وتدعو للفردانية، وفي هذا ظلم وتجنٍ أوضحته فرجينيا هيلد في كتابها ” أخلاق العناية “؛ تقول فرجينيا إن النظريات الأخلاقية المبنية على صورة الفرد العقلاني المستقل الذي يحكم نفسه تتجاهل فكرة الاعتمادية الإنساني، لا أحد يستطيع أن يعيش دون أن يعتمد على الآخر بشكل أو بآخر، ولأننا نعتمد على بعضنا بعضًا فعلينا الاعتناء ببعضنا البعض؛ فالنسوية كما تراها الكاتبة وأتفق معها ليست ضد الأسرة؛ بل هي ضد النظرية الفردية التي تعزز صورة خاطئة عن الأفراد والمجتمع، وتؤسس لمجتمع مريض يعيش أفراده بعزلة وأنانية.
إذًا فمن أين أتت هذه الاتهامات للنسوية؟ كعادة كل متحفز للهجوم؛ فهو يجتزئ الكلمات ويختار من الجمل ما يعزز وجهة نظره، لم تكن النسوية يومًا ضد الأسرة، لكنها دائمًا ضد الأسرة التي تقوم على قمع المرأة.
النِّسْويّة ضد الأسرة التي تقوم على الاضطهاد؛ فهي ترفض دعوات حماية الأسرة بالسكوت عن اضطهاد المرأة، وكأنّ اضطهاد المرأة هو الطريق الوحيد لبقاء الأسرة، وتؤكّد أنّ هذا الطريق لن يبني أسرة سليمة، وكعادتها فالنسوية تقدم حلولاً وأطروحات بديلة مبنيّة على العلم والمنطق، وتؤكّد أنّ العناية بالأسرة يجب أن تمشي جنبًا بجنب مع العدالة لأطراف هذه الأسرة.
لقد أبدعت الكاتبة فرجينيا هيلد في كتابها “أخلاق العناية” في وصف العمودين الذيْن يجب أن تقوم عليهما الأسرة، العناية والعدالة، والعلاقة بينهما، الأسرة السليمة يجب أن تبنى على العدالة وأخلاقها المتعلقة بالإنصاف والمساواة والحقوق الفردية، والعناية وأخلاقها التي ترتكز على الاستجابة للحاجات والثقة وتنمية العلاقات. العدالة تحمي الحقوق، والعناية ترعى مصالح من يعتنون ببعضهم، والجميل أن العدالة تبحث عن حلول منصفة لمصالح متنافسة، بينما العناية ترى أن مصالح من يعتنون ببعضهم مترابطة وليست متنافسة. العدالة تحمي الحقوق والعناية وتقوي الترابط الاجتماعي وهذا ما نحتاجه، نحتاج للعدالة متناغمة مع العناية؛ هكذا ترى النسوية الأسرة.
النِّسْويّة ضد الأسرة التي تقوم على الاضطهاد؛ فهي ترفض دعوات حماية الأسرة بالسكوت عن اضطهاد المرأة
كما أن في العناية يكتسب الفرد الفضائل الأخلاقية، ولهذا فإنّ فكرة أن يكون الاعتناء بالأطفال صفة الأمّ فقط، بينما يكون واجب الأب هو جلب المال، تؤدّي لحرمان الأب من الفضائل الأخلاقيّة التي تجلبها العناية.
لقد حاول المجتمع الأبوي عبر قرون تمجيد عمل المرأة في العناية بأسرتها دون تقديم حقوق لها بالمقابل تمجيدًا شفوًيا، وسرعان ما تكتشف المرأة كذبه وزيفه، عندما تجد نفسها أكثر من يتعرض لإساءة التعامل والاحتياج المادي عند الطوارئ.
إن جعل العناية واجبًا على الأم فقط يحرمها من الأمان والتعلم وتطوير الذات، كما يفقرها ويعرضها للحاجة ويجعلها هشة معرضة للاستغلال، وإعطاء الأب واجب الإنفاق على الأسرة فقط يحرمه من الأخلاقيات التي تمنحها العناية، ومنها تقوية الأواصر الإنسانية والشعور بالآخر ونبذ الأنانية.
يخلص الكتاب بأن تمجيد “العناية” بدون توزيع واجبات العناية، تؤدّي لاستغلال النساء استغلالًا سيّئًا، وربط الأعمال الاعتنائيّة بالمرأة وبالأنوثة، واستثناء الرجل منه من أكثر الأسباب التي أدّت لتقويض العدالة، ولهذا فإنّ العناية يجب أن ترتبط بالعدالة، ويجب أن نطالب بـ”العناية العادلة“؛ فقط بهذا المصطلح نستطيع أن نقدّم العناية مع تأمين الحقوق، هذا ما توضّحه “هيلد” في كتابها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه العناية قد لا تكون أفضل بالضرورة لكنّها بالتأكيد ستكون أكثر إنصافًا، وهذا التوصيف لا يمكن أن يتحقّق في مجتمع أبويّ.
إذًا فالنسوية لم تكن يومًا ضد الأسرة، النسوية تدعم خيارات المرأة كلها، إن أرادت تكوين أسرة أو لم ترد فهذا خيارها، إن أرادت أن تنجب أو لا فهذا خيارها أيضًا، ومهما تكن اختيارات المرأة فعلينا أن نتأكد ألا تتعرض للاضطهاد تحت أي ذريعة كانت.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.