“لم نتوقع أن يصل الأمر لهذه الكيفية، لكنه وصل”، هكذا تحدثت أم عبد الله بأسى كبير وحزن شديد ارتسم على ملامح وجهها، وهي تسرد تفاصيل قصة ولدها ذي 14 عشر عامًا، وهو يعاني تدهورًا ملحوظًا على المستوى الشخصي والاجتماعي والدراسي.
تابعت: “وصلتنا شكاوى من المدرسة لم نكن نتوقعها يومًا؛ انخفاض المستوى الدراسي، وعزلة شديدة عن أقرانه؛ خصوصًا وتصرفات غير لائقة لم نتوقعها، كنت أعتقد أن الأمر قد يخص مشاجرة قد حدثت أو متغيرات قد يمر بها مثل من هم في سنه، لكن الأمر تفاقم أكثر وأكثر، وصل الأمر إلى أنه لا يمارس رياضته المفضلة ويتأخر عن أداء فروضه”.
وأضافت لـ “مواطن“: “قررت أنا وأبوه مراقبته بشكل أكبر وبصورة أدق، لنكتشف أنه يقضي ما يقارب 7 ساعات متواصلة على برنامج “التيك توك”؛ بل إنه يرفض تناول الوجبات الثلاث معنا؛ فقد كان يقضي جل وقته في تصفحه دون توقف أو ملل، تساءلت في نفسي هل يمكن أن يكون فقط مشاهدًا أم ماذا؟
تنفست بحرقة وواصلت الحديث قائلة: “في أحد الأيام ذهب أبوه للعمل خصوصًا وكنت مسبقًا متفقة معه من أجل مراقبة عبد الله، هو لم يكن يعلم بذلك، لكن ما حدث لم يكن بالحسبان، قمت بالدخول عليه بشكل مفاجئ في غرفته؛ فإذا به يقوم بتصوير نفسه شبه عارٍ على شكل مقاطع ونشرها على تطبيق تيك توك والمصيبة أن هناك متابعين صغارًا وكبارًا يتفاعلون معه. بعد ذلك قررنا أنا وأبوه عرضه على أحد الأخصائيين التربويين أو النفسيين لتدارك المسألة قبل أن تتطور وتصل إلى طريق مسدود لا يوجد منه مفر”.
تيك توك هو تطبيق لمشاركة الفيديو، مملوك لشركة بايت دانس الصينية، وتُستخدم فيه الوسائط الاجتماعية لإنشاء مجموعة متنوعة من المقاطع المرئية القصيرة، مثل الرقص والكوميديا والتعليم، والتي تتراوح مدتها من 3 ثوانٍ إلى عشر دقائق.
وفي دراسة أجراها أكبر محركات البحث في مجال التسويق والإحصاء backlinko تبين أن عدد مستخدمي ” التيك توك” في 2020 فاق 125 مليون شخص، بمعدل مليون شخص كل شهر؛ خصوصًا يتراوح أعمار 25% بين 10-19 عام، 60% من الإناث و40% من الذكور، ويحتل نطاق الترفيه المرتبة الأولى بمجموع 535 مليون مشاهدة، تليها مقاطع الرقص 181 مليون مشاهدة، ولتحتل المقاطع التي تم تصويرها في الخارج 2 مليون مشاهدة فقط.
مخاطر نفسية وسلوكية
قالت استشاري في الطب النفسي والجسدي رانيا البشر حول تأثير وحساسية المقاطع التي ينشرها التيك توك: “حسب مركز الأبحاث الأمريكي فإن 69٪ من البالغين و81٪ من المراهقين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن لكي نفهم هذا التأثير لابد أن نستوعب كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على العقل البشري، لماذا في كل مرة نحاول الإقلاع عن استخدام هذه البرامج نواجه بالفشل؟
وتابعت لـ “مواطن”: “تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بتحفيز مراكز المكافأة (Reward center) في الدماغ، وتساهم في إفراز نواقل كيميائية مثل الدوبامين، وهي مرتبطة بشكل مباشر بالشعور بالمتعة، والذي يحفز على متابعة هذه القنوات والإدمان عليها بشكل كبير؛ إذ تم تصميم هذه المنصات ليتم الإدمان عليها؛ فالعملية ليست عشوائية، ولكنها مدروسة بشكل فعلي يربط المستخدم بها ارتباطًا وثيقًا، وهذا ما يجهله البعض للأسف”.
كما يبين الأخصائي التربوي والنفسي علي السلطان حول مدى تأثير وخطورة هذه المقاطع بالنسبة إلى التربويين، قائلًا: “وسائل التواصل من المسببات الرئيسية في تشكيل سلوك الأطفال، لما تتمتع بتنويع طرق الجذب إليهم على اختلاف أشكالها وأنماطها ومسمياتها الشكلية والضمنية؛ فالمقاطع التي يشاهدها الطفل تُخلد في ذاكرته، وقد يقوم بتقليده سواء بشكل سيء أو جيد، بحثًا عن الاستكشاف وإشباع رغبة الفضول لديه، لذلك فإن دور التربويين مهم جدًا في توعية الوالدين بصورة مكثفة ودائمة وبأسلوب واقعي ورصين، لوضع حدود وأوقات معينة لاستخدام الطفل لهذه البرامج حفاظًا عليه وخوفًا عليه من تلقي الأفكار والمشاعر التي سيقوم بترجمتها إلى أعمال وتصرفات لاحقًا”.
وأشارت “البشر” حول سبب ارتفاع نسبة المشاهدات للمقاطع من قبل الإناث على الذكور، قائلة: “لخصت دراسة أمريكية تم عملها في عام 2016 وجدت أن النساء يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة ١٢٪ أكثر من الرجال، وأن السبب يعود لوجود عدة أسباب مختلفة، منها أسباب نفسية وتتعلق بطريقة تفكير كلا الجنسين، وهذا ما يجعل النساء تستخدم هذه البرامج مقارنة بالرجل”.
وتابعت: “كما وجدت دراسة أخرى أن الذكور يستخدمون برامج الألعاب الإلكترونية أكثر من الإناث، وذلك نابع من تعبير الذكور عن إحباطاتهم التي يتعرضون إليها بشكل جسدي أكثر؛ في حين تميل النساء إلى التعبير عن طريق المشاعر والأحاسيس مثل مشاركة وكتابة التعليقات المؤذية، أو قطع التواصل واستبعاد الآخرين؛ خصوصًا أن وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من فرص هذه التفاعلات الضارة بسبب ما توفره من مساحة كبيرة وحرية وغير مسؤولة من قبل الأفراد”.
وأضافت “إن هذه البرامج تركز في المجمل العام على المظاهر الخداعة غير الواقعية بسبب استخدام خاصية “الفلتر” المتغيرة باستمرار، مما يفتح المجال للجنسين للمقارنة مع مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا عند النساء، دون الإدراك أنها مجرد صورة لمدة ثوان معدودة من حياة هؤلاء المشاهير لا تعكس حياتهم ولا ظروفهم ولا شخصياتهم ولا ما يمرون به من ظروف واقعية”.
ويعلق “السلطان” حول نسبة ارتفاع السلوكيات الخطأ بين الجنسين من خلال هذه المقاطع “إن السلوك السيء مرتبط مدى تكراره ومشاهدته وكذلك مدى شدته؛ فإن الاستخدام الطويل بمعدل أكثر من ساعتين يوميًا للأجهزة والبرامج يضع الطفل في خانة (الإدمان الإلكتروني) حسب توصيف منظمة اليونسكو للتربية والتعليم؛ فمعدل استخدام الطفل أيا كان جنسه وعمره للبرامج، يجب أن يقابله ضبط من الوالدين بشكل منظم وملاحظ دون تهاون، وغالبًا فإن الإناث أكثر تأثرًا باستخدام هذه البرامج بسبب طبيعتهن النفسية التي تحث على البحث عن الاستكشاف والعصرنة، بينما يتجه الذكور نحو الألعاب الإلكترونية بحثًا عن المتعة والإثارة والمغامرة”.
نمو الشخصية والصحة العقلية
ويوضح السلطان حول التأثير السلبي الذي تخلقه هذه المشاهد على نمو شخصية الطفل وتطويرها “يعتبر برنامج التيك توك من البرامج المرئية التي انتشرت بين أوساط الأطفال بشكل كبير وملحوظ، بما يحمل من مميزات كثيرة؛ فأصبح متداولاً بينهم لسهولة التسجيل والبحث في المواضيع أيا كانت ومتتابعة مايُعرض”.
وتابع: “نحن نعلم أن الأشياء المرئية حتى بالنسبة لنا -نحن الكبار- تعتبر أكثر متعة من الأشياء المقروءة أيًا كانت؛ فهي تترسخ في الخيال والأفكار وتؤثر بشكل عميق ومباشر، لذا فإن التأثير السلبي لهذا البرنامج كبير جدًا؛ فهو يؤثر على أفكار الطفل؛ فيصدق ما يتم عرضه بأي شكل؛ خصوصًا تبني للطفل أفكارًا قد لا تكون مناسبة لعمره ومرحلته، وعلاوة على ذلك عدم قدرة الطفل على انتقاء ما يشاهده؛ منها الأمور المخلة والقيم التربوية الأصيلة، مما تجعله يقوم بالمقارنة المقارنة ما بين ثقافته المجتمعية وحياته وما يشاهده عن حياة الآخرين”.
وأضاف: “إن هذه المقارنة تبني أفكارًا قد تخالف الثقافة التي يمتلكها وتربى عليها؛ مثل مفهوم الصداقة والعلاقات العاطفية و مقارنة حياته بالغير، لأن الوقت الطويل الذي يقضيه فيها ليس شيئًا عابرًا؛ بل هو يتسبب أيضًا في تراجع مهاراته الاجتماعية والشخصية، وهي سبب في وجود الخجل الاجتماعي وعدم الاختلاط بالآخرين، وهي من السمات البارزة التي نراها عليه، وكذلك من الناحية الدراسية التي شهدت انخفاضًا ملحوظًا في المستوى الدراسي على مدى السنوات الأخيرة، وتفشي الكسل والاعتمادية، وكل ذلك بلا شك له تأثير بارز على الصحة الجسدية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات السمنة وآلام المفاصل”.
المنع ليس حلاً؛ فنحن مجبرون على استخدام هذه الأجهزة، لكن الحل يكمن في التقنيين وانتقاء ما يشاهده الطفل
كما أوضحت “البشر” حول الأمراض والاضطرابات التي من الممكن أن تنشأ وعلاقتها بالصحة النفسية والعقلية جراء مشاهدة هذه المقاطع: “لم يتم إلى الآن إدراج الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي ضمن الكتاب التشخيصي للطب النفسي، ولكن هناك الكثير من الأبحاث التي أثبتت زيادة في نسبة أمراض الاكتئاب والتوتر والقلق واضطرابات النوم ومشاكل في الذاكرة وقلة الثقة بالنفس؛ خصوصا أن هذه البرامج تساهم في خلق المقارنة مع الأقران”.
وقالت حول تقبل واعتراف الآباء لهذه المشاكل والاضطرابات النفسية: “هناك للأسف قلة من الآباء الذين يلجؤون إلى المعالج النفسي والاعتراف بذلك، وقد يعود ذلك للجهل وعدم إدراكهم للتأثير السلبي لهذه البرامج من الناحية النفسية، أو قد يكون السبب هو الشعور بالعار والمواريث المتعلقة بزيارة الطبيب النفسي والمصاحبة للأمراض النفسية”.
هل نمنع أطفالنا أم نسمح لهم استخدام تلك البرامج؟
يرى “السلطان” أهمية تخصيص أوقات معينة لاستخدام الأطفال لهذه البرامج يقول: “المنع ليس حلاً؛ فنحن مجبرون على استخدام هذه الأجهزة، لكن الحل يكمن في التقنيين وانتقاء ما يشاهده الطفل، بالطبع لا نستطيع منع الطفل دون توفير البديل، والبديل هو إشغال الطفل قدر الإمكان بالأنشطة والفعاليات، بالإضافة إلى وضع قانون عام في المنزل يراعي استخدام هذه الأجهزة، يشمل المتابعة المباشرة والمراقبة لما يشاهده”.
وأفادت “البشر” حول تقنين ساعات المشاهدة تأسيًا بدول كالصين: “إنها خطوة جدًا مهمة، وبإمكانها أن تحد بشكل كبير من الانغماس في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تستخدم كعملية فرض نظام على المستخدمين من جميع الأعمار؛ خصوصًا أن تطبيقها يحتاج الى تكاتف جميع الجهود، وخصوصًا من الجهات العليا وليس فقط على مستوى الأفراد”.
وحول النصيحة والرسالة التي يمكن توجيهها إلى أولياء الأمور لتفادي الأخطار والمشاكل من وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما تك توك، قال السلطان: “من وجهة نظري، أوجه رسالة بضرورة عمل اشتراك عالي السعر؛ بحيث لا يستطيع أي طفل الدخول على التطبيق بسهولة، أو قد يكون الحل البديل بعلم الوالدين عن طريق الدخول وربط حساب أحد الوالدين مع الطفل، بالإضافة إلى عمل فلترة بين فترة وأخرى، وعمل وتطبيق خاص بالأطفال حتى يتم عرض مقاطع تتناسب مع مستواهم العقلي والعمري”.
وأشارت البشر حول ذلك: “أرى أن التكلم بشكل مباشر مع الأطفال عن بعض ما ينشر، ومحاولة فتح باب الثقة لمناقشة أي موضوع حساس ليشعر الطفل بالأمان، من أهم الأساليب التي يمكنها أن تقلل هذه المشاكل وتتفاداها، كما يجب أن يكون الآباء مثالاً يحتذى لأطفالهم، عن طريق تخصيص وقت معين للاستخدام و وضع الهاتف جانبًا، و جعل وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للتواصل العائلي؛ مثل نشر بعض المقاطع المشتركة، وهي من أهم الأمور المطلوبة والتي نغفل عنها، ولا يجب أن ننسى وضع برامج مراقبة للأطفال ما دون 18 سنة للحد من تدفق بعض المقاطع غير المناسبة لعمر الطفل حتى نضمن سلامتهم”.