في كتاب تفسير المراغي وضع الشيخ الأزهري “أحمد مصطفى المراغي” (1883- 1952) عدة شروط لتحصيل العلم الإسلامي، أحد هذه الشروط هو “معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم”، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل؛ فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه” (صـ 726).
وعند النظر في هذه العبارة تظهر جملة أخطاء عابرة لم يدركها الشيخ، وإن كانت نواياه حسنة في التعرف على الغير؛ فما فعله يعد سابقة في اشتراط العلم بمذاهب وفرق المسلمين كأحد الشروط الرئيسة لبلوغ الفقه الإسلامي، والعلة التي كان يرنو إليها هي معرفة ما كان في هذه الكتب من باطل لتمييز الحق عنها، وهنا نلمح إشكالية الفكر الأصولي بشكل عام؛ حيث إنه حين يهدف للتواصل مع الآخر؛ فبهدف معرفة الباطل لديه لا الحق والحقيقة، والفارق أن نوايا الباحث لمعرفة الحق والصدق عند الآخر بالتوازي مع نواياه لمعرفة الباطل، يجعله أكثر إنصافًا واتزانًا في رؤية الغير، وأكثر حرصًا على تحري الصدق في تمثيل الآخر لنفسه؛ حيث تختلف كتب الملل والنحل عن نظيراتها في الفكر الديني من جزئية هامة، وهي أنها تنحصر كليا للحديث عن الآخر وتمثيله لنفسه؛ فإذا لم يكن الباحث من ذوي الرؤى الانفتاحية والبحثية الموضوعية، سيخرج مصنفه عبارة عن أكاذيب وأوهام، وتلفيق بغرض التشفي والانتقام لا المعرفة المجردة.
كذلك يهدف الشيخ من التعرف على الملل والنحل هو دعوة الآخر أو إلزامه بالتخلي عن معتقداته التي يراها صائبة، ويظهر ذلك من جملته الأخيرة ” فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه”، والحق في تصور الشيخ هو ما نطق به وأئمته، لا ما نطق به الغير وأئمته؛ فصورة الآخر في المخيلة الفقهية الإسلامية سلبية للغاية، ويختصرونها في ألقاب وصفات ينعتون بها الفرق والمذاهب المختلفة، “كالكفر والبدعة والزندقة إلخ”؛ فتخرج مؤلفات الملل والنحل مجرد تبرير لإثبات هذه الصفة الشيطانية التي ألبسوها للمخالفين، وكل سطر وصفحة من صفحات هذه الكتب تقوم بنفس الدور الذي يقوم به أئمة الإرهابيين والتكفيريين في التحريض على الخصوم؛ فيقفون على جملة أخطاء ومغالطات لتصبح هي المبرر الكافي للشيطنة، ويعدمون تمامًا أي ذكر لفضائل وحسنات الغير أو سرد ما لديهم من حقائق ومعلومات صادقة، أو حتى ذكر أي مشتركات تجمع المصنف بهذه الفرقة والمذهب المستهدفين.
لن يختص هذا المقال للحديث عن الفرق؛ فقد أفردنا لها مساحة واسعة لكل فرقة إسلامية للشرح على مواطن، ولكن لبيان المرجعية وراء التصنيف في هذا الباب العلمي وهو “الفرق والملل والنحل” لبيان أسبابه ودوافعه وطبيعته ونتائجه؛ فالقصة الكاملة وراء انشقاق المذاهب الإسلامية سواء التي حدثت في صدر التاريخ الإسلامي أو ما زالت تحدث إلى اليوم لا تتعلق بمرحلة زمنية محددة؛ بل تمتد أسبابها وطبائعها لكل زمان ومكان، ذلك أن الافتراق سنة عملية للكون لا تزال حية، ويراها المُبصر بقلبه وعينه، ولكي نبحث فيها بدقة وموضوعية يلزم ذلك التعرف على اتجاهات الإنسان الحديث بما وصل إليه من تطور علمي وعقلي؛ فبالتأكيد يوجد خلاف بين إنسان القرون الوسطى وإنسان اليوم من حيث القدرة العقلية والعلمية ودقة معلوماته، وحُسن إدراكه للأمور بحكم التجارب.
لذا فالحاجة ماسة للنظر في كتب التراث الديني بما فيها كتب الملل والنحل؛ فقد ألف العديد من فقهاء ومؤرخي المسلمين كتبًا عديدة في هذا الباب يخلو أغلبها من الموضوعية والدقة، الأمر الذي انعكس بالسلب في نقل تصورات الغير وعقائده بصدق؛ فكان التعصب الديني هو النتيجة الطبيعية لهذا القصور، ومن هنا منشأ الحاجة لمراجعة هذه الكتب نظرًا لدورها السلبي والمحوري والخطير في تأسيس ورعاية التعصب الديني والطائفية بين المسلمين.
تاريخ الطبري.. أهم مراجع كتب الملل والنحل
ويمكن القول بأن الكتابة في الفرق كانت معتمدة بشكل كبير على مصدر هام؛ وهو “تاريخ الطبري”، والذي يعد أكبر موسوعة علمية تاريخية في الفكر الإسلامي السني، وأقدمها من حيث التوثيق في هذا الباب، وهو “التاريخ”، علمًا بأنه يوجد إمامان في التراث الإسلامي باسم “الطبري”؛ أحدهما سني والآخر شيعي، أما الطبري “السنّي” الذي نتحدث عنه فهو “أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري” مؤلف كتاب “تاريخ الأمم والملوك” والمتوفى عام 310 هـ، بينما الطبري الشيعي فهو ” أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري” مؤلف كتاب ” تاريخ الرسل والملوك”، توفي عام 411 هـ، وكلا الإمامين من إيران، وكلاهما عمل بالحديث والتاريخ والفقه.
اعتمد الطبري السني منهجًا روائيًا جمعيًا لا يدقق في المنقول، ولا يكتب وفقًا لأيدلوجية مذهبية؛ لذا فقد خرج كتابه “تاريخ الأمم والملوك” كموسوعة تخدم كل المذاهب والآراء السائدة في عصره تقريبًا، حتى إن نزاع السنة والشيعة قد اعتمد جزءً كبيرًا من أدلتهم ضمن روايات هذا الكتاب؛ فأثبت “السنة” روايات “سيف بن عمر التميمي” التي تخدم وجهات نظرهم السنية في الفتنة الكبرى، وقد بلغت هذه الروايات أكثر من 180 رواية، بينما أثبت الشيعة روايات “لوط بن يحيى” الشهير بأبي مخنف، والتي تخدم وجهات نظر الشيعة في الفتنة الكبرى، وقد بلغت روايات أبي مخنف فوق ال 400 رواية؛ في حين اعتمد المؤرخ “أبو الحسن المسعودي” المتوفى عام 346هـ روايات أبي مخنف في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، بينما لم يعتمد روايات سيف بن عمر، ولذلك اتهم المسعودي بالتشيع لهذا العمل رغم اتفاق أهل الجرح والتعديل من السنة على وصف بن عمر التميمي بالكذاب والتالف الذي يضع الروايات وينسبها للنبي وكبار الصحابة.
هذه هي جذور الافتراق، والتي بناء عليها تم التصنيف في الفرق الإسلامية؛ فما من كتاب بالفرق والملل والنحل إلا وقد اعتمد على وجهات نظر المؤرخين وأيدلوجياتهم في نقل الأخبار، ومثلما كان الطبري أكثر دقة وموضوعية دون تحيز طائفي، كان على النقيض هناك من ينقل وفقًا لمذهبه وأيدلوجيته، وكتب في مصنفات الفرق والملل وضمن أبواب الرد على المذاهب والآراء المختلفة معتمدًا على هذه الأيدلوجيا المذهبية التي سادت كتب الفرق في زمن لاحق، وصارت من علامات العصر العباسي الثاني؛ خصوصًا من القرن الخامس الهجري حتى اليوم.
الملل والنحل.. بين الموضوعية والأكاذيب
بدأ أبو الحسن الأشعري في الكتابة عن الفرق بمقالات الإسلاميين مطلع القرن الرابع الهجري، تبعه فقهاء شافعية كأبي الحسن المالطي في “التنبيه والرد”، ثم عبد القاهر البغدادي في “الفرق بين الفرق”، ثم ابن حزم في “الفصل والملل والأهواء”، والشهرستاني في “الملل والنحل”، والإسفراييني في “التبصير”، مع العلم بأن عمدة شرحهم للفرق كان قائمًا على حديث الفرقة الناجية، مع أخطاء وأوهام أخرى وأحداث مختلقة جراء ضعف التواصل، وإلى الآن ما زال هذا التأسيس يسيطر على عقلية ذوي المذاهب رغم التواصل في عصر التكنولوجيا، وهو ما يطرح أسئلة مهمة: هل الفرق الإسلامية المذكورة في التراث لا زالت موجودة بأصولها المتعارف عليها؟ وما حقيقة ما صنفه هؤلاء في الفرق، ألا يستند على حقائق موضوعية وتجارب وشواهد؟ أم على أوهام وأكاذيب؟
وهل المسلمين في حاجة لرؤية جديدة خارج قصة الافتراق هذه؛ على الأقل لفهم دوافع وكيفية الفقهاء الأوائل وظروفهم الخاصة المنتهية؟
علمًا بأن كتب الملل والنحل قديمًا لم تكن لها شعبية؛ بل في عُرف الشيوخ والفقهاء في زمانها كانت (مستقبحة)، والسبب هو أن فكرة عرض أقوال الفرق نفسها كانت مكروهة من باب نقل الكفر هو كفر، وليس من باب نقل الكفر ليس بكافر، هذه كلمة جاءت بعد ذلك لتبرير عرض أقوال الفرق بعد عصر الانفتاح، بداية من القرنين 19 و 20 (عصر الاستعمار،) انفتح المسلمون على الشعوب الأخرى، ومن الطبيعي أن يسمعوا كلامًا غريبًا ومعتقدات غريبة ومعلومات لم يقرؤوها في الكتب؛ فظهر المثقفون أيامها بعرض تلك الأقوال من باب (الرد والإفحام)، ولكي يبرروا ما فعلوا قالوا ناقل الكفر ليس بكافر، أي ما فعله ابن حزم الظاهري بالفصل في الملل والنحل (ت 456هـ) والشهرستاني في الملل والنحل (ت 548هـ) كان غريبًا على أسماع المسلمين وقتها، ولم يحظ بشعبية على المنابر ولم يُذكر سوى في المجالس الخاصة وفي أضيق الحدود، كان شعور الخوف يتملك المسلمين حينها من ذكر معتقدات الآخر والتي قد تجرح الشعور العام.
كان ما كتبه الأشعري (ت 324 هـ) يمثل حالة في زمانه؛ فكتابه “مقالات الإسلاميين” عرض فيه آراء الفرق جميعها إلى القرن الرابع الهجري، ولكن بطريقة شبه علمية موضوعية، تأثرًا في ذلك بالنهضة العلمية في العصر العباسي الثاني باعتبار أن المؤلف كان معتزليًا؛ فرغم أن الأشعري مال ناحية التقليد لكن بقيت لمحة الاعتزال والعقلانية الأولى ملحوظة في كتابه، ومع ذلك لم يحظ هذا الكتاب بشعبية وتعامل معه المسلمون بخوف شديد، شأنه شأن كتب ابن حزم والبغدادي والشهرستاتي، ظهرت كلها في العصر العباسي الثاني تأثرًا بالنهضة العلمية، ومحاولة لاستكشاف الفرق، لكن على المستوى الشعبي كانت هذه الأعمال (مجهولة) ونتائجها على مستوى الانفتاح (صفر).
التأليف في التكفير والتحريض
ظهر وقتها نوع آخر من عرض أقوال الفرق من باب التحريض عليهم وتكفيرهم، ككتاب فضائح الباطنية للغزالي، وكشف أسرار الباطنية للمعافري اليماني، والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، إضافة للرد على الجهمية للدارمي، وخلق أفعال العباد للبخاري، وهذا الكتابان الأخيران كان التكفير فيهما واضحًا؛ حيث كفّر البخاري فرقتي المعتزلة التي سماها القدرية، والجهمية التي سميت لاحقًا بالمعطلة أو الأشعرية، كذلك كفر الدرامي فرقتي الجهمية والمعتزلة على نفس المنوال، علمًا بأن هذا الخط ورثه السلفيون تأثرًا بالنزعة الإحيائية التقليدية في السبعينات، والتي بناءً عليها ألّفوا- بنفس الأسلوب- أعمالا تشهيرية تحريضية ضد الفرق، كفضائح الشيعة والعلمانية والماسونية والنصارى والصليبية والباطنية والقبورية .إلخ؛ فما نراه حاليًا على الإنترنت وفي الكتب الصفراء الطائفية للتيار السلفي المعنونة تحت كلمة (فضائح كذا وكذا)، هي مجرد امتداد واستنساخ لكتب الملل والنحل الأولى، مع حفظ الفارق أن ما يكتبه سلفيو العصر من تحريض أقل من الناحية العلمية والإدراكية مما كتبه الأولون.
معلومة: كتاب عبد القاهر البغدادي- الفرق بين الفرق – كان تكفيريًا صرفًا؛ فالرجل متطرف جدًا، وضحت هذه النزعة في كتبه الأخرى على نفس السياق، كفضائح المعتزلة والقدرية والكرامية، يكفي أن كتابه الفرق بين الفرق هذا ذكرت فيه كلمة كافر (25 مرة،) وكفر (30 مرة)، وكفرة (18 مرة)، والكافر (12 مرة)، ومشركون (6 مرات)، والزنادقة (6 مرات)، وشرك (5 مرات)، ومشرك (5 مرات)، غير ألفاظ أخرى كالقتل والزندقة والردة والمرتد والمرتدين… إلخ. غير أنه أحل دماء المعتزلة، وقال بوجوب قتلهم في نفس الكتاب، علمًا بأن هذا الخط هو أخطر ما في التراث لأنه تكفيري صرف دعا إلى قتل الآخرين بكل وحشية، بعد أن حكموا على الجميع بالزندقة، ولم يراعوا الآداب العلمية في نقل آراء المخالفين، وتعصبوا ضد الآخر تعصبًا أفقدهم الحيدة والموضوعية.
أما كتاب فضائح الباطنية “لأبي حامد الغزالي” فعنوانه بالكامل “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” والباطنية هم الفاطميون الذين هددوا خلافة “المستظهر بالله” العباسي في بغداد، أي أن الكتاب (سياسي) يذم خلفاء الفاطميين ويمدح الخليفة المستظهر، وكلا العملين – المدح والذم – حدثا بشكل ديني، والغريب أن الغزالي اعترف في مقدمة كتابه بذلك حيث قال: ” أما بعد فَإِنِّي لم أزل مُدَّة الْمقَام بِمَدِينَة السَّلَام متشوفًا إِلَى أَن أخدم المواقف المقدسة النَّبَوِيَّة الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها، حَتَّى خرجت الأوامر الشَّرِيفَة المقدسة النَّبَوِيَّة المستظهرية بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْخَادِم فِي تصنيف كتاب فِي الرَّد على الباطنية” (فضائح الباطنية صـ 2).
ويمكن القول بأن الكتابة في الفرق كانت معتمدة بشكل كبير على مصدر هام؛ وهو "تاريخ الطبري"، والذي يعد أكبر موسوعة علمية تاريخية في الفكر الإسلامي السني، وأقدمها من حيث التوثيق في هذا الباب، وهو "التاريخ"
وقد انتبه الفاطميون لخطورة كتاب الغزالي، فدعوا أحد علمائهم وهو “علي بن الوليد” لتأليف كتاب (دامغ الباطل وحتف المناضل) للرد على فضائح الباطنية، وبالفعل قام بن الوليد بتأليف الكتاب في مجلدين، وبطريقة علمية فند كلام الغزالي ونسف معظمه تقريبًا؛ فتقوم مجتمعات السنة بتداول كتاب الغزالي ولا تعرف حرفًا واحدًا عن كتاب ابن الوليد، مما ساهم في تجهيل مجتمعهم وعدم معرفة أي شيء عن الطائفة الإسماعيلية التي يبلغ عددها الآن 12 مليون تقريبًا موزعين في جميع أنحاء العالم، وقد ألقينا في مواطن بعض الأضواء على المذهب الإسماعيلي في شهر يونيو/ حزيران الماضي 2023.
علمًا بأن الإمام الشهرستاني أحد أشهر أئمة السنة في موضوع الفرق والملل، له كتاب بعنوان “مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار”، فسّر فيه القرآن بطريقة (باطنية) كالإسماعيليين بالضبط، مما دفع السلفيين ومتعصبي الأشعرية بالهجوم عليه أو التشكيك في نسب الكتاب لخطورة محتواه على عقائدهم، والسر وراء هجوم السلفيين والأشاعرة على كتاب الشهرستاني أن الكتاب قد ناقش آيات القرآن في باب مخصوص اسمه (الأسرار)، وهذه طريقة لا تعجبهم في التفسير؛ حيث يطلقون عليهم “تأويلاً مذمومًا” عن طريق تفسير القرآن (بالرأي)، وهو طريق المعتزلة والأحناف الأوائل الذين عرفوا بمدرسة أهل الرأي، التي ظلت عدة قرون خصمًا قوية لمدرسة أهل الحديث، بينما تفسيرهم المعتمد يحدث (بالرواية) لحاكمية نصوص الحديث لديهم (كوحي منزل).
السلفيون وتكفيرية الملل والنحل
التزم السلفيون بهذا الخط التكفيري كونه جاء (رد فعل) على قوة القرامطة والشيعة في عصر الغزالي، وهم الآن بأعينهم يرون قوة العلمانية والشيعة والمسيحية وغيرها أيضًا؛ فالحاجة أصبحت مُلحة للرد والشيطنة كي لا يُفتتن بهم العوام حسب زعمهم، بينما خط ابن حزم والشهرستاني لم يكن رد فعل؛ بل كان (انفتاحًا وتطلعًا) تأثر به الفقهاء في الأندلس وبلاد فارس وقتها برغم هذا الانفتاح لكلا الإمامين، لكن الدافع الأساسي وراء تصنيف كتبهم كان عدائيًا مثلما تقدمت الإشارة إليه؛ فلم يكن في إدراك الفقهاء آنذاك معرفة مدلول الانفتاح والتواصل الإنساني كون هذا المدلول رديفًا ومنتجًا أصليًا لعصر الصناعة وحقوق الإنسان، وما قبل ذلك كان مدلول الانفتاح يكمن في إمكانية التعرف على الآخر قدر الاستطاعة ليس بغرض التواصل الإنساني معه، ولكن بغرض إفحامه وإقامة الحجة عليه، وهو الذي يظهر من كتابات ابن حزم والشهرستاني بالعموم.
هذا الخط السلفي هو الشائع الآن عن الفرق، ويخطبونه على المنابر، واختصاره: أن كل الفرق كافرة في النار مصداقًا لحديث الفرقة الناجية المزعوم، وعلى نفس التيار سار خطباء الأزهر حتى باتت منابر المسلمين الآن عبارة عن قوى حشد تكفيرية تؤدي دورًا سلبيًا للغاية في زعزعة واستقرار المجتمعات، ولو لم ينتبه الحكام والشعوب لخطورة المنابر الآن ستتكرر مآسي العراق وسوريا واليمن وليبيا من جديد، وتظهر داعش والإخوان بأشكال جديدة.
مصطلح السنة، وتصنيف الآخر المختلف
ويمكن القول بأن تفسير الفقهاء لمصطلح السنة كان سببًا مهمًا في الافتراق، وأداة مشهورة لفرز المعارضين والمختلفين وتصنيفهم، علمًا بأن تعريف السُنة عند الفقهاء ليس هو تعريف المحدثين؛ فالسنة مفهوم (عقائدي) ليس حديثيًا أو فقهيًا؛ فسره الشيوخ وفقًا لمذاهبهم العقائدية أولاً، ثم أعطوه صفة الفقه والحديث ثانيًا، وعندما وقع الخلاف بين المذاهب قديمًا حاولوا تعريف السُنة ولم يتفقوا، فوقع الشقاق إلى اليوم بين تعريفات مختلفة لكن دليلها واحد.
مصطلح السُنة هو الطريقة أو الشريعة المقابلة للبدعة، لذلك يقولون فلان على سُنة أي (ليس على بدعة)، وأما دليل هذه السُنة هو الحديث كما قال الشاطبي في الموافقات، ومفهوم البدعة نفسه عقائدي؛ فكل من يحاول حصر المذهب السني في فقه أو حديث تجاوز أصل النشأة وامتداده العقائدي في أذهان الشيوخ؛ فمن من يعتقد أن سلف المسلمين فصّلوا أنفسهم لفقهاء ومحدثين حسب التخصص مخطئ ولم يقرأ تطور الفكر الإسلامي بشكل صحيح، والدليل أن ابن حنبل نفسه كان محدثًا وفقيهًا، كذلك مالك بن أنس والشافعي، حتى البخاري كان فقيهًا، وابن تيمية كان فقيهًا ومحدثًا وله كتاب في الحديث، والأسماء كثيرة كالأوزاعي وابن راهوية والليث بن سعد وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم، كل هؤلاء كانوا محدثين وفقهاء معًا، لأن الفصل بين الفقه والحديث جاء متأخرًا جدًا بعد ظهور الشيخ “محمد ابن عبدالوهاب”، الذي حكينا مذهبه على مواطن بعنوان “أضواء على الوهابية السلفية”.
الوهابية هي التي فصلت بين المحدثين والفقهاء، وجعلت لكل منهم عملاً مخصوصًا، والسبب أنهم حين أرادوا مُلك قبائل يحكمها المالكية أقنعوهم بأن الفقهاء شيء والمحدثين شيء آخر؛ نقبل الفقهاء كلهم لكن لا نقبل المحدثين كلهم، خصوصًا مالكية الحجاز الذين كانوا في بعض منهم يقدمون كتاب الموطأ على الصحاح؛ فكان الحل أننا نقبل فقه مالك لكن لا نقبل حديثه، ومن تلك الزاوية نجحوا بالسيطرة على مالكية الحجاز.
فكل كتب التراث الإسلامي قبل الوهابية عرّفت السُنة (تعريفًا عقائديًا) لتمييزهم عن المبتدعة، وبعد الوهابية ظهر ما يسمى “تعريف الفقهاء” و “تعريف المحدثين” وتعريف “الأصوليين”، بينما الأصل أن مفهوم السُنّة بدأ (سياسيًا) في الفتنة الكبرى، ثم تحول (لعقيدة) في العصرين الأموي والعباسي من كثرة الحروب والتنظير الفكري، أما الوهابية فلم يلزموا التعريف الذي أعطوه للقبائل، حتى ظلوا يخلطون بين الفقه والحديث في أئمتهم بغرض القبول واختراق القبائل والمجتمعات التي وصلوا إليها؛ فكل فقيه منهم يعمل بالحديث والعكس صحيح، أي كل محدث منهم يفتي في الفقه، ولا زالت هذه العادة فيهم إلى اليوم رغم أنهم ينكرون على خصومهم العمل بالاثنين؛ فإذا خالفهم صوفي مُحدّث قالوا لست فقيهًا وهكذا، حتى ورث هذه العادة بعض شيوخ الأزهر رغم أن إمامهم الأكبر “ابن الصلاح” كان فقيهًا ومحدثًا في نفس الوقت.
حديث الفرقة الناجية
أخيرًا: كان الدافع الأكبر للتصنيف في الفرق والملل والنحل هو تصديق الفقهاء والمؤرخين لحديث الفرقة الناجية، والذي يقول: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي.”
فلولا اعتقاد المؤرخ/ الفقيه بنجاته هو وسائر أهل مذهبه ما ألّف هذا الكتاب في الفرق، وما انشغل في الحديث عنهم، ولولا حماسه في إثبات تفوقه ما انتقص غيره من الفرق، ولولا إرضاءه للسلطات والعوام في بلده الذين يعتقدون هم أيضًا بنجاتهم ما ألف كتابه الذي كان في جزء كبير منه مصلحة مادية، إما أموال أو وظائف ومنح ودعم معنوي وأمني.
وفي الحقيقة؛ عند مناقشة هذا الحديث يظهر عوار كبير وأسئلة واستفسارات دون إجابة، منها أن الحديث ضعيف السند عند مجموعة من العلماء كابن حزم وابن الوزير اليماني؛ حيث يطعنون فيه لوجود ” محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي”، وهو متهم بالنصب (أي ناصبي)، والراوي الآخر “أزهر بن عبدالله الحرازي”، وهو أيضًا ناصبي، كذلك فبعض المحدثين الذين صححوه – كالشوكاني وغيره – قالوا إن زيادة (كلها في النار عدا واحدة) موضوعة، وهذا يعني أن الحديث يقول بالافتراق ولكن لا يحكم بالنار أو بالجنة على أحد، وكذلك رواية الحديث بصيغة أخرى تقول (كلهم في الجنة عدا واحدة) يعني 72 فرقة في الجنة وواحدة فقط في النار.
علاوة أن التراث ذكر حديث الحوض، ومعناه أن أفضل المؤمنين الذين آمنوا بالرسول ولم يروه، وهذا تأكيد على أن (من عاش مع الرسول) ليسوا جميعهم الأصلح، والقرآن يؤكد هذه الحقيقة أن حولك يا محمد من الأعراب في المدينة منافقون لا تعلمهم؛ فلو قلد المسلمون سلفهم حرفيًا فربما قلدوا منافقين دون وعي، ثم إنه لا يمكن الجواب على سؤال: أي من المتصارعين في الفتنة الكبرى وما أعقبها من 6 حروب أهلية عظمى بين المسلمين في أول 200 عام من تاريخ المسلمين، أيهم يحمل صفة النجاة؟ وأيهم ينطبق عليه فرقة ناجية دون غيره؟
ومُجمَل القول هو أن كتب الملل والنحل لا يمكن الوثوق بها؛ فقد خرجت في ظل صراع سياسي وعقائدي بين المسلمين تطور ونما خطره في العصر العباسي الثاني، بدءً من منتصف القرن الثالث الهجري
كذلك فالحديث يقول “أمتي” أي أمة الإسلام، ومع ذلك يقول إن الأغلبية العظمى منها في النار، كيف ذلك والله يقول في كتابه “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “؛ فلو كانت الرحمة واجبة على الرسول للعالمين فالأولى أن تكون للمسلمين، وكذلك قول الله تعالى: “قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ” [الأنعام: 65]. والمعنى أن افتراق الناس هو عذاب من الله لنكوصهم عن الشريعة وعن الفقه وعن منهج الإٍسلام، الذي يدعو للوحدة وينبذ الشقاق والتناحر، بينما جعل الحديث افتراق الناس ليصب في خدمة أحدهم؛ فلو لم تكن الفرقة الناجية فرقة ما كان الله أن يذمها في القرآن مع سائر الشيع. وهذا يعني أن الحديث مضاد لمنهج القرآن بشكل عكسي.
كذلك قول الله تعالى: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون” [الأنعام: 159]، والمعنى أن التفرق في الدين حرام، ومعنى شيعة أي فرقة؛ فالله يحرم على المسلمين أن ينتسبوا داخل الدين إلى جماعاتٍ وأحزاب، ويأمر النبي أن يبتعد عن هؤلاء ويحذرهم من لقاء الله يوم القيامة، ويقول الله أيضًا: ” إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” [المائدة: 69]، والمعنى أنه لا فرقة مطلقًا يمكن اعتبارها “ناجية” وستدخل الجنة، وأن مقياس دخول الجنة ليس بالانتساب أو بالقول؛ بل بالإيمان والعمل الصالح، والآية واضحة أنها تخص الأديان؛ فما بالنا بهذا الحديث الكارثة الذي جعل الجنة لفرقة واحدة من 73 فرقة لا يُعرف من هم وكل حزبٍ بما لديهم فرحون.
إن هذا الحديث به نزعة عنصرية واضحة تشبه اعتقاد النازية بالعظمة والجلالة لمجرد الانتساب (كلها في النار عدا واحدة ما أنا وأنتم عليه)، حتى المسلمون اختلفوا فيما كان عليه الرسول؛ فكيف سيتفقون على هذه الفرقة؟!بينما الإسلام ضد العنصرية ونادى بالاتحاد والتواصل والتعارف قال تعالى: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” [الحجرات: 13]. والمعنى أن التقوى هي معيار الصدق والصلاح عند الله، وبالتالي دخول الجنة، أما مجرد الانتساب فهو لا يُساوي شيئًا في ميزان الشريعة.
فالهدف من صناعة هذا الحديث هو تكفير الآخرين والقول بضلالهم مثلما تحمس بعض الفقهاء لذم واغتياب الفرق الإسلامية الأخرى والتقوّل عليهم بما ليس فيهم، لذا فهو أصل عند كل التكفيريين، لأن معنى حصر الجنة لفرقة واحدة يعني أن كل الفرق ستتصارع على هذه الفرقة، وسيُكفرون بعضهم ويعتقدون بحماقة أنهم في الجنة بمجرد الانتساب وليس بمجرد الإيمان والعمل، والحديث في النهاية- حتى لو صح- فهو خبر آحاد مشهور، وعند الفقهاء خبر الآحاد ظني الثبوت، أي لا يجوز نسبته للرسول هكذا دون بيان حاله، والمعنى أن ظني الثبوت لا يجوز نسبته للرسول إلا ومعه عبارة “نظن أن النبي قال كذا وكذا“، أما عبارة “قال رسول الله “؛ فهي من حق الخبر المتواتر فقط أو الصحيح الموافق لمُحكم القرآن وصريح العقل، كذلك فيحرم العمل به في العقائد والدماء؛ فما بالكم وهذا الحديث يمس أخطر قضية يعيش من أجلها المسلم، وهي الانفراد بالحقيقة وادعاء الباطل للآخرين، وهذا يعني أن الاعتقاد به هو دعاية للتكفير والجريمة بشكل مباشر.
ومُجمَل القول هو أن كتب الملل والنحل لا يمكن الوثوق بها؛ فقد خرجت في ظل صراع سياسي وعقائدي بين المسلمين تطور ونما خطره في العصر العباسي الثاني، بدءً من منتصف القرن الثالث الهجري؛ فكان لزاما على نخبة المسلمين ووفقًا لمصالح الحكام والشعوب أن يكتب الفقهاء في هذا الباب، وهو ذم الفرق والمذاهب بدعوى الرد عليهم، وذكرهم بكل سوء ونقيصة لإعادة الاعتبار مرة أخرى للذات وقت الضعف؛ فمن الملاحظ أن التصنيف في كتب الفرق والملل والنحل كان كبيرًا ويتسم بالزخم في القرن الخامس الهجري وما تلاه، وهي الحقبة التي ضعفت فيها الخلافة العباسية، وانشقت العديد من الدول عنها؛ فاضطرت وتحت أثر الضغوط السياسية لتشجيع الفقهاء والمؤرخين في الكتابة والرد على خصومها السياسيين؛ فابن حزم والشهرستاني وعبد القاهر البغدادي ممن عاشوا هذه الحقبة وتأثروا بأحداثها السياسية، وبالتأكيد كتبوا مصنفاتهم في الفرق ضد المذاهب والفرق، ليس عن مجرد مصالح سياسية، ولكن عن صراع ديني ألبسه الخلفاء العباسيون لباسًا دينيًا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.