بزة عسكرية تحتل المشهد الأول وقائد قعيد على إحدى الكراسي يظهر في هيئة ساحرة، بصورة مفعمة بالأبيض والأسود القاتم، تحاول أن تنبأ عن ما تحمله أحداث فيلم El Conde، الذي عرضته منصة Netflix العالمية منذ عدة أيام، مُحققا نسب مشاهدات عالية.
حاول الفيلم مناقشة القمع والحكم الديكتاتوري، المتمثل في شخصية أوغستو بينوشيه، بعد أن وصل لسدة الحكم في تشيلي عام 1973 ، بانقلاب عسكري على الرئيس سلفادور الليندي، وهو الانقلاب العسكري الذي دعمته الولايات المتحدة الأمريكية، وحفز دكتاتورية بينوشيه لمدة 17 عامًا.
يدور الفيلم بشكل فانتازي حول رجل عاش 250 عامًا، تمتد منذ أحداث الثورة الفرنسية عام 1789، وحتى تسعينيات القرن الماضي. كنوع من الإسقاط على تشابه الأنظمة الديكتاتورية. فالتاريخ يعيد نفسه، ما يمنح إمكانية استعادة الديكتاتور عبر التاريخ بشكل مستمر، في المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة، أبدية متكررة.
تظهر أحداث “El Conde” الديكتاتور الذي عاش 250 عام على إنه Vampire متعطش للدماء، ويرفض الموت، كما أبنائه متعطشين لوراثته. ووالدته، هي مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء المملكة المتحدة للفترة من 1979 إلى 1990، وهي أيضًا مصاصة دماء.
والأم تاتشر وفقًا للفيلم، أصبحت مصاصة دماء في منتصف القرن الثامن عشر، عندما كانت إحدى العاملات الإنجليز في مزارع الكروم جنوب فرنسا. عضها مصاص دماء واغتصبها.والسبب في اختيارها كأم بينوشيه، هو تدخلها في السماح بالعودة إلى تشيلي بدلاً من تسليمه وقضاء محكوميته في أسبانيا، بل وأرسلت إليه زجاجة من الويسكي الفاخر (سكوتش).
الحاكم المستبد والديكتاتور، حسبما جاء في كتاب "الطاغية"، يتحكم بخاصية أساسية، وهي أنه لا يخضع للمساءلة ولا للمحاسبة ولا للرقابة من أي نوع.
يعيش بينوشيه على دماء قلوب الشباب، ويشربها بعد أن يقوم بضربها في الخلاط، في إشارة واضحة إلى أن الديكتاتور لن يبقى حيًا، إلا من خلال استهلاك أجساد الشباب النابضة والدماء الطازجة. أو بطريقة أخرى يدمر حياتهم وينتزع أرواحهم الحالمة.
ومن يقم بينوشيه بعضه يتحول إلى مصاص دماء، وعند التحول يصبح للشخص حياة مديدة أطول من أي إنسان. ما دفعه إلى عض وتحويل حاشيته على رأسهم مساعده وكاتم أسراره، الذي لا يختلف عن أي ذراع يمنى لأي ديكتاتور، مثلما يتورط مساعدي أي ديكتاتور في أحداث قتل، أشرف وساهم ودبر قتل المعارضين اليساريين في تشيلي.
والأمر ذاته من واقع الأنظمة العربية التي سقط حكمها بحكم الربيع العربي، أو الحرب مثل صدام حسين في العراق أو حتى القائمة. سواء على مستوى إقصاء المعارضة، أو تورط المساعدين في أعمال قتل وعنف وتعذيب. فلا احترام للحريات أو حقوق الإنسان.
الاستبداد، لماذا؟
وحسب الفيلم استطاع بينوشيه أن يتحول من موالي للنظام الفرنسي إلى معارض، بمجرد قيام الثورة ، وحصل على مناصب مختلفة، ثم ذهب إلى تشيلي وقاد الانقلاب العسكري، وتخلص من معارضيه رميًا بالرصاص عقب الوصول إلى الحكم.
“الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع فيمكن أن يكون قد اغتصب الحكم بالمؤامرات أو الاغتيالات أو القهر أو الغلبة بطريقة ما”. حسبما ذكر إمام عبدالفتاح إمام في كتابه الطاغية.
ويستطرد عبد الفتاح في وصف الديكتاتور، بإنه هو شخص لم يكن من حقه أن يحكم لو سارت الأمور سيرًا طبيعيًا، و لكنه قفز إلى منصة الحكم عن غير طريق شرعي، وهو يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم.
وتكن القاعدة الأولى لترسيخ وتثبيت حكم الديكاتور، إقصاء معارضيه، مثلما قام صدام حسين، بـ “حادثة قاعة الخلد“، بعد ستة أيام من وصوله إلى الحكم، إذ أمر بقتل واعتقال كل من عارضوه رغبة منه في توطيد نفوذه وسيطرته وهيمنته على العراق.
ولم يكن صدام وحده، بل نجد أن أول قرار اتخذه علي عبد الله صالح، الرئيس الأسبق لليمن، هو إعدام 21 شخص من معارضيه بتهمة محاولة الانقلاب عليه. وهناك مظاهر عديدة من التاريخ على مذابح ضد المعارضين، من النظم الاستبدادية الديكتاتورية. آخرها عندما قامت إحدى الأنظمة العربية، باعتقال جل المعارضين لولي العهد من الأسرة الحاكمة، لفرضه على السلطة.
سرقة ونهب
الحاكم المستبد والديكتاتور، حسبما جاء في كتاب “الطاغية”، يتحكم بخاصية أساسية، وهي أنه لا يخضع للمساءلة ولا للمحاسبة ولا للرقابة من أي نوع.
وفي نهاية 250 عامًا طويلة، يشعر الديكتاتور أوغستو بينوشيه بأنه فعل ما يكفي. فيزور موته ليعيش مع عائلته، في قصر ريفي. ليتخلص من أي محاكمة أو مسألة قانونية، تجاه ما قام به من فساد ونهب وقتل، ويعيش بما حصل عليه من أموال منهوبة.
إلا أن مصاص الدماء أصبح لصًا، بدلًا من أن يكن زعيمًا عالميًا حسب مخيلته. استدعى بينوشيه محاسبة لتنظيف أمواله وثروته الضخمة وجعلها مشروعة. وبرر لها حصوله على أموال رجال الأعمال، بأنهم كانوا يستغلونه مقابل تسيير أعمال لهم.
والاستيلاء على الأموال نمط متكرر في حكم أي ديكتاتور، وعلى سبيل المثال نجد أن القذافي، قد استولى هو وأسرته على 100 مليار من أموال الشعب الليبي بينما أشارت تقارير أخرى إلى أرقام أكبر، والشاهد إنها تكونت من صفقات تمويل السلاح للبلاد، ومشروعات محلية حصل من خلالها على نسب ضخمة بالإضافة إلى نهب الثروات، وهذا ما أوضحه الفيلم بشكل جلي.
والأمر ذاته متكرر حول اتهامات الفساد حول ثروات الرؤساء مبارك، وعلي عبدالله صالح، والأسد، وبن علي، حتى أنظمة الحكم في دول الخليج لا تسمح بأي رقابة مالية حقيقية على حكامها وأبناء الأسر الحاكمة، وتعد الذمة المالية للطبقات الحاكمة الخليجية، خطًا أحمرًا لا يجب الخوض فيه، كما بقية البلاد العربية للمسؤولين النافذين فيها.
كما أظهر الفيلم أن أبناء الطاغية لا يهمهم أي شيء سوى جمع المال، حتى وإن كانت بطرق غير مشروعة، وعلى حساب الشعب الذي تنامت ثرواتهم من خيراتهم، وعلى جثثهم إن صح القول، فأبناء الديكتاتوريين يرثون جشع الثروة والنفوذ، وهو ما يفسر لنا مشاريع التوريث التي رأيناها في عدة دول عربية.
هل لدينا حرية التحدث عن الطغاة في العالم العربي؟
“لا يوجد لدى العرب أي نوع من أنواع الحريات بالمنطقة العربية، للتحدث عن الديكتاتوريات التي حكمت أي دولة عربية، مثلما تم صناعة فيلم El Conde، وهذا أمر لا يخص السياسة فقط ولكنها تخص التناول”. يقول الناقد الفني رامي المتولي لمواطن.
لا يمكن أن يكون هناك خلاص للديكتاتور، بعد أن تلطخت يداه بدماء الأبرياء، والسؤال الوحيد هو، إلى أي مدى يمكن أن يذهب فساده وبطشه؟
ويكمل، أننا دائما ما يتم تناوله بالمنطقة العربية نتجاوز السلبيات وكأن الشخص الذي نتناول حياته قدم إيجابيات فقط، وهذا على عكس الغرب في تناول الشخصية من أكثر من منظور، استنادا على أبحاث وتدقيق ووجد العديد من الحقائق.
ويضيف، وجدنا نقد لهتلر من شارلي شابلن في فيلم كوميدي، وكذلك فيلم El Conde الذي رأينا نقد لحقبة بينوشيه، ويحاكمه هو وعائلته في محاكمة لم تحدث في الحقيقة، لنضعه كرمز للديكتاتوريين الذين لم تتم محاكمتهم بشكل فعلي.
ديكتاتور واحد، بعدة وجوه في التاريخ
تكشف الدكتورة هدى زكريا، أستاذة علم النفس السياسي، أن شخصية الديكتاتور تكون هشة غالبًا وليست قوية كما يتخيل البعض، ولكنه يعيش على ما يصدر من الشعوب من خوف، بالإضافة إلى ما يخلقه هو من فزاعات مخيفة سواء عن طريق معارضيه أو عداء خارجي.
وتضيف أستاذة علم النفس السياسي لمواطن، أن مع حالة الرعب التي يخلقها الطاغية في قلوب شعبه، يتحول إلى طامع في الحصول على ممتلكاتهم، بعد أن يعتادوا على الخضوع له، فيتم استهلاكهم باسم الدين والوطن والسعي وراء مصالحهم ويصدقون هم بالفعل، ولكن في سبيل ذلك يحل لنفسه الحصول على الثروات ونهبها.
وبالعودة للفيلم يختار بيونشيه التنازل عن خلوده (الحكم) بالتخلي عن استهلاك الدم (البطش). أثناء بحثه عن خروج آمن، ونقل الثروة لأبنائه، أن المحاسبة، التي تم على تنظيف أمواله، هي راهبة متخفية تخطط لوضع حد لبينوشيه مرة واحدة وإلى الأبد. وهذا الخطر يعيد تعطشه للدماء والعنف والشر. من أجل محاولة إنقاذ خاسرة لا محالة.
وعلى الرغم من الدورة اللانهائية، التي تمكن من فهم وتوقع مسار كل ديكتاتور، إلا أن هذا لا يغير شيء، أو على طريقة نجيب محفوظ فأهل حارته سرعان ما ينسون، ويشاركون في دورة إنتاج الديكتاتور من جديد.
وترى زكريا، أن نقطة ضعف الديكتاتور دائمًأ، هي أسرته، لشعوره بالذنب بأن يطالهم تبعات ما فعله من سوء، ولكنه يربي من هم على شاكلته تمامًا، وهو شخصيا يتفاجأ، حين يجد أنهم لا يختلفون عنه في شئ وقد يفعلون به ما فعله هو بشعبه الضعيف.
ومع آمال الديكتاتور، في الخروج الآمن لنفسه ولأسرته، لا يمكن أن يكون هناك خلاص بعد أن تلطخت يداه بدماء الأبرياء، والسؤال الوحيد هو، إلى أي مدى يمكن أن يذهب فساده وبطشه؟
تبدو فكرة الديكتاتور خالدة كمفهوم سياسي فلسفي، فالعمر المديد لديكتاتور El Conde، هو نفس العمر المديد في رواية خريف البطريرك لماركيز، الذي يعيش ويموت عدة مرات، ويعاد انتاجه بنفس الطريقة، وما أن يصعد للسلطة إلا ويسقط عنها ثانية، إذ يتشابه سلوك كل ديكتاتور مع الذي قبله والذي يليه، ويجمعهم دائمًا نفس المصير.
فالديكتاتور وفقًا لمؤلف مسرحية كاليجولا، الأديب الفرنسي ألبير كامو، فرد أختار تدمير من حوله حتى يدمر ذاته، ما يعني أن الديكتاتور فرد يسير نحو نهايته المحتومة بالسقوط أو الموت، إذ لا يترك خيار للآخرين إلا التكتل ضده. ويعتقد كامو أنه فرد يتطلع إلى الحرية المطلقة، وأنها طلب مستحيل تحقيقه، فهتلر مثل كاليجولا، مثل أي ديكتاتور في المستقبل أو التاريخ.
ومع اختفاء ما يقرب من 1500 معارض، وتعرض 40 ألف للتعذيب، وحوالي 2000 للتعذيب حتى الموت على الأقل، خلال فترة حكم بينوشيه، مازال إرثه يعيش في تشيلي فـ زعماء المعارضة اليمنين، يرفضون التوقيع على وثيقة الالتزام بالديمقراطية، كما يرى 20% من الشعب أن بينوشيه أحد أفضل حكام تشيلي في القرن العشرين.
وعلى الرغم من الدورة اللانهائية، التي تمكن من فهم وتوقع كل مسار ديكتاتور على سدة الحكم من البداية إلى النهاية، إلا أن هذا لا يغير شيء، أو على طريقة نجيب محفوظ فأهل حارته سرعان ما ينسون، ويشاركون في دورة إنتاج الديكتاتور من جديد.