حذرت دراسة حديثة نشرتها مجلة Cities، خلال شهر سبتمبر الماضي، من أن مدينة الإسكندرية المصرية، “مدينة الرب” كما يُطلق عليها سكانها، والتي يبلغ تعداد سكانها ستة ملايين نسمة، معرضة بشكل متزايد للفيضانات الساحلية وتآكل الشواطئ، ويرجع الباحثون السبب إلى سلسلة من مشاريع التطوير التي تمت خلال العقد الماضي؛ حيث تم إعطاء الأولوية لتوسيع الطرق السريعة والمناطق التجارية عن طريق ملء القنوات المائية المهمة التي كانت ضرورية لتنظيم الظروف المناخية المائية.
الدراسة التي شارك فيها الدكتور عصام حجي، عالم المياه في كلية “فيتربي” للهندسة بجامعة كاليفورنيا، ومعمل الدفع النفاث بوكالة ناسا، والدكتورة سارة فؤاد، الباحثة في جامعة ميونخ التقنية، والدكتور أودو فايلاخر، رئيس هندسة المناظر الطبيعية والتحول في جامعة ميونخ التقنية، استخدمت صور الأقمار الصناعية، وسجلات رسم الخرائط، والتحقق من صحة الموقع على الأرض، والاستبيانات العامة لتقييم الزيادة السريعة في نقاط الضعف المناخية.
كشفت الدراسة أن ملء القنوات المائية يقلل من قدرة المدن الساحلية على التخفيف من آثار الظواهر المناخية، وتوضح أن هذه القنوات تقليديًا كانت تعمل على تبريد مناخ المدينة، وأثناء تدفقها إلى البحر، تترسب الرواسب على الساحل مما قد يخلق حصنًا طبيعيًا ضد التآكل والعواصف، وبدون هذه الممرات المائية القديمة التي ترسب رواسب جديدة على السواحل؛ فإن سواحل الإسكندرية تُستنزف فيها بشكل متزايد هذه الحواجز الطبيعية التي تحول دون ارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة العواصف.
كما وجد الباحثون أن تصور جيل الشباب للمخاطر المناخية قد تغير بشكل خاص، نتيجة التحولات المتعددة التي شهدتها المدينة، كما أن تغيير الواجهة البحرية وملء الممرات المائية يعيق الجهود المبذولة للتخفيف من المخاطر المتزايدة، وهو ما يفسر الزيادة في الوفيات التي سُجلت نتيجة لتلك المخاطر على مدار العقد الماضي.
وتشير الدراسة إلى أن تجربة الإسكندرية مع الظواهر المناخية توفر رؤى قيمة للمدن الساحلية في جميع أنحاء العالم، وأن التفاعل المعقد بين التغيرات المناخية، والبيئية والتصور العام لها في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، يتطلب نهجًا متكاملاً متعدد الأوجه للتكيف، وهو أمر غير موجود بعد في العديد من الدول النامية.
الخطر على الأبواب
المؤلفة الأولى للدراسة، الدكتورة سارة فؤاد، وهي ابنة مدينة الإسكندرية، تقول: “إن المدينة كانت قادرة على البقاء على قيد الحياة لآلاف السنين، ومقاومة الزلازل وارتفاع مستوى سطح البحر والتسونامي والعواصف، لكن سوء إدارة الممرات المائية في المدينة، والتطوير الحضري على مدى السنوات العشر الماضية، جعل مستقبل المدينة في مهب الريح”.
وتحذر من أن المدينة أصبحت “واحدة من أكثر الأماكن عرضة على وجه الأرض للفيضانات الساحلية وارتفاع مستوى سطح البحر”.
تضيف “فؤاد” لـ”مواطن“، أنه قد حدث تدهور كبير في الأوضاع خلال السنوات الثلاثين الماضية، نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر؛ حيث ساهمت سياسة الانفتاح في ترك كثير من المزارعين لأراضيهم، وتحولت هذه الأراضي الزراعية إلى مبان سكنية، وتقصلت الرقعة المتاحة للزراعة، ما أدى إلى تغيير شكل القنوات المائية التي تحولت إلى مصارف يلقى فيها القمامة”.
وتتابع “إن آثار التغيرات المناخية وتآكل الشواطئ قد زادا بشكل كبير، لأن الترع كانت تنقل الطمي إلى الشواطئ، وبالتالي تساعد في بنائه مرة أخرى، كما حجزت السدود التي بنيت على مسار نهر النيل الطمي خلفها، وبالتالي أضعفت من قدرة الشواطئ على مقاومة التآكل”.
وحذرت من أن منطقة دلتا النيل عرضة لتكرار مأساة درنة مرة أخرى، إن ضرب إعصار قوي السواحل المصرية الشمالية وتدفقت المياه إلى المناطق المنخفضة فيها، وفي حال وقوع الكارثة فإن ما حدث في درنة سيكون هينًا مقارنة مع ما قد يحدث في الدلتا، لأن درنة بها قنوات مائية جذبت مياه الفيضان إليها، ولكنها لم تكن مصممة لاستيعاب حجم المياه، كما أن عدم صيانة السدود الموجودة هي التي زادت من حجم الكارثة”.
وتشير إلى أن “الحكومة المصرية بدأت في وضع خطط لمقاومة تأثيرات التغير المناخي، وتعمل على تنفيذ مشروع تبطين الترع، ولكن هناك حاجة إلى زيادة وعي المواطنين بمخاطر التغير المناخي للتعامل مع الأزمة”.
أما أسوأ التوقعات؛ فتفترض ارتفاع منسوب مياه المتوسط مترًا كاملاً في غضون العقود الثلاثة المقبلة، ما يعرّض ثلث أراضي الدلتا الزراعية عالية الإنتاجية بالغرق، وما يستتبعه من نقص للغذاء في مصر.
بدوره يعتقد المؤلف المشارك في الدراسة “ أودو فايلاخر – Udo Weilacher”، أن امتلاء الممرات المائية بالنفايات له تأثير آخر بعيد المدى، لأنه يؤدي إلى تقليل إحساس البشر بـ”تموضعهم” وسط بيئتهم الساحلية، كما يُقلل من حساسيتهم للتغيرات المناخية المائية.
ويضيف “فايلاخر“: “عندما تُزيل الممرات المائية، لن يشعر الناس بأن المدينة هي التي اعتادوا عليها بعد الآن، وسيفقدون ارتباطهم الثقافي بكل من نهر النيل والبحر الأبيض المتوسط”.
سيناريوهات قاتمة
وفق أكثر سيناريو تفاؤلًا وضعته الأمم المتحدة، سيرتفع منسوب المياه في المتوسط حوالي 50 سنتيمترا بحلول العام 2050 وسيُصبح ثلث مدينة الإسكندرية تحت الماء أو غير صالحة للسكن. مما سيضطر رُبع سكانها البالغ تعدادهم ستة ملايين نسمة لمغادرة منازلهم، وربما لا تنجو أيضًا كنوز المدينة وآثارها التاريخية.
كما تؤثر السدود المقامة على نهر النيل على مدينة الإسكندرية؛ إذ تمنع طمي النيل من الوصول لشواطئها، والذي كان يسهم قديمًا في توطيد تربتها، كما تساهم -بالإضافة للسدود- عمليات استخراج الغاز من الحقول البحرية في غرق المدينة بواقع ثلاثة مليمترات كل عام.
أما أسوأ التوقعات؛ فتفترض ارتفاع منسوب مياه المتوسط مترًا كاملاً في غضون العقود الثلاثة المقبلة، ووفق خبراء الأمم المتحدة فإن البحر الأبيض المتوسط سيكون الأسرع في ارتفاع المياه به عن أي مكان آخر في العالم؛ ما يعرّض ثلث أراضي الدلتا الزراعية عالية الإنتاجية بالغرق، وما يستتبعه من نقص للغذاء في مصر.
ووفق تقرير التنمية البشرية لعام 2021 الصادر عن وزارة التخطيط المصرية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يتوقع أنه بحلول عام 2050 “قد يرتفع منسوب البحر المتوسط بمقدار متر واحد نتيجة الاحترار العالمي، وما ينتج عنه من غمر بعض المدن الصناعية والمدن ذات الأهمية التاريخية؛ مثل الإسكندرية ودمياط ورشيد وبورسعيد”.
وفي حال ارتفاع منسوب البحر بمقدار نصف متر، “قد تغرق 30% من مدينة الاسكندرية، ما سيؤدي إلى نزوح ما يقرب من 1,5 مليون شخص أو أكثر”، بحسب التقرير. كما يُتوقع أن يؤدي ذلك إلى فقدان 195 ألف شخص وظائفهم.
جهود حكومية
وفي مارس الماضي، ترأس اللواء محمد الشريف محافظ الإسكندرية، الاجتماع الأول للجنة التغيرات المناخية الذي ناقش آثار التغيرات المناخية على المدينة واحتمالية تعرضها للأمطار الغزيرة، والآليات التي ستتخذها المدينة للتعامل معها. وتختص اللجنة بإعداد الدراسات التفصيلية للأضرار التي قد تنشأ عن نوبات الطقس، والتي تؤثر على المواطن السكندري، كما تهدف إلى إعداد برامج لتوعية المواطنين، وإعداد التوصيات الواجب اتخاذها لتقليل ومنع التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، وكذلك إعداد خطة قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى للتعامل مع الظاهرة، وبناء القدرات في مجال مكافحة تأثير التغير المناخي وارتفاع منسوب البحر.
وفي ورقة بحثية بعنوان “هل تغرق المدينة؟ الإسكندرية في مواجهة التغير المناخي” الصادرة عن مركز الإنسان والمدينة للدراسات الإنسانية والاجتماعية، قالت إنه “إذا تمّكن سكان الإسكندرية من الحصول على معلومات علمية رسمية دقيقة عن الوضع والأخطار والأسباب ومشروعات الحماية والتكيف وطرق التخفيف من الآثار، سيرفع ذلك الوعي العام، وسيعمل على بناء إحساس بالمسؤولية لدى المواطنين والأطراف المعنية لتغيير السياسات، وكلاهما عنصر رئيسي في الحلول الناجحة.
المناطق حول الإسكندرية وخاصة محافظات الدلتا، هي الأكثر عرضة للتأثر بالتغيرات المناخية، أما الإسكندرية فمستقبلاً قد تتحول إلى جزيرة بعد أن تغمر المياه المناطق المحيطة بها
وتضيف: “يحتاج السكان المتضررين إلى معلومات عن أسباب التآكل والنحر واحتماليات الغمر حتى يتسنى لهم قبول التغييرات على مستوى السياسات، كما يجب إجراء مناقشات مجتمعية مفتوحة وشفافة بشأن الآثار على مختلف أصحاب المصلحة والمعنيين، مثل العمالة غير المنتظمة وسكان المناطق الواقعة تحت التهديد والصيادين والمستثمرين والنساء”.
رأي خارج السرب
لكن أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، الدكتور عباس شراقي، لديه رأي مغاير لما تحدثت عنه الأبحاث السابقة؛ إذ يقول: “إن بعض نتائج هذه الأبحاث غير دقيقة، وإن الصورة حلوة، ومستقبل الإسكندرية ليس بتلك القتامة، لأن المدنية مبنية على حاجز صخري طولي بطول شرق إسكندرية، وهو مرتفع عن سطح البحر عن منطقة أبو قير بطول 5 أمتار، ويصل هذا الارتفاع عند المكس إلى 20 إلى 30 مترًا.
ويضيف شراقي، لـ”مواطن”، أن اختيار موقع المدينة وأعمال البناء جرت على أسس هندسية عبقرية، لأن اختيار المكان تم على حاجز صخري تقع عليه المدينة بالكامل، وهو أعلى من سطح البحر، ولن تتأثر المدينة حتى في ظل التغيرات المناخية، لأن سطح البحر ارتفع 20 سم خلال المئة سنة الماضية، ولذلك المدينة لن تتأثر خلال الخمسين أو مائة سنة القادمة.
وكشف أن المناطق حول الإسكندرية وخاصة محافظات الدلتا، هي الأكثر عرضة للتأثر بالتغيرات المناخية، وتوقع غرق أجزاء من محافظات دمياط وبورسعيد والبحيرة وكفر الشيخ، لأنها أراضٍ منخفضة، أما الإسكندرية فمستقبلاً قد تتحول إلى جزيرة بعد أن تغمر المياه المناطق المحيطة بها، وذلك بسبب ارتفاعها عن مستوى سطح البحر بمسافة آمنة.