يتساءل الإعلام الموالي كلما استضاف سياسيًا أو قابل دبلوماسيًا أو حتى من خلال عناوينه المنشورة، هذا الإعلام الإرهابي الذي يصنع الحقائق المزيفة بتغيير كلمة هنا وتعبير هناك، كأن يقول “مات 500 فلسطيني وقتل 700 إسرائيلي”، أو أن يقول “شنت “حماس” هجومًا، حاربت إسرائيل دفاعًا”، هنا “مات” هؤلاء وهناك “قتلوا”، هنا شُن “هجوم” وهناك تشكل “دفاع”.
كلمة بسيطة هنا وتشكيل قواعدي طفيف هناك؛ فتتغير الصورة، ويصبح الضحية إرهابيًا، ويتحول القاتل إلى ضحية بريئة، أقول: يتساءل هذا الإعلام منعدم الشرف والنزاهة: هل يقبل العالم هذا الاعتداء على المدنيين؟ هل يقبل العالم سفك الدماء؟ يا سلام، وهل من المفروض أن نُبهت ونُحرج أمام هكذا سؤال “إنساني شريف؟”
الإجابة المتوقعة إنسانيًا هي “لا”، لا أحد يقبل قتل المدنيين، لكن ترى هل من إجابات على أسئلتنا؟ ماذا عن المدنيين الفلسطينيين، الذين يموتون كل يوم على نقاط التفتيش، وعند الجدران العازلة وتحت العمارات المقصوفة، وبرصاص الغدر والنذالة والجبن، منذ أن اختطفت فلسطين منذ 100 سنة وإلى اليوم؟
ماذا عن الأطفال الملقين في سجون الاعتقال ليتحولوا فيها إلى عجائز مسنين بين يوم وليلة، ماذا المطرودين من بيوتهم والمهجرين من حقولهم والمحرومين من مساجدهم، والمهانين على أرضهم والمسروقين في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، كل يوم على مدى ستة وثلاثين ألف يوم من عمر تاريخ البشرية؟
أعطى التطبيع قوة نفسية إضافية للكيان المستعمر مستمَدة من تأييد وموافقة جيران الضحية بحد ذاتها، جيران يشتركون مع هذه الضحية في العرق والدين واللغة، ورغم ذلك هم يؤيدون المغتصب ويمدون له يد الصداقة.
ماذا عن أطفال قانا الذين دفنوا تحت بيوتهم وأطفال “صبرا وشاتيلا” الذين غرقوا في دمائهم، وأطفال غزة المسجونين في أكبر وأخطر سجن في العالم؟ ماذا عن شيرين أبو عاقلة الصحفية الفلسطينية الأمريكية التي قتلت في وضح النهار، وعلى مرأى من العالم أجمع؟
ماذا عن محمد الدرة الذي لفظ الروح في حضن أبيه وأمام كاميرات الإعلام العالمي؟ ماذا عن ضحايا الأيام القليلة السابقة، مثالًا لا حصرًا في حي الشيخ رضوان وحي الرمال ومعبر رفح ومخيم جباليا، وكلها مناطق مدنية بحتة سويت بالأرض وقُتل المئات -إن لم يكن الآلاف-، من مدنييها بأسلحة إسرائيلية؟ هل نقبل بالاعتداء على المدنيين؟ يا له من سؤال سخيف وحقير وخاوٍ من كل معنى!
قد نرفع شعارات العروبة اليوم فنقول إن العقل والمنطق والضمير يشيرون إلى ضرورة أن يكون للدول العربية موقف جاد من الصراع الحالي القائم، هذا صراع منظور ببث مباشر، ورغم كل محاولات تزييفه، إلا أنه لا يزال بإمكاننا أن نلعب لعبة رسائل الإعلام فيه، وأن نكون الطرف الشريف في هذه اللعبة؛ فنحن على حق، وقصتنا هي الأحق.
إلا أن الواقع يقول إن الدولة الصهيونية اخترقت الجسم العربي منذ زمن، تمامًا مثلما اخترقت الرصاصات الحارقة جسد الصغير محمد الدرة فأردته شهيدًا، تفرقنا بشكل نهائي بعد أن كانت القضية الفلسطينية هي تقريبًا آخر قضية إنسانية حقوقية سياسية كراماتية تجمعنا؛ فطبّع البعض، واستقبل السفارات الصهيونية البعض الآخر، وتصافح باليد البعض، وتراضى بالكلمات الدبلوماسية البعض الآخر، وما بقيت سوى أقل القليل من دولنا، الكويت وبكل فخر أقولها مثالًا، باقية على المبدأ بكماله وشموليته.
لقد أعطى التطبيع قوة نفسية إضافية للكيان المستعمر مستمَدة من تأييد وموافقة جيران الضحية بحد ذاتها، جيران يشتركون مع هذه الضحية في العرق والدين واللغة، ورغم ذلك هم يؤيدون المغتصب ويمدون له يد الصداقة؛ فأي رسالة يرسل هؤلاء الجيران للعالم، وأي صورة للكيان الصهيوني المستعمر، هم يرسمون، وهم يصافحونه مصافحة “السلام”؟ والسؤال الأكثر تعقيدًا هو؛ كيف سيكون موقفنا الجمعي، بعد تشرذمنا تجاه القضية في هذه الأزمة المصيرية؟
سأقول؛ على الرغم من كراهيتي الشخصية للبراغماتية الصلدة الخالية من الأخلاقية الضمائرية؛ فإن الدور أكبر والمسؤولية أعظم على الدول المطبِّعة. لربما العودة عن طريق التطبيع ليست ممكنة أو مجزية سياسيًا أو اقتصاديًا أو مصالحيًا بالنسبة لهذه الدول، ذلك أن الحياة لئيمة والمصالح تتفوق دائمًا، إلا أنه؛ ألا يمكن على الأقل استغلال هذا الموقف المتصالح لتحقيق شيء يسير جدًا من العدالة المفقودة على مدى قرن من الزمان للفلسطينيين؟ ألا تستطيع هذه الدول التي “مشت نصف المسافة” أن “تكلم” الدولة الصهيونية و”تنصحها بــ “كلام “المحب” ونصح “الأخ” المهتم بالمصالح المشتركة، بما أن مصافحة “السلام” قد تمت وما عاد الرجوع عنها واردًا؟ ألا يمكن أن ينتج أي خير طفيف عن هكذا شر كثير؟
لربما لا تخلو دولة في العالم من سفارة “متوترة العلاقات” معها على أرضها؛ فكل دول العالم تفسح هذا المجال الدبلوماسي لبعض من “أصدقائها” ليكون لهم وجود وبالتالي لخلق مساحة حوار. وبما أن الدول العربية المطبعة لديها الآن هذه المساحة، ألا يحسن بها استغلالها؟ أليس من واجبها تذكير العالم بالقضية وبداياتها وحقيقة وقائعها وضحاياها وتداعياتها، والتي بدأت كلها واستمرت منذ عشرات السنوات قبل أن تمتد حبال الود مؤخرًا؟
شرذمتنا إسرائيل، كأنها طلقة في قلب العرب، تناثرت شظاياها في الجسد الواحد؛ فأصابت هذا بكراهية، وذاك بتطبيع، وآخر بموقف متردد، وآخر بموقف خائف؛ فتركتنا فوق فرقتنا متفرقين، وفوق خلافاتنا مختلفين.
ماذا لو استغلت هذه الدول -المطبعة- هذا الشباك الموارب على الدولة الصهيونية وعلى الحكومات العظمى التي تسندها فتحاول أن تضغط باتجاه حل أكثر عدالة للفلسطينيين؛ فتكسب لهم شوطًا في هذه المباراة الرهيبة التعذيبية، التي لم يقف فيها حكم واحد عادل على مدى قرن من الزمان؟
ماذا لو وظفت هذه الدول مفهوم حرية الرأي واحترام الحقائق التاريخية لتستعرض من خلالهما ما حدث ويحدث للفلسطينيين كل يوم، وإن كانت صديقة لأعدائهم؟ أليس هذا ممكنًا؟ أليست مواجهة “الصديق” بعيوبه وتقديم النصح الحقيقي له من قبيل الصدق في الصداقة؟
لابد أن تذكِّر هذه الدولُ الكيانَ الصهيوني والحكومات العظمى الموالية له أن الضغط يولد الانفجار، وأن الظلم يصنع القسوة، وأن استمرار عملية انتهاك الأرض والعِرض والطفولة والمقدس للفلسطينيين لن ينتج عنه سوى خلق المزيد من العنف والدمار والدماء، سوى بروز مقاومة مسلحة لن تُبقي ولن تذر، مقاومة فاقدة الأمل، ولا شيئ في الدنيا أخطر من إنسان فاقد الأمل سوى جماعة كاملة فاقدة له؛ فمن يفقد الأمل، يفقد الإحساس بالحياة، ومن يفقد الإحساس بالحياة؛ يفقد الشعور بالعطف الإنساني، وهو في كل ذلك غير ملام.
لابد أن تشير هذه الدول إلى تلك الحقائق الإنسانية البسيطة، أن الحق لا يُنسى، والحقائق مهما زُيفت لا تُمحى، وأن الروح البشرية ثمينة، وأن الحق في الأرض حق أساسي، وأن المقياس الإنساني لكل ذلك يجب أن يكون واحدًا، لا أن يقاس بالمتر في القضية الأوكرانية، على سبيل المثال، وبالميلليمتر في القضية الفلسطينية، وأن “كل كبير فيه اللي أكبر منه”، وأن “الأيام دول” وأن “الدنيا دوارة”.
هكذا بالعامية أو باللغة السياسية المصالحية المحنكة الكريهة، لابد من قول كل هذا الكلام، ولابد من تذكير العالم به، ولا أحد أفضل للقيام بهذه المهمة سوى تلك الدول التي “قطعت نصف الطريق”، ولا موقف سيخفف الآلام ويمحو الضغائن بين دولنا أفضل من موقف حمامة السلام العادلة فلسطينية الهوى الذي يجب على هذه الدول أن تلعبه.
شرذمتنا إسرائيل، كأنها طلقة في قلب العرب، تناثرت شظاياها في الجسد الواحد؛ فأصابت هذا بكراهية، وذاك بتطبيع، وآخر بموقف متردد، وآخر بموقف خائف؛ فتركتنا فوق فرقتنا متفرقين، وفوق خلافاتنا مختلفين. ولربما، رغم كل الأسى، يكون صراع اليوم فرصة، لربما تكون دماء الضحايا غسولاً مطهرًا، لربما تكون أرواح الأطفال تميمة صحوة تجعلنا نجتمع، ورغم كل الاختلافات، نفكر كيف؟ كل من موقعنا، يمكن أن يكون لنا دور بعد أن خربناها وجلسنا على تلها؟
وتبقى فلسطين حرة أبية
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.