في اليوم الأول من العدوان، لم تستطع هبة كريزم صحفية غزية، الخروج من المنزل وتغطية عمل القطاع الطبي في إنقاذ المصابين، جراء القصف الإسرائيلي الأخير على القطاع، لا ترتبط هبة بأي مؤسسة صحفية، وتقدم المواد الصحفية لعدة مواقع بشكل حر، وهو ما توفقت عنه بسبب صعوبة الحركة في ظل القصف، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء والإنترنت.
“الصحفي اللي بيتحرك للتصوير ويغطي الأحداث بيكون عارف أنو هو بحماية ربنا، ممكن يرجع سليم أو مصاب أو شهيد مثله مثل الصحفيين اللي استشهدوا“. بهذه الكلمات تصف هبة مخاطر التنقل والخروج في شوارع غزة. وهو ما لا يختلف عن البقاء في البيوت، أن تعيش في غزة فأنت معرض للموت في جميع الأماكن بها، شوارع أو مستشفيات أو بيوت أو حتى قوافل فارة من قصف الاحتلال.
ويمتد تأثير انقطاع الكهرباء إلى الخدمات الأساسية وشرب المياه النظيفة، بالإضافة إلى تأثير كارثي على قطاع الصحة وعلاج المصابين والمرضى، في ظل عدوان غاشم وقصف عشوائي من قوات الاحتلال.
تشرح أنه منذ اللحظة الأولى للعدوان يجب التواجد في مجمع الشفاء الطبي لتغطية الأحداث المتسارعة، ولا يتسنى بعدها للصحفيين الذهاب لمنازلهم من أجل الاستراحة او لتغيير ملابسهم.
وبسبب عدم تواجدها منذ اللحظات الأولى للعدوان في المجمع، لم تتمكن من مغادرة منزلها، بسبب خطورة الأوضاع الميدانية، وعدم توفر وسائل نقل للذهاب إلى مجمع الشفاء أو التوجه لأماكن الاستهداف الاسرائيلى، . ليست هبة الوحيدة التي تعطل عملها وحياتها اليومية، مع احتمالية فقدان الحياة الدائم؛ بل كل سكان شمال ووسط غزة تقريبًا.
معاناة تحت الحصار
يعاني من قطع الكهرباء ما يزيد عن 2.2 مليون شخص محاصرين في القطاع، إثر العدوان الإسرائيلي الأخير، في خطوات التصعيد المتبادل بعد عملية طوفان الأقصى من قبل حماس، إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي تمت في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ويعيش أهالي غزة حصارًا جويًا وبريًا وبحريًا من العام 2007، ما أدى لزيادة معدلات الفقر والبطالة، وأثر في شكل مباشر على نقص اللوازم الطبية في قطاع الصحة، بسبب فرض قيود مشددة على دخول الوقـود والبضائع حركة الأفراد من وإلى القطاع.
وتنقطع الكهرباء من 16-12 ساعة في اليوم الواحد، ويتاح 1.4 من أسرة المستشفيات لكل ألف مواطن في غزة، بينما كانت بمعدل ثلاثة أسرة لكل ألف قبل الحصار في 2005، كما تعاني 5 من 10 عائلات من انعدام الأمن الغذائي.
ويمتد تأثير انقطاع الكهرباء إلى الخدمات الأساسية وشرب المياه النظيفة، بالإضافة إلى تأثير كارثي على قطاع الصحة وعلاج المصابين والمرضى، في ظل عدوان غاشم وقصف عشوائي من قوات الاحتلال.
تؤكد آلاء أن غزة أصبحت ليل لا ينتهي، وتستطرد أنهم يعيشون حربًا نفسية تمارس من سلطات الاحتلال، عبر تحذيرات قصف كاذبة تدفع الأهالي لمغادرة منازلهم.
يعيش سكان قطاع غزة تحت ظلام دامس معزولين عن العالم، والسماء من أعلى تمطر قصفًا عشوائيًا في كل مكان، تقول هبة: “الإعلام ما بينقل عشر، يلى بيصير فينا بغزة للأسف”..
بينما تحكي آلاء أبو قاسم من غزة، أن أمها تعاني من الذعر والخوف والقلق، لا تأكل ولا تشرب، “وقلبها موجوع“.. حد تعبيرها، وتكمل “أنها غير قادرة على الحديث أو النوم؛ فلا يمكن النوم أكثر من ساعتين متقطعتين، بسبب أصوات القصف في كل مكان وتحذيرات النزوح”.
وتضيف: “زمان كانوا يقولونا معكم 5 دقايق تخلو البيت، حاليًا بيحكولنا معاكم 10 دقايق تخلو الحي كاملا، ويبدؤوا علينا سلسلة حزام ناري، عبارة عن قصف متواصل ساعة وأكثر لحي كامل ينسفوه نسف ويدمروه”.
تنام آلاء وأقاربها من النساء مرتديات الإسدال، ليسر الحركة في حالة تم توجيه تحذير بالقصف في أي من ساعات النوم وتكمل حديثها قائلة: “تخيل اتصال من 5 دقائق إذا كنت وافر الحظ، ممكن يخليك تنجو بحياتك، 5 دقائق مطلوب فيهم تركن كل حياتك على جنب، وتخلي البيت أنت وأهلك، 5 دقائق أنت وحظك، إذا قدرت تاخذ أوراقك الرسمية والثبوتية حتى، 5 دقائق ويتنسف حلمك بالأرض قدام عينيك”.
وتؤكد على أن الاحتلال قطع المياه والكهرباء والإنترنت حتى يعزلوا سكان القطاع عن العالم، أصبحت غزة ليل لا ينتهي، حد قولها. وتستطرد أنهم يعيشون حربًا نفسية تمارس من سلطات الاحتلال، عبر تحذيرات قصف كاذبة تدفع الأهالي لمغادرة منازلهم، والبعد عن أحيائهم؛ في محاولة لتشريد وإرهاق الغزيين من قبل قوات الاحتلال.
"كنت أحكي مع أهلي منذ يومين، ونزل صاروخين سمعت الصاروخ الأول وفهمت أن حصل إصابات، وأن في حد وقع عليه شيء أو حيط، وأمي عم تركض، حاولت أتصل فيهن ما عرفت"
وتعطلت 35% من شبكات الاتصالات الفلسطينية، نتيجة لانقطاع الكهرباء، وهو ما أثر سلبًا على جودة خدمات الاتصالات والإنترنت بشكل متفاوت، ما بين التقطيع إلى الانقطاع الكامل.
وتعاني آلاء التي تعمل في مجال التسويق الإلكتروني، بسبب صعوبة القدرة على ممارسة عملها في ظل هذه الأجواء من أصوات القصف وموت الأهالي، وانقطاع الكهرباء والإنترنت، ومع هذا تحاول آلاء ممارسة عملها الأون لاين وفق المتاح، حتى لا تفقد مصدر رزقها.
أن تكون غزوايًا يعني أن وجع القلب يطاردك، ولو سافرت آلاف الأميال مبتعدًا، وهو حال معتصم عواجة، مهندس برمجيات يعمل في السويد، يقول: “من كل عشر محاولات اتصال بأهله، يمكنهم الرد على مرتين منهم”. ويوضح أن صعوبة التواصل تخص المكالمات الهاتفية أو التي عبر الإنترنت، وفي حال لم يتمكن من الوصول إلى أهله مباشرة، يتصل على أحد الجيران.
على الرغم من اغترابه يتمنى معتصم لو يعد إلى غزة؛ يقول: “أهون عليا أكون مع أهلي، واللي بيصير عليا يصير عليهن، ويضيف: “كنت أحكي مع أهلي منذ يومين، ونزل صاروخين سمعت الصاروخ الأول وفهمت أن حصل إصابات، وأن في حد وقع عليه شيء أو حيط، وأمي عم تركض، حاولت أتصل فيهن ما عرفت”.
لم ينتهِ قلق معتصم إلا بعد أن حدث أحد سكان الحي؛ فأخبره أنه سيرسل شخصًا يستطلع أخبارهم، إلى أن جاءه اتصال بأن أهله مازالوا أحياء ومشردين خارج الحي بعد القصف.
ولم تتوقف قوات الاحتلال حتى عن مهاجمة القوافل الفارة، وتم قصف شاحنة للنازحين؛ ما أدى لقتل 70 فلسطينيًا. هديل عز الدين، وهي أحد النازحين للجنوب، قالت تعليقًا على الوضع: "بعدنا مرمين في الشوارع، مفيش بيوت تأوينا". وانقطع الاتصال معها.
تهجير قسري ونزوح جماعي
إثر مطالبات قوات الاحتلال بإخلاء شمال ووسط غزة، احتشد النازحين من الشمال في مدينة خان يونس جنوب غزة، مع زجاجاتهم الفارغة، في انتظار وصول شاحنات المياه. وتشير التقديرات إلى نزوح نصف سكان غزة في ظل نقص الاحتياجات الأساسية، ويعاني النازحون مع عدم وجود أي ملاذات تقريبًا للاحتماء.
قامت قوات الاحتلال بخمس عمليات عسكرية بارزة ضد القطاع قبل العدوان الأخير، وكان أكبرها عملية 2014 (الجرف الصامت)، واستمرت لمدة 51 يومًا، أسفرت عن مقتل 2147 فلسطينيًا، بينما تجاوز عدد القتلى من الفلسطينيين في العدوان الحالي ما بين2215– 2670 فلسطينيًا، خلال ثمانية أيام فقط؛ ما يعكس الميل للعنف المفرط وممارسة القصف العشوائي.
ولم تتوقف قوات الاحتلال حتى عن مهاجمة القوافل الفارة، وتم قصف شاحنة للنازحين؛ ما أدى لقتل 70 فلسطينيًا. هديل عز الدين، وهي أحد النازحين للجنوب، قالت تعليقًا على الوضع، لمواطن: “بعدنا مرمين في الشوارع، مفيش بيوت تأوينا”. وانقطع الاتصال معها، ولم تكمل شهادتها، ولم نستطع الوصول لها حتى وقت نشر التقرير.
لم تقتصر طلبات النزوح الإسرائيلي على سكان البيوت شمال القطاع؛ بل وصلت مستشفى القدس في مدينة غزة، الذي تديره جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
وتعتقد هبة كريزم، أن حكومة الاحتلال دائمًا ما تستخدم القوة المفرطة، لإخافة أهل غزة، وهذا دليل على ضعفها، وأنه لا توجد لديها وسائل أخرى لتحسين صورتها أمام الشارع الإسرائيلى؛ فلا تجد طريقة للخروج من أى مأزق سياسي سوى شن عدوان على القطاع.
ويقول معتصم عواجة: “إن غزة عبارة عن تاتو أو وشم هيك ملزج فيك، طلعت برا غزة نزلت جوا عزة، كل شي في غزة بيضلوا يلاحقك، عشت خارج غزة أكثر من عشت فيها، لا أترعرت بيها ولا ولدت فيها، وعشت فيها بداية من منتصف مراهقتي، وبعد الجامعة ومن بلد لبلد، بس بتضل غزة هويتي.
ويتفق عواجة مع كريزم إنه بالرغم من كل محاولات التهجير القسري، سيبقى أهل غزة يقاومون الاحتلال، متمسكين بحقهم في الأرض، ويضيف معتصم: “تعيش غزة الآن أجمد حرب عليها، تنباد أحياء كاملة، لكن لو أجت بواخر على البحر لن يخرج الناس، أهل غزة بتعرف أنه لو خرجوا خلصت القضية، وكل المعاناة اللي ضلت 70 سنة بتكون خلاص ضاعت”.
بينما تتعجب آلاء أبو قاسم من أنها تتحدث تحت أصوات القذائف قائلة: “بتكلم عن القوة والصمود، وأنا بحاول أشوف الصاروخ نزل وين”. وتضيف: “إحنا هنا بنموت عالصامت وفي بطء، واللي ما مات من الصواريخ هيموت وهو بينتظر دوره، أو هيموت من العطش والجوع”.
وتكمل: “الناس بطلت تنزل نعي في فرد من أسرتها، بقت تنزل نعي في كامل أفراد الأسرة، عائلات كاملة تمحى من السجل المدني”.
تبدو آلاء قلقة؛ إلا أنها أكدت على إيمانها بأن الحرية باتت وشيكة، بينما معتصم مغترب يشعر أن الموت بين أهله أكثر رومانسية من حياة هادئة في السويد، بينما تبقى هبة تراقب وتحلل الأوضاع بحسها الصحفي، وجميعهم يأمل بيوم تشرق شمسه ساطعة تزيل ظلام الاحتلال.