لم يتوقف سيل المشاهد المؤلمة من قطاع، غزة وأكثرها إيلامًا هو عجز الأهالي عن إخراج المصابين من تحت الانقاض، وبشكل خاص عندما يكون هناك أحياء من بينهم، ولكن ضعف الإمكانات وكثافة الاستهدافات من جيش الاحتلال، جعلا من الصعب إنقاذ تلك الأرواح.
عائلة الصحفية سلام ميمة مرت بهذه التجربة القاسية، والتي أُعلن عن وفاة كل أفراد عائلتها المكونة من سلام وزوجها وثلاثة أطفال خلال استهداف لمنزلها الساعة الثانية فجر يوم الثلاثاء الموافق 10 أكتوبر 2023م. لم يتقبل أبوها المكلوم في ابنته وأحفاده الأمر، وظل يحاول الاتصال بهاتفها ليتفاجأ في إحدى تجارب الاتصال بالرد؛ يسمع أنينًا دون أن يتبين من المتحدث.
حينها خرج الأب مسرعًا من منزله متوجها إلى منزل ابنته، وكان ذلك بعد مرور أكثر من 24 ساعة على انهيار العقار نتيجة القصف، ليجد أناسًا يحاولون رفع ركام المنزل، ويخبروه أن هناك أصواتًا تخرج من بين الركام، عاد الأمل لوالد سلام واستدعى عائلته وأرسل نداء استغاثة إلى الدفاع المدني للحضور والمساعدة في رفع الركام.
بعد عدة ساعات حضر الدفاع المدني ومعه رافعة صغيرة (باقر)، بالكاد تستطيع رفع الركام، يقول والد سلام: “ضعف الإمكانات جعلنا نستغرق وقتًا طويلًا في عملية إزاحة الركام، أخرجنا زوجة أخ زوج ابنتي، وهي على قيد الحياة، وأخبرتنا أنها كانت تسمع أصوات أولاد سلام”.
استمرت جهود رفع الركام لكن بوتيرة ضعيفة؛ خاصة أن إمكانات الدفاع المدني ضعيفة ومعداته قديمة ومستهلكة، ولا يملك الدفاع المدني معدات ثقيلة، ويضيف والد سلام لـ”مواطن”: ” وصلنا لمكان سلام وأولادها وأخرجنا “علي” (8 سنوات)، وكان مصابًا، وعندما حاولنا إخراج ؛سلام؛ لم نستطع لصغر الفتحة”.
حاول الدفاع المدني توسيع الفتحة، ولكن بعد عدة ضربات انهار المبنى، وهرب الجميع من المكان، وبعد أن استقر الركام غابت سلام وطفلاها ولم يعد من السهل التعرف على مكانهم
حاول الدفاع المدني توسيع الفتحة، ولكن بعد عدة ضربات انهار المبنى، وهرب الجميع من المكان، وبعد أن استقر الركام غابت سلام وطفلاها ولم يعد من السهل التعرف على مكانهم، رغم ذلك استمرت عائلتها بالبحث عنها، وبعد ثلاثة أيام من محاولات البحث أعلن عن استشهادهم، دون إخراج جثتها ولا جثث بقية أبنائها.
ويرى والد سلام أن جزءً من المسؤولية يتحمله ضعف إمكانات الدفاع المدني، يقول: ” في مثل هذه الأوضاع يحتاج القطاع لمعدات ضخمة لتسهل عملية الإنقاذ، ولو كان لدي الدفاع المدني الإمكانات المتاحة لتم إنقاذ ابنتي سلام وطفليها”، هكذا أنهى والد سلام حديثة والدموع تفر من عينيه.
الاستهدافات تفوق طاقتنا
بحسب الدكتور ريتشارد بيبكورن، ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أن عدد الوفيات في غزة بلغ أكثر من 3 آلاف وفاة منذ السابع من أكتوبر وحتى وقت بيانه في 17 أكتوبر/تشرين الأول بعد قصف اسرائيل لمستشفي الأهلي المعمداني، بالإضافة إلى أكثر من 11 الف مصاب بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. كما حذّر بيبكورن من تفشي الأمراض نتيجة قطع الماء والكهرباء ومنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة.
ولا يستطيع أحد نكران حجم الاستجابة لدى طواقم الدفاع المدني لنداءات المواطنين منذ بداية هذا العدوان، وهذا ما أكده المتحدث باسم الدفاع المدني بغزة، الرائد محمود بصل، حيث إن طواقمهم وبإمكاناتها المحدودة استجابت لنداءات المواطنين منذ بدء هذا العدوان، لدرجة أنهم أصبحوا غير قادرين على تحديد عدد المهام التي نفذتها طواقمهم في مختلف محافظات غزة.
وعن مهام الدفاع المدني خلال الحرب يذكر بصل لـ”مواطن” أنها تتعدد ما بين الإسعاف والإطفاء والإنقاذ وانتشال الشهداء من بين الأنقاض، لافتًا أن كل ذلك يحدث بمعدات قديمة، ومتهالكة أصلًا في ظل الحصار، وغير مؤهلة للأعداد الكبيرة من الاستهدافات العنيفة للمنازل والأبراج السكنية والمتزامنة مع بعضها بعضًا، رغم وجود تجارب سابقة وقدرة كبيرة على التعامل في مثل هذا الحروب.
وأضاف: “بات هذا الأمر يفوق طاقة وقدرة طواقم الدفاع المدني وإمكاناتها البشرية، وأصبحت عاجزة عن التعامل مع الكم الهائل من المنشآت والبيوت والأحياء المدمرة بشكل كلي، وليس لديها ما يكفي من آليات ومعدات ثقيلة لإخراج العالقين الأحياء من تحت الأنقاض”.
ويلفت النظر إلى أن الدفاع المدني ربما يعلن خلال الساعات القادمة عن نفاد الوقود بشكل كامل، فتتوقف بالتالي خدماته في قطاع غزة ما سيؤثر على عمليات الإنقاذ.
ولا ينكر “بصل” أن هناك الكثير من المواطنين الأحياء تحت أنقاض المساكن والمنشآت المدمرة، وأن طواقمهم غير قادرة على الوصول إليهم نظرًا للعجز الكبير لديهم؛ ما يهدد بارتفاع كبير في أعداد الشهداء، ويقدر عدد المفقودين تحت الركام بـ” 1000 شخص جلهم من الأطفال”، وفق بصل.
وأضاف: “فقد الكثير من المواطنين حياتهم تحت الأنقاض، بسبب تأخر وصول فرق الإغاثة، نظرًا لقلة الإمكانات المادية والبشرية وضعف المعدات”، منوهًا أن هذا الأمر أتعب فرق الدفاع المدني لشعوره بالعجز رغم محاولاته الكثيرة لإجراء عملية الإنقاذ”.
ويختتم حديثه بتوجيه دعوات للعالم بالمساعدة في توفير معدات وإمكانيات وفرق للمساعدة في إخراج المعلقين إذا كانوا أحياء أو شهداء؛ “فطاقم الدفاع استنزف جسديًا مع استنزاف معدات الإنقاذ”.
الهواء والماء والإصرار سبب النجاة
وعن إمكانية النجاة من تحت ركام المنازل، تحدث لــ “مواطن” الدكتور أشرف القدرة الناطق باسم وزارة الصحة عن هذا الأمر، وقال:” إن النجاة تعتمد بالأساس على ما يحدث لحظة وقوع الاستهداف”. مشيرًا إلى أن الوضع المثالي للنجاة هو إن علقت الضحية تحت الأنقاض مع وجود منفذ للأكسجين، وألا تكون الضحية مصابة، وأن تتوافر لديها بعض المياه”.
يصمت قليلًا، ويقول: “المشكلة أن أغلب الحالات تكون مصابة، أو أنها تعاني من ضغط شديد على جسدها بسبب الركام المتراكم، مما يتسبب في موت بعض الأنسجة مع تأخر عملية الإنقاذ”.
وهنا في الحالتين وبسبب الصدمة “يخرج الجسم كمية من المواد سامة، تؤدي إلى حدوث قصور أو فشل في الكلى، وإذا لم يحدث تدخل عاجل للعلاج يموت الجسم تدريجيًا، أما في حالة حدوث نزيف فهنا الموت يكون أسرع مع تصفية الدم”.. وفق القدرة.
وعن إمكانية وجود أحياء بعد مرور أسبوع، قال القدرة:” من الندرة حدوث ذلك، وذلك لأن وجود الشخص عالقًا في مساحة ضيقة يتسبب في ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة في ثاني أكسيد الكربون، مما يسبب الاختناق حال وصوله إلى مستويات عالية”.
الوضع في غزة صعب؛ وخاصة أنه يتم الاستهداف بقنابل لا نعرف ماهيتها، تترك حروقًا وغازات في المكان، تسبب العديد من المشاكل وسرعة الوفاة، مما تجعل إمكانية النجاة قليلة جدًا
شريف القدرة، الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية
أما إذا توفر الأكسجين لدى العالق، ولم يكن تحت ضغط الركام؛ فإن هناك مشكلة أخرى تخرج، وهي توفير المياه له. ووفق “القدرة” فإن الإنسان قد يبقى على قيد الحياة بدون ماء لمدة ثلاثة إلى سبعة أيام.
وهذا كله أيضًا يعتمد على الحالة الصحية والعمر وكمية السوائل في جسد العالق، وكمية العرق الذي يفقده، وإذا أصيب بإسهال أم لا، وأخيرًا على درجة الحرارة.
ويؤكد أن النجاة في آخر المطاف ترجع على الإصرار على النجاة بأي طريق وكذلك الإرادة؛ فالكثير يستسلم ويسلم جسده للاستسلام تحت الركام، ويرى أن حياته انتهت، وآخرون يحاولون النجاة بأي طرق.
وعن أسباب تراجع حالة النجاة للعالقين تحت الركام في الاستهدافات التي تحدث بغزة، قال القدرة: “الوضع في غزة صعب؛ وخاصة أنه يتم الاستهداف بقنابل لا نعرف ماهيتها، تترك حروقًا وغازات في المكان، تسبب العديد من المشاكل وسرعة الوفاة، مما تجعل إمكانية النجاة قليلة جدًا”.
معاناة مستمرة
في الأسبوع الأول من الحرب على قطاع غزة قصف جيش الاحتلال أكثر من 750 منزلًا بإجمالي 2835 وحدة سكنية دمرت بالكامل؛ ما يفوق قدرة أي قوات دفاع مدني في العالم على التعامل مع هذا الحجم من الكوارث في أيام معدودة. وها هي الحرب على القطاع تدخل في أسبوعها الثالث مع استمرار الحصار، من قطع المياه والكهرباء والوقود، والقصف والاستهداف المستمر على القطاع وبنيته التحتية، ولم يسمح جيش الاحتلال خلال الأسبوعين الماضيين بوصول المساعدات العالقة على الجانب المصري من معبر رفح، ما ينبئ عن كوارث صحية سيشهدها القطاع في الفترة المقبلة، مضيفًا لرصيد جرائم جيش الاحتلال جريمة أخرى ضد الإنسانية، تتدنى لمستوى جرائم الحرب.