ما يجري في غزة اليوم يمثل التحدي الأكبر للنظام العالمي الذي أنشأته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في العام 1945، تحت مظلة الأمم المتحدة، على أساس يلتزم بسيادة الدول، وحتى تقرير المصير، واحترام حقوق الإنسان.
وكشف العدوان الحالي على غزة، من خلال وسائل الإعلام العالمية وتغطيتها، بأن مفهوم حقوق الإنسان والحق في الحياة، أمور قاصرة على الأوروبيين والأمريكيين، ومن لا يشبههم ولا يندرج تحت عباءتهم، فهو ليس بإنسان ولا يستحق الحياة.
ومنذ تأسيس دولة الاحتلال على أرض فلسطين، وهي تعد من أكثر الدول المخالفة للقانون الدولي، ولا يطالها أي عقاب أو ردع من أي جهة دولية، مع وجود الفيتو الأميركي، بالإضافة للدعم المالي والعسكري والإعلامي غير المحدود، من الولايات المتحدة وحلفائها لهذا الكيان القائم على مخالفات القيم الإنسانية.
ويكفي متابعة التغطيات الإعلامية في هذه الدول، وضد أي جهة لا تقبل الانحناء لهم والتخلي عن مبدأ المساواة والكرامة والاستقلال. ولرؤية الأمر بوضوح فلدينا ما تكشفه التقارير الأممية أيضًا، حول انتهاكات إسرائيلية للقانون الدولي بحق الفلسطينيين، واليوم شرد أكثر من من 1.1 مليون شخص من شمال غزة، هؤلاء يفترشون الشوارع بلا مأوى أو وجهة.
لقد فرض الاستعمار في المنطقة من أجل التحكم في الطرق الاستراتيجية، بعدها فرض التخلف والجهل من أجل السيطرة على شعوب المنطقة، ثم فرض الأنظمة الديكتاتورية، حتى تكون مندوبًا يمثل القوى الاستعمارية ويحمي مصالحها في المنطقة.
على هذا الأساس نرى كيف تصرف الكيان الصهيوني منذ أنشئ وحتى اليوم، يقتل بكل بشاعة أطفال غزة تحت مرأى ومسمع الجميع، للدرجة التي ترسل فيها الولايات المتحدة الأميركية حاملتين للطائرات من أجل مساندة العدوان الغاشم على شعب أعزل محاصر، ومن كل جانب تقطع عنه الكهرباء والماء والوقود، وتعطل الخدمات الصحية والتعليمية، وكل ما يمس بالحقوق الأساسية للإنسان في كل مكان.
أوضح ساسة دول الغرب بقيادة واشنطن بأنهم عبر أفعالهم وممارساتهم لا يعتبروننا من الجنس البشري؛ بل وكما وصف وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت بأن أهل غزة حيوانات بشرية من دون أن تدينه أي دولة من دول العالم، التي تطلق على نفسها مسمى ” العالم الحر”.
وإن عدم معالجة القضية الفلسطينية بصورة عادلة يضرب مباشرة في مدى صلاحية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا الإعلان الذي يعد وثيقة هامة في تاريخ البشرية تحفظ الكرامة وحق الحياة، وصيغ على يد قانونيين من مختلف الخلفيات الثقافية، واعتمد في باريس بتاريخ 10ديسمبر/كانون الأول 1948 بموجب القرار 217، على أنه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب.
ولهذا وكما هو ملاحظ من أحداث عديدة، أقترح بأن يسمى الإعلان العالمي الخاص بدول دون أخرى لحقوق الإنسان، لأنه ببساطة ما عاد يلعب الدور الذي خرج من أجله، لأنه لا يشمل الجميع؛ بل ويستثني الكيان الصهيوني.
كما لا يمكن نسيان أن وجود الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، هو نتيجة ما خرج من القوى الاستعمارية الغربية، التي أرادت وطنًا يحتضن جميع يهود العالم ويخفف العبء عن القارة العجوز “أوروبا”.
ويتفق المؤرخون والسياسيون بأن حتى مسمى الشرق الأوسط هو مصطلح استعماري مرتبط بالمصالح الاستعمارية، وأول من استعمله الكاتب الأميركي المتخصص في الاستراتيجية البحرية “ألفريد ماهان” بالعام 1902 لدى مناقشته الاستراتيجية الإمبريالية البريطانية، وذلك للاشارة إلى المسالك الغربية والشمالية في الهند.
لقد فرض الاستعمار في المنطقة من أجل التحكم في الطرق الاستراتيجية، بعدها فرض التخلف والجهل من أجل السيطرة على شعوب المنطقة، ثم فرض الأنظمة الديكتاتورية، حتى تكون مندوبًا يمثل القوى الاستعمارية ويحمي مصالحها في المنطقة.
ومنْعُ المتظاهرين من بعض شوارع العواصم العربية معناه أن هذه الأنظمة متواطئة في جرائم الحرب، التي يقوم بها الكيان ضد أهل غزة من أطفال ونساء أبرياء، كما حصل في المستشفى الأهلي المعمداني، وهذا التواطؤ يعكس انهيار النظام الأخلاقي، والذي نشاهده في صور المصافحة مع وزراء الخارجية العرب والسفراء مع نظرائهم الصهاينة.
ولم تقف المسالة عند هذا الحد؛ بل تصل في انهيارها الأخلاقي إلى نوعية البيانات الرسمية، التي تخرج أمام البعثات الدبلوماسية الأوروبية، وتلك التي تخرج من البحرين على سبيل المثال؛ فتكون لغتها ومصطلحاتها لا تمت للواقع صلة -في مقابل مظاهرت قمعت- وغير مقبولة من نظام مطبع مع الكيان الصهيوني.
التجريد من كل ذلك معناه السعي إلى تغير النظام العالمي الذي وجد في القرن الماضي، واستمر بمنهجية تجعل من الغرب ودوله المتحكم الرئيسي في تقرير مصير الشعوب، وحتى بالشكل الذي تروج به صور كل شعب، ووفقًا للمصلحة الغربية.
المواجهة القادمة، ستصبح بين شعوب الدول العربية، وأنظمتها، ستضغط الشعوب على قادتهم لاتخاذ قرارات تحمي مصالحهم داخل دولهم، وهو ما قد يكون التداعي الأخطر لكل ما يحدث في غزة.
ولم تتردد الولايات المتحدة في استخدام حق الفيتو، لمنع اتخاذ أي قرار من مجلس الأمن حول العدوان الحالي، ومن بين آخر 11 استخدام للفيتو كان 10 من بينهم أمريكي ولصالح إسرائيل، وجاء الفيتو الأخير ضد طلب روسي إماراتي مشترك عقب ضرب المستشفى الأهلي العربي (المعمداني).
مع العلم بأن مرافق الرعاية الصحية تصنف ضمن الأعيان المدنية، التي تتمتع بتدابير حماية خاصة بموجب قوانين الحرب. تبقى إسرائيل دائمًا مصرة على ألا تلتزم بأية قوانين، حتى في مبرراتها حول أنها عمليات انتقامية؛ فلا تسمح القوانين بتجاوز القانون الدولي حتى تحت مبرر العمل الانتقامي.
ولهذا فإن قضية فلسطين تمثل امتحانا وتحديًا صعبًا، لكل من الغرب المستعمر بمسمياته الجديدة ومقاومته لأي شكل من أشكال المقاومة لتحرير أرض فلسطين، ومن قرر التطبيع مع الكيان الصهيوني، لأن في ذلك شكلاً من أشكال الحماية الواهمة، لأن القصد هو التوغل في اختراق المجتمعات المحلية، من أجل تنفيذ أجندات طويلة المدى لتغيير المفاهيم، وتقبل الكيان على أنه صديق لا عدو، كما في المناهج الدراسية لدى الدول الداعمة اليوم.
دروس فلسطين كثيرة، لكن الأهم هو كيف للغرب أن يفوز في معركة خاسرة مع المقاومة الفلسطينية المتمثلة في حماس، التي يراها الغرب وداعموه من حولنا مقاومة إرهابية، إلا أن هذه المقاومة التي وضعت تحت الحصار 17 عامًا، وعلى الرغم من كل ما قيل عنها، وتشويهها المتعمد إعلاميًا، تهز أركان الكيان الصهيوني، وربما تكون خطوة في تشكيل مفهوم جديد حيال النظام العالمي، الذي آن له أن يتغير، بعدما تسبب في كل هذه الكوارث بمحاباة إسرائيل.
خاصة أن المواجهة القادمة، ستصبح بين شعوب الدول العربية، وأنظمتها، ستضغط الشعوب على قادتهم لاتخاذ قرارات تحمي مصالحهم داخل دولهم، وهو ما قد يكون التداعي الأخطر لكل ما يحدث في غزة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
التعليقات 1