بعد مرور 18 عامًا على وضع خطة حكومية لعلاج أزمة البطالة، أو بشكل أشمل لإصلاح سوق العمل، استحقت وصفها بالممتازة؛ لما بُنيت عليه من دراسات ومسوحات واستلهام لتجارب دولية، بمساعدة شركة “ماكنزي” الأمريكية، لماذا لا تزال أزمة البطالة تشغل بال المواطن البحريني؟
تلك الخطة عُرفت باسم “مشروع إصلاح سوق العمل” لعام 2006، والتي بُنيت على دراسة مسحية شاملة لسوق العمل، وفرت للمخطط بيانات شاملة في خطوة تستحق الإشادة، لكن الخطة التي كان من المفترض تطبيقها في العام 2009، لم ترَ النور بعد. واليوم بعد مرور تلك الأعوام ما يزال السجال الشعبي الحكومي على حاله؛ شكاوى شعبية من البطالة ومن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وتصريحات رسمية عن إنجازات علاج المشكلة.
أزمة البطالة
توفر لغة الأرقام توضيحًا لمشكلة البطالة وقضية البحرنة، والبداية مع نسب البطالة في البحرين، والتي لا تلقى البيانات الرسمية فيها مصداقية كبيرة من المواطنين.
بحسب تصريحات وزير العمل؛ فمن المتوقع أنّ تسجل نسبة البطالة 4.4% في العام الجاري 2023، مقارنةً بنسبة 6.6% قبل عامين، وهي بيانات صدرت عن صندوق النقد الدولي ودعمتها الحكومة. مقابل ذلك صرح نائب رئيس الاتحاد الحر لنقابات عامل البحرين “باسم سيادي“، بأنّ نسبة البطالة تتراوح ما بين 6% إلى 10%، مبررًا بأنّ “المعدلات تحتاج لتقييم منتظم ومستمر، ولا يعتمد فقط على البيانات الرسمية المتاحة حول عدد العاطلين عن العمل المسجلين لدى وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.”
أما عن عدد العمالة المحلية والوافدة؛ فجاء في تقرير هيئة تنظيم سوق العمل حول الربع الثاني من عام 2023 ما يلي:
بلغ عدد العمالة غير البحرينية 609 ألف عمال تقريبًا، بزيادة 8.1% عن العام السابق، حين قُدرت تلك العمالة بنحو 563.332 ألف عامل. بينما بلغ عدد العمالة البحرينية نحو 161,101 عامل بحريني بانخفاض سنوي قدره -0.2% بالمقارنة مع 161,430 عاملاً في الربع الثاني من العام 2022.
وفقًا لذلك تمثّل العمالة الوطنية نسبة 21% من سوق العمل، مقابل 79% للعمالة الوافدة تقريبًا. أمام تلك النسب يشعر البحريني بخذلان الحكومة في توفير فرص العمل والتساهل في حصول الأجانب عليها. يعتبر السبب الأول في ذلك، هو تدني رواتب العمالة الوافدة مقارنة بالوطنية، بحسب تقرير هيئة تنظيم سوق العمل للربع الثاني من 2023؛ فقد “بلغت فجوة تكلفة العمل بين العمالة الأجنبية والوطنية في القطاعات المستهدفة (المقاولات، التجارة، الفنادق والمطاعم، وقطاع الصناعات الصغيرة) 336 دينارًا بحرينيًا في الربع الثاني من العام 2023، بارتفاع قدره 18 دينارًا عن الفترة المماثلة من 2022.
يقول النائب السابق في مجلس النواب البحريني (2018-2022) والناشط في القضايا النقابية والعمالية، “سيد فلاح هاشم فلاح”، بأنّ مسؤولية تفشي البطالة بين البحرينيين تقع على عاتق الحكومة والنواب ومجتمع رجال الأعمال؛ فضلًا عن التحديات التي تواجه الباحثين عن العمل من التطور الوظيفي والمهني.
وأضاف لـ”مواطن” بأنّ النهج الاقتصادي الاجتماعي للحكومة القائم على الخصخصة زاد من البطالة الوطنية، بما في ذلك من خصخصة القطاع العام وإعادة هيكلة الشركات الحكومية، وتحويل أعمالها إلى القطاع الخاص دون أية ضوابط، مع فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص لاستخدام وتشغيل عمالة أجنبية رخيصة بالدرجة الأولى. وأشار إلى أنّ القطاع العام والشركات الحكومية هي التي توفر فرص العمل أمام المواطنين، بجانب قطاعي المال والبناء، ولهذا مع الخصخصة بما يتبعها من إحلال الوافدين الأرخص أجرًا بدل العمالة الوطنية، تتفاقم مشكلة البطالة.
وذكر البرلماني السابق بأنّ نهج الخصخصة في تزايد، وشمل الشركات والخدمات العامة والأعمال الحكومية بإسنادها إلى القطاع الخاص، بجانب طرح برنامج التقاعد المبكر الاختياري، الذي أدى لإلغاء 9 آلاف وظيفة وطنية في القطاع العام في 2019، ووصف ذلك بأنّه “انسحاب الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية والدستورية بكفالة العمل للمواطنين عبر العمل في القطاع العام والشركات الحكومية.”
هيكل الوظائف
وبحسب تصريح لوزير العمل والتنمية الاجتماعية، عن الربع الأول من العام 2022؛ بلغ عدد العمالة الوطنية في القطاع العام 49,093 موظفًا بنمو نسبته 2.3%، بينما بلغ عددهم في القطاع الخاص 110,607، وذلك بزيادة بلغت 4.6%. بينما بلغت نسبة العمالة الوافدة في القطاع العام بحسب تصريحات جهاز الخدمة المدنية في عام 2021 نحو 7200 موظف، بنسبة 14% من إجمالي موظفي القطاع الحكومي، يعمل منهم 6 آلاف في وزارتي الصحة والتربية والتعليم، بما يشكل 83% من إجمالي الأجانب في القطاع الحكومي. ووفق الجهاز “اضطرت الحكومة لتوظيف 1200 موظف غير بحريني لعدم وجود بحرينيين يتولون بعض الوظائف لتغطية النقص الناتج عن جائحة كورونا.”
خلاصة العرض السابق هو أنّ القطاع الحكومي البالغ عدد موظفيه نحو 52 ألف موظف تقريبًا في عام 2021، (لم يُتحصل على بيانات عن الشركات الحكومية) لن يكون قادرًا على توفير الوظائف للمواطنين، ولهذا فالتعويل على القطاع الخاص الذي يشكل نسبة 82% من حجم الاقتصاد وفق تصريحات وزير الصناعة والتجارة في عام 2022، ونسبة تشغيل 70% من القوى العاملة.
يقول الكاتب والروائي البحريني جعفر سلمان، بأنّ البحرين تختلف قليلًا عن دول الخليج، لأنّ المواطن يعمل في كافة المجالات، بما فيها البناء والطرق والإنشاءات وخدمات النظافة والزراعة وغير ذلك، ولهذا فمشكلة البطالة لا تتعلق بالعزوف عن وظائف معينة.
من المتوقع أنّ تسجل نسبة البطالة 4.4% في العام الجاري 2023، مقارنةً بنسبة 7.7% قبل عامين
وأضاف لـ”مواطن” بأنّه حتى بداية الثمانينات لم يكن هناك عددٌ يذكر من العمالة الوافدة، وبدأت الطفرة بسبب العمالة القادمة من شبه الجزيرة الهندية وإفريقيا بعد ذلك، ولأنّها رخيصة؛ باتت مغرية لأصحاب رؤوس الأموال، الذين استبدلوا العامل البحريني البسيط بها. ولفت إلى أنّ العمالة الرخيصة تتقاضى رواتب وتعمل في ظروف عمل لن يقبل بها المواطن؛ فضلًا عن أنّ تلك العمالة تمكنت من وظائف معينة على مدار عقود، وباتت تحتكرها.
ولخصوصية البحرين من حيث التركيبة السكانية، التي تضم مواطنين سُنّة ونسبة أكبر من الشيعة، يظهر تساؤل حول وجود تمييز في التوظيف نتيجة لذلك. بحسب تقرير لجمعية الوفاق عام 2015؛ هناك تمييز ضد المواطنين الشيعة خصوصًا في التربية والتعليم؛ فضلًا عن تقارير عديدة في هذا السياق، بينما هناك تقرير غربي نشرته صحيفة “الوطن” عام 2013، خلص إلى وجود تمييز ضد المواطنين السنّة في القطاع الخاص ومحاباة للمواطنين الشيعة.
يقول الكاتب والروائي جعفر سلمان، وهو مواطن شيعي، بأنّه لا يوجد تمييز ضد المواطنين الشيعة إذا ما حسبنا الأمر باعتباره سياسة حكومية؛ أما إذا تكلمنا عن ممارسة فعلية على الأرض فهناك محسوبيات. وأضاف لـ”مواطن” بأنّ السبب فيما يبدو كتمييز، هو أنّه تاريخيًا كان التوظيف الأكبر لأبناء السنّة في الحكومة، بينما المواطنون الشيعة اتجهوا أكثر نحو القطاع الخاصة، ولهذا فكل مجموعة تعزز مكانتها وتوظف أبناء طائفتها، ولهذا التمييز موجود على هذا المستوى بسبب المحسوبيات.
البحرنة كعلاج للبطالة
وعلى رأس الجهود الحكومية لتوفير فرص العمل للعمالة الوطنية خطة بحرنة الوظائف في القطاعين العام والخاص، من خلال وسائل متعددة. في القطاع العام والحكومة تحققت نسب بحرنة مرتفعة بحسب وزارة العمل التي قدرت نسبة البحرنة بما يزيد عن 80% في أغلب الشركات الحكومية بتاريخ مايو 2023.
بينما لا تملك الحكومة الكثير لتطبيق البحرنة في القطاع الخاص، ولهذا عملت على وضع خطة تقوم على فرض رسوم على تصاريح العمالة الوافدة في الشركات التي لم تحقق نسبة البحرنة، وتقديم برامج لتطوير وتأهيل العمالة الوطنية؛ مثل خدمة التدريب على رأس العمل (فرص)، وتقديم حوافز للقطاع الخاص للالتزام بنسب البحرنة، ودعم نمو القطاع الخاص في توليد فرص العمل، وربط التقديم على المناقصات الحكومية باستيفاء نسبة البحرنة.
وتتفاوت نسب البحرنة الإلزامية من قطاع اقتصادي لآخر، وحال عدم التزام المنشآت بالنسبة المقررة يتمّ فرض 500 دينار بحريني على كل تصريح عمل يصدر أو يجدد لمدة سنتين خارج نسبة البحرنة المقررة، ولا يسري هذا الرسم الإضافي على من التزم بنسبة البحرنة المقررة، ويُعرف ذلك باسم نظام “النظام الموازي للبحرنة“.
تُحسب نسبة البحرنة وفق عاملين؛ طبيعة النشاط الاقتصادي، وحجم العمالة في المؤسسة، وتبلغ أعلى نسبة بحرنة مقررة في قطاع تعليم قيادة السيارات، وهي 90%، يليه قطاع التعليم في رياض الأطفال 60%، والتعليم الابتدائي والإعدادي 60%. بينما تصل أقل نسبة بحرنة في المنشآت التي يزيد حجم العمالة فيها عن 10 أفراد إلى 5% في قطاعات مثل الزراعة والبناء والتشييد وغير ذلك، وفي العديد من القطاعات لا تُفرض نسبة بحرنة على المنشآت التي تبلغ حجم العمالة فيها ما بين (6-9) أفراد، ولا يوجد بحرنة مقررة على الأعمال التي توظف أقل من 6 أفراد، وذلك وفق جدول نسب البحرنة المقررة المنشور في موقع هيئة تنظيم سوق العمل.
تقدم تلك النسب ملمحًا لقصور علاج أزمة البطالة الوطنية بفرض نسب بحرنة؛ حيث بإمكان العمالة الوافدة الاستحواذ على حصة كبيرة من الأعمال متناهية الصغر، دون الحاجة لتوظيف عمالة وطنية، وكانت تقارير صحفية قد أشارت إلى قضية تأجير السجلات التجارية للوافدين.
يقول الكاتب والروائي جعفر سلمان، بأنّ فرض رسوم على تصاريح العمل خارج النسبة المقررة للبحرنة لا يجدي في حث القطاع الخاص على توظيف المواطنين، لأنّ صاحب العمل المُلزم بدفع 450 دينارًا كحد أدنى للعامل البحريني سيوفر أضعاف الرسوم المحددة بـ 500 دينار، حين يوظف عاملاً أجنبيًا ويمنحه راتبًا يُقدر بـ 250 دينارًا أو أقل.
الحد الأدنى للأجور: حلّ أم تأزيم؟
لمواجهة ذلك يلقى مقترح تطبيق حد أدنى للأجور قبولًا شعبيًا واسعًا، يرى البرلماني السابق سيد فلاح هاشم فلاح، بأنّ تحديد حدّ أدنى للأجور يجب أن يكون لكل العاملين؛ ليس لأنّه سيؤمن عدالة شروط العمل للجميع، مما يوحد شروط المنافسة بين العمالة الوطنية والوافدة فقط؛ بل يساهم أيضًا في حماية العمّال ذوي الأجور المنخفضة وفي تدارك تراجع قوتهم الشرائية الذي يهدّد بدوره الطلب المحلي والانتعاش الاقتصادي.
وأضاف “فلاح” بأنّ إقرار الحد الأدنى سيساهم في معالجة القصور في تشريعات العمل في القطاع الخاص بخصوص الزيادات السنوية، مطالبًا بوجود مراجعة دورية لهذا الحد وفق ارتفاع تكلفة المعيشة وزيادة إنتاجية العمل.
كانت الحكومة قد ألغت ما يشير إلى وجود حدّ أدنى للأجور في قانون العمل في القطاع الأهلي رقم (36) لعام 2012 للبحرينيين، وعللت وزارة العمل وفق تصريحات رسمية “ تطبيق الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون على العامل البحريني والأجنبي على حد سواء؛ ما يؤدي إلى مردودات سلبية على نسب البحرنة، علاوةً على تأثيره الجوهري على الاقتصاد الوطني، والإشكاليات التي تفرزها في القطاع الخاص حين تتم مساواة العامل البحريني بالأجنبي.”
وبالنسبة لمجتمع الأعمال؛ فتحديد حدّ أدنى للأجور يتساوى فيه المواطن والوافد سيرفع من تكلفة الأعمال في المملكة، ويفقد سوقها الجاذبة أمام الاستثمارات الخارجية. جاء في موقع هيئة تنظيم سوق العمل: “إذا فرضت البحرين حدًا أدنى قياسي للأجور لكل من البحرينيين والوافدين؛ فإن 80% من إيرادات زيادة الأجور سيتحقق للعمالة الوافدة وحدها. أما وضع حد أدنى تفاضلي للأجور -أي حد أدنى للبحرينيين وآخر أقل قيمة للوافدين-؛ فمن شأنه أن يرسخ فوارق التكلفة بين البحرينيين والعمالة الوافدة، بما يزيد من ضعف قدرة البحرينيين منخفضي المهارات على التنافس مع العمالة الوافدة على وظائف القطاع الخاص.”
وتابعت الهيئة “نتيجة لذلك، ستزداد أهمية دور أهداف سياسة البحرنة في ضمان توظيف البحرينيين، لكن تطبيقها سيزداد صعوبة أيضًا، ومعدلات البطالة في صفوف البحرينيين لن تتحسن.”
ترى الحكومة أنّ سياساتها تجاه سوق العمل التي بدأت منذ العام 2003، مع عقد ورشة العمل الأولى لإصلاح نظام السوق برئاسة ولي العهد سلمان بن حمد آل خليفة، وخلصت إلى خططٍ دخل بعضها حيز النفاذ في 2006، حققت أهدافها، وهي: خفض نسبة البطالة من نحو 16% في العام 2005، إلى حدود 4% خلال السنوات العشر الماضية (2010-2020). شملت تلك السياسات عدة إجراءات، منها؛ تأسيس هيئة تنظيم سوق العمل وصندوق العمل (تمكين)، ووضع سياسات تدريب العمالة الوطنية، وتأسيس النظام الموازي للبحرنة عام 2016، وغير ذلك من سياسات منها؛ إعداد وزارة العمل لـ”الخطة الوطنية لسوق العمل” كل أربعة أعوام، منذ تكليفها بذلك بعد تعديلات قانونية.
يوثق كتاب “قصة الإصلاح” مجمل السياسات الحكومية لمواجهة أزمة البطالة التي قُدرت بـ 16% عام 2005، وكانت في طريقها إلى 21% في عام 2013، وفق دراسات شركة “ماكنزي” التي استعانت بها الحكومة لوضع خطة لإصلاح سوق العمل. يقتضي الإنصاف القول بأنّ الحكومة نجحت في تحقيق جزء كبير من الأهداف منذ إنشاء هيئة تنظيم سوق العمل عام 2006، كتطبيق لسياسات إصلاح الهيكل الحكومي تبعًا لتوصيات شركة ماكنزي.
الحلّ السنغافوري
من جانب آخر؛ لم تأخذ الحكومة بكامل الخطة التي صاغتها بالتعاون مع شركة ماكنزي. وبدأ العمل على الخطة المسماة بـ” مشروع إصلاح سوق العمل” في العام 2003، بتكليف شركة “ماكنزي” بدراسة مشكلات سوق العمل في البحرين، وكترجمة لتوصيات الشركة أُنشئت هيئة تنظيم سوق العمل في 2006، ووضعت خطة كان المفترض تطبيقها عام 2009، بعد فترة انتقالية لمدة ثلاثة أعوام.
قامت خطة الإصلاح لتحقيق هدفين؛ الأول: تحويل القطاع الخاص إلى محرك أساسي للنمو الاقتصادي، والثاني: تمكين المواطنين من التنافس على الوظائف في القطاع الخاص، وجعلهم الخيار المفضل للشركات. ولتحقيق ذلك تضمنت الخطة ثلاثة محاور للإصلاح؛ إصلاح سوق العمل، الإصلاح الاقتصادي، وإصلاح التعليم والتدريب.
بحسب دراسة ماكنزي؛ فإنّ المشاكل التي تواجه بحرنة الوظائف هي:
- أولًا: العمالة الوافدة منخفضة التكاليف بنسبة 56% مقارنة بالعامل الوطني، ويرجع ذلك الانخفاض لظروف عمل تلك العمالة التي تصل إلى حد الاستغلال.
- ثانيًا: أنّ الأنظمة التي تنظم سوق العمل “لا تحفز البحرينيين ولا تدفعهم إلى التحلي بروح العمل الجاد والأداء دائم التحسن، وهي مزايا هم قادرون عليها من ناحية، كما أنها خلاصة ما يطلبه أرباب العمل من عامليهم من ناحية أخرى”.
أما عن تقييم ماكنزي لنظام البحرنة القديم، الذي ألزم أصحاب الأعمال بتوظيف نسبة من العمالة الوطنية، قالت: “يُجبر أرباب العمل على توظيف أفراد لا يريدونهم أو لا يحتاجون إليهم، وبذلك يختلق أرباب العمل وظائف جديدة على الورق فقط، وصاروا يعتبرون البحرنة مجرد كلفة إضافية للعمل التجاري”؛ فضلًا عن أنّ الشركة رأت أن ذلك النظام يجبر الحكومة على التدخل في تفاصيل العمل اليومية لأرباب العمل بما يعيق الأعمال، وأنّ البديل خلق إطارًا تنظيميًا يحقق لهم أقصى استغلال للفرص المتاحة. وخلقت الحكومة بديلاً لذلك النظام عام 2016، وهو النظام الموازي للبحرنة، الذي حرر أرباب العمل من توظيف المواطنين مقابل دفع رسوم، وهو حلّ لم يرد في خطة ماكنزي، ويعتبر قرارًا يصب في صالح أرباب العمل فقط.
انتقالًا إلى أهم عامل في تفضيل أرباب العمل للوافدين على المواطنين، وهو التكلفة الاقتصادية، اقترحت شركة ماكنزي حلًا يتضمن:
- أولًا: فرض نظام لرسوم العمل على العمالة الوافدة شهرية، وأخرى مقتطعة عند تجديد أو استخراج التصاريح، ووضع سقف للعمالة الوافدة لزيادة تكلفتها.
- ثانيًا: دعم توظيف البحرينيين من خلال تقديم حوافز للتوظيف، وتوفير برامج الإعداد للعمل.
- ثالثًا: حرية انتقال العمال الوافدين التي تقلل من ارتباط العامل بصاحب العمل الذي استقدمه، وبالتالي تجعل رب العمل مُجبرًا على تحسين بيئة العمل لضمان بقاء العامل الوافد، بما يؤدي لزيادة تنافسية العمالة الوطنية في ظل تلك الشروط.
- رابعًا: رفع معايير العمل بما يؤدي إلى تحسين بيئة العمل للوافد، بما يرفع تكلفته ويجعل المواطن أكثر جاذبية في التوظيف.
- خامسًا: إلغاء نسب البحرنة، ورأت شركة ماكنزي أنّ ذلك سيحقق التالي: مساعدة البحرينيين على التنافس وتحسين أدائهم، واستئصال أنشطة السوق السوداء؛ مثل التوظيف الوهمي والشركات الوهمية، ومنح مرونة للأعمال.
- سادسًا: تطبيق إجراءات واضحة وثابتة لإنهاء الخدمة لجميع العاملين، لجعل توظيف المواطن لا يمثل عبئًا على رب العمل، وفي الوقت نفسه يحفز العمالة الوطنية على التطور والتنافس والمرونة.
17 عامًا مع وقف التنفيذ
اليوم بعد مضي نحو 17 عامًا على إنشاء هيئة تنظيم سوق العمل، والبدء في تنفيذ خطة إصلاح سوق العمل التي وضعتها شركة ماكنزي، ما تزال قضية البطالة تؤرق المجتمع؛ خصوصًا بين فئة خريجي التعليم الجامعي، حين كانت الحكومة تُروج لخطة الإصلاح قدمت نموذج دولة “سنغافورة” كمثال على تطبيق إصلاحات مشابهة في واقع كان مشابهًا، لكن شتان بين التزام حكومة سنغافورة والتزام حكومة البحرين.
كان المفترض أنّه بحلول العام 2010 ستكون الإصلاحات المطلوبة طُبقت بشكلٍ كامل، ومنها فرض رسوم العمل الشهرية على العمالة الوافدة، مع إلغاء نسبة البحرنة. لكن حتى اليوم في عام 2023 لم تُطبق الإصلاحات التي أقرتها الحكومة سابقًا، ومن ذلك؛ عدم رفع رسوم تصاريح العمل للعمالة الوافدة، وعدم تطبيق رسوم العمل الشهرية، وعدم وضع سقف على العمالة الوافدة، فضلًا عن أنّ عدم تطبيق الخطة نتج عنه استمرار نفوذ أرباب العمل على حرية انتقال العمالة الوافدة لوظائف أخرى، ما يعني استمرار جاذبية تلك العمالة مقابل العمالة الوطنية.
فيما عدا الشركات ذات رأس المال الحكومي وقطاع الخدمات المالية؛ فإنّ معظم الشركات ومؤسسات القطاع الخاص يغلب عليها الاعتماد على العمالة الوافدة، طمعًا في رخص تكلفتها، وبالتالي الحصول على أرباح أكبر.
يمكن القول بأنّ سبب تراجع الحكومة عن تطبيق خطة شركة ماكنزي يعود إلى الاستجابة لضغوط رجال الأعمال، وكانت غرفة تجارة وصناعة البحرين قد اعترضت عام 2004 على مقترحات ماكنزي برفع رسوم إصدار أو تجديد ترخيص العمل لمدة عامين للوافد إلى 600 دينار، وكذلك على الرسوم الشهرية المقدرة بنحو 75 دينارًا شهريًا، وهو ما استجابت له الحكومة. وربما يعود سبب قبول الحكومة لهذه الضغوط إلى السياق الذي كُلفت فيه شركة ماكنزي بالمهمة؛ كان ذلك في العام 2003 بعد عامين فقط من مرحلة تصالح شعبية مع السلطة بعد الاستفتاء الناجح على “ميثاق العمل الوطني“. لكن هذا التصالح بدأ في التعطل عام 2007 الذي شهد اضطرابات سياسية بين السلطة والمعارضة. من جانب آخر، لم تلق خطة ماكنزي رضا النقابات؛ سواء بسبب دعمها للقطاع الخاص ليكون المحرك الأساسي للنمو، أو بسبب أنّ الحكومة ذاتها لم تكن جادة في الالتزام بالخطة كاملةً.
لا حلّ في الأفق
يحدد البرلماني السابق سيد فلاح هاشم أطراف المشكلة بقوله: “مسؤولية أعضاء السلطة التشريعية يمكن تلخيصها في محاباتهم للسلطة التنفيذية؛ بالموافقة على خططها ومشاريعها التي لها عواقب سلبية في موضوع البحرنة، ومنها الاعتماد على القطاع الخاص في خلق التنمية والتوظيف، وهو ما لم يحدث، وخصخصة الأعمال الحكومية؛ فضلًا عن التخاذل في الدور الرقابي على عمل الحكومية في هذا الشأن.”
وأضاف عن دور مجتمع رجال الأعمال، بأنّه فيما عدا الشركات ذات رأس المال الحكومي وقطاع الخدمات المالية؛ فإنّ معظم الشركات ومؤسسات القطاع الخاص يغلب عليها الاعتماد على العمالة الوافدة، طمعًا في رخص تكلفتها، وبالتالي الحصول على أرباح أكبر، غير آبهين بأي مسؤولية مجتمعية، تذرعًا بعدم قبول البحرينيين العمل في بعض الأعمال، أو عدم ملاءمة التعليم لمتطلبات سوق العمل، وهذا كلامُ حقٍ يراد به باطل.
بدوره يُحمل الكاتب جعفر سلمان مجلس النواب مسؤولية كبيرة عن الأزمة، ويقول بأنّ “لن يأتي الحلّ من الحكومة؛ بل من مجلس النواب من خلال تشريعات ممكنة التنفيذ، نظرًا لأنّ حجم الوظائف المطلوبة بسيطة مقارنًة بالوظائف المتاحة، وإذا لم يستطيعوا فليضعوا الشعب في الصورة، ويختار الناخبون من يستطيع تحقيق مطالبهم”. وإلى جانب ذلك يرى سلمان بأنّ هناك محورًا يجب العمل عليه؛ وهو تغيير ثقافة أرباب العمل تجاه توظيف العمالة الوطنية.
أما فيما يتعلق بالدور التشريعي؛ فإنّ النظام البرلماني في البحرين يعتبر عائقًا أمام أي دور للنواب في مواجهة هذه المشكلة، بسبب أنّ مجلس الشورى المُعين له صلاحية رفض قوانين مجلس النواب المُنتخب طبقًا للمادة 82 من الدستور، كما حدث مع مشروع قرار نيابي بقصر وظائف معينة على البحرينيين حين رفضته لجنة الخدمات في مجلس الشورى في 2021.
خلاصة
عد العرض السابق، يمكن تحديد القضية في عدة نقاط:
- أولها: أنّ الحكومة استبدلت خطة إصلاح سوق العمل المبنية على دراسات مسحية شاملة، ولها أهداف مستدامة وعلاجات شاملة لأزمة تؤرق دول الخليج العربي كافةً، بخطط قصيرة المدى، تحقق بعض النجاحات، لكنها لا تعالج المشكلة من الجذور.
- ثانيًا: تبدو الحلول المطروحة لعلاج أزمة البطالة من النواب والقادة النقابيين وجزء من الرأي العام مفتقرة إلى دراسات اقتصادية لآثار التدخل في سوق العمل، وعلى سبيل المثال مشروع القرار السابق بقصر وظائف معينة على المواطنين، دون إدراك تأثير قرار كهذا على التنافسية والكفاءة، وربما ارتفاع تكلفة الخدمة حال فقدان التنافسية، ومثال آخر لمقترح في مجلس النواب لتشريع قانون بفرض ضريبة 2% على التحويلات الأجنبية خارج البحرين، وقُدم مرتين في 2018 و2023، ورفضته وزارة العمل والمصرف المركزي. وعلل المصرف المركزي رفضه للمقترح بأنّه: “سيؤدي إلى خلق قنوات غير شرعية لتحويل تلك الأموال”؛ فضلًا عن أسباب وجيهة قدمتها الوزارة والمصرف لبيان عدم مناسبة ذلك المقترح، بما في ذلك العوار التشريعي وعدم الدستورية، وذلك مثال على عدم وجود قدرة لدى النواب على طرح حلول متكاملة للمشكلة.
- ثالثًا: هناك محاباة حكومية للقطاع الخاص بدعوى تمكينه لقيادة النمو؛ إذ إنه خلال الإصلاحات على مدار عقدين لتحقيق ذلك، افتقدت الحكومة البوصلة التي كان اتجاهها الأساسي التوظيف.
- رابعًا: هناك حاجة اقتصادية لتعزيز العمالة الوطنية بهدف تقليل نسبة التحويلات الأجنبية للخارج، والتي بلغت 3.2 مليار دولار في العام 2018، بحوالي 13.8% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 44.39 مليار دولار؛ حيث إنه كلما انخفضت تلك الحصة كلما استفاد الاقتصاد المحلي من إنفاقها داخل البلد، مع العلم أنّ جزءً من تلك التحويلات هي تحويلات أرباح الاستثمار الأجنبي.
ختامًا.. فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية يجب أنّ يكون التدخل الحكومي مبنيا على أسس اقتصادية سليمة، حتى لا يتسبب في نتائج عكسية تفاقم المشكلة المراد حلها، ويتأتى ذلك بألا يميل إلى صالح طرف على حساب آخر؛ بل الموازنة بين متطلبات السوق وحقوق العمال، علمًا أنّ تحقيق الرضا الشعبي التامّ عن سوق العمل أمر غير واقعي في أي دولة.