لم يختلف شهر أكتوبر سنة 1973 عن سنة 2023، بعد مرور خمسين عامًا على الحرب بين مصر وإسرائيل، جاءت عملية طوفان الأقصى على نفس الهيئة ونمط المفاجأة، وتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو يظهر فيه علاء قدوح، وهو ممثل فلسطيني ساخر، يشير فيه إلى أن مصر أفقدت إسرائيل توازنها في 6 أيام، بينما أفقدتها “حماس” التوازن في 6 ساعات. كما انتشر حديث المحلل السياسي الإسرائيلي بن كاسبيت، عن أن “حماس” أذلت إسرائيل أكثر مما فعلت حرب 73.
تاريخ يعيد نفسه
ومع الذكرى الخمسين لهذه الحرب صدر فيلم Golda، الذي يدور حول شخصية جولدا مائير، رئيسة وزراء للحكومة الإسرائيلية ما بين 1969 حتى 1974، وهي المرأة الأولى والوحيدة التي شغلت هذا المنصب في تاريخ دولة الاحتلال، مصورًا للحرب وكاشفًا لأسباب الهزيمة الإسرائيلية، والتي وصفتها بـالكارثة الساحقة والكابوس، الذي ظل باقيًا معها على الدوام.
وعما إذا كان هناك تشابه بين حرب أكتوبر التي يتناولها الفيلم، وعملية طوفان الأقصى، يتفق محمد رشاد وكيل المخابرات العامة، ورئيس ملف الشؤون العسكرية الإسرائيلية، أن التشابه بين هو عنصر المفاجأة، مثلما تداول بالفعل رواد التواصل الاجتماعي.
صورت جولدا مائير كامرأة مريضة ولا تعمل جيدًا كرئيسة للوزراء، لديها مساعٍ تدميرية قصوى للذات، ولا تفارق السجائر أصابعها وشفتيها
ويؤكد لمواطن: “الاستعدادات الإسرائيلية، كما نفت احتمالية قيام حرب 73، فقد نفت أيضًا منذ أيام أن يتم هجوم من حركة “حماس” والمقاومة الفلسطينية بالهجوم عليها”. ويختم بأن “الحرب نقلت إلى إسرائيل للمرة الأولى، بعد أن كانت دائمًا تشتعل النيران في غزة”.
يدور الفيلم خلال فترة التسعة عشر يومًا من حرب أكتوبر 1973، داخل غرف حرب كئيبة ومكاتب الساسة، مع بعض الاستراحات في مشاهد تدخين السجائر على السطح، ومشاهد فضاء مفتوح تظهر الجنود.
ويركز على فشل الاستخبارات، بسبب الهجوم المصري السوري- على حين غرة، ما أدى إلى خسائر فادحة لإسرائيل، ويبدأ بمشهد افتتاحي، تجيب فيه جولدا مائير على أسئلة لجنة أجرانات، وهي لجنة أعدت للتحقيق الفشل الاستخباراتي في حرب 1973.
تلقت إسرائيل رسائل عدة بهجوم وشيك، إلا إن إلغاء إجازة التعبئة قبل يوم الغفران، سيكون بمثابة انتحار سياسي لرئيسة الحكومة، التي تعلم في قرارة نفسها أن الهجوم سيأتي في ذلك اليوم.
وأمرت مائير بتعبئة 120 ألف جندي، إلا أنها لم تهاجم تحسبًا لرد فعل المجتمع الدولي جراء ضربة استباقية، بالإضافة إلى الوعد الذي قطعته لأمريكا، والتي يصورها الفيلم على أنها لا تريد إغضاب العرب بمساعدة إسرائيل، ويخبر وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، بأن الشعب الأمريكي سيضطر إلى دفع ثمن باهظ للعدوان الإسرائيلي حال البدء بالحرب على مصر.
إلا أنه بعد الهجوم المصري السوري ووقوع الخسائر، تضغط “جولدا” على كسينجر حتى يبدأ في مساعدتها، وبعيدًا عن سبب المساعدة الأمريكية، الأمر نفسه دائم التكرار، مع البلد التي تستخدم دائمًا حق الفيتو لحماية إسرائيل من قرارات مجلس الأمن، كما أن الولايات المتحدة لم تتردد في تحريك قطع عسكرية لحدود تل أبيب جراء اشتعال الحرب الأخيرة في غزة.
وكما لا يختلف الموقف الأمريكي في مساعدة إسرائيل، لا تختلف كثيرًا شخصية جولدا مائير ونتنياهو، والتي تظهر في إحدى مشاهد الفيلم تتوعد بصناعة جيش من الأيتام والأرامل في مصر”، وكان ذلك في إشارة إلى قتل 30 ألف جندي مصري، هم قوة الجيش الثالث الميداني المحاصر في الثغرة عام 1973. ونجد الخطاب ذاته من نتنياهو، والذي يتوعد عقب عملية طوفان الأقصى، بالإبادة الجماعية لــ “حماس” ولغزة، وليس فقط جعلهم الأبناء يتامى و النساء أرامل.
وجه آخر لرئيسة وزراء إسرائيل
ولدت جولدا مائير في مايو/أيار عام 1898، بمدينة كييف، وفي 1906 هاجرت مع أفراد عائلتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعرضوا لأعمال عنف، ويشير الفيلم إلى بعض ذكريات الطفولة تلك في حياة مائير، وقد عرفت بسيدة إسرائيل الحديدية.
وبدت شخصية جولدا باردة شبحية، لم يكن حضورها الإنساني له واقع في أحداث العمل، ولم يظهر أي شيء من حياتها الشخصية، سوى أنها امرأة شرهة في التدخين، والذي يدمر حياتها ويجعلها تعاني، إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية، وهو الأمر الذي أبقت عليه سرًا وأخفته عن الجميع.
صورت كامرأة مريضة ولا تعمل جيدًا كرئيسة للوزراء، لديها مساعٍ تدميرية قصوى للذات، ولا تفارق السجائر أصابعها وشفتيها، تدخن في السرير، في غرفة معيشتها، في السيارات، في مكتبها، على السطح، وفي المستشفى، حتى وهي مستلقية قبل ثوانٍ من تلقي العلاج الإشعاعي، كانت امرأة محاطة بغبار السجائر في كل مشهد من مشاهد الفيلم.
هل ينتهي الوضع الحالي باستقالة نتنياهو، الذي تدنت شعبيته جدًا في الشارع الإسرائيلي، بعد أشهر من الحرب الحالية أيضًا؟
حاول الفيلم إبراز الجانب الاستعطافي لشخصية رئيسة الوزراء الإسرائيلية، وإثارة التعاطف معها وتصديرها في موقف الشجاعة، سيدة مريضة، وبلدها في حالة حرب. صاحب كل ذلك في الخلفية توتر يتفاقم بسبب الطقطقة المستمرة لمفاتيح الآلة الكاتبة، ومن وقت لآخر، وصرخات الجنود التي تأتي من جبهة القتال، والتي تظل عالقة في ذاكرة “مائير” بشكل لا يمحى، واستخدم الفيلم بالفعل تسجيلات صوتية أرشيفية حقيقية من خط المواجهة، تعكس صيحات الجنود وذعرهم.
وجه المظلومية والرواية الإسرائيلية
وعلى الرغم من اعتقاد مخرج الفيلم أن لرئيسة الوزراء الإسرائيلية شخصية أخرى لم يعرفها الجمهور، وأن هذا محور الفيلم، كما نفى كونه فيلمًا لتمجيد أي رواية إسرائيلية؛ بل اعتبر أن ما يعرضه هزيمة تدور في فلك حرب السقوط، التي فقد فيها الجميع نفسه، على رأسهم موشيه ديان البطل الخارق في إسرائيل -حد تعبيره-.
يرى الناقد الفني الكويتي نايف الشمري، أن الفيلم كان يسعى للتحسين من صورة إسرائيل، إلا أنه لم ينجح في ذلك؛ بل أضعف من تقديم السيرة الذاتية لرئيسة وزراء الحرب، على حساب محاولة وصف الهزيمة بأنها خداع وتخاذل داخلي، وإثبات أن “مائير” شخصية ذكية وما إلى ذلك؛ فضاع بين الجانبين، ولم يصل إلى تجسيد حقيقي لسيرتها الذاتية، ولم يُبيض من صورة إسرائيل في الحرب.
ويتفق الناقد الفني، اليمني رياض حمادي مع الشمري، ويضيف، أن الفيلم متوسط من الناحية الفنية؛ ويرجع السبب إلى ضعف الإنتاج، ويستطرد: “لولا ارتباط الفيلم بموضوع يمسنا كعرب، لم يكن الفيلم ليجذب نظر المشاهد العربي كثيرًا. تقييمه المتوسط على موقع قاعدة بيانات الأفلام (IMDB) وعلى موقع Rotten Tomatoes يدل أيضًا على أنه لم يجذب جمهورًا واسعًا.
ويذكر الشمري، أن الجمع بين أحداث تاريخية مر عليها عشرات الأعوام، وقضية يتجدد نزيفها اليوم تلو الآخر، تشعرنا أن التاريخ يحاصرنا من جميع الجهات، وأن قراءة التاريخ، هي ما يصنع الحاضر والمستقبل، ويختم بأن الأعمال الفنية لا تمحو تاريخًا دمويًا شهدت عليه أجيال.
ويوضح حمادي أن “توقيت عرض “جولدا” لا يخلو من رغبة في تعكير الاحتفال المصري والعربي بانتصار أكتوبر، هذه رسالة أولى يتلوها رسائل أخرى للعالم، تتمثل في تذكيره بمظلومية اليهود وبأحقيتهم، وبالتالي بدولة محمية بقوة السلاح والبطش”.
ويشير إلى أن فلسطين غائبة عن الخارطة، كما يُظهر الفيلم في مقدمته الوثائقية التي تُظهر فقط اسم “إسرائيل” وأورشليم، كما أن فلسطين غائبة أيضًا عن سياق الصراع الذي يدور على الأرض بين “اليهود” وبين “أعدائهم” العرب، وأن الهدف من هذا التضليل، هو تأكيد عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
ويختم، “اهتمامهم في مجال السينما والدراما، يذكرنا باهمالنا في إنتاج أعمال عربية مماثلة تظهر الحقائق التي تشوهها آلة الدعاية الصهيونية، كما يذكرنا بجوانب تتعلق بغياب الواقعية السياسية والجري وراء أوهام تحرير الأرض، ثم وراء أكاذيب السلام تاليًا، كما يذكرنا بغياب الديمقراطية وحقنا في معرفة الحقيقة؛ وإلا فنحن شركاء في هذا التضليل، بإخفاء المعلومات التي يمكن التعلم منها حتى لو كانت مُرة”.
ربما تحد القيود المفروضة في بلادنا العربية من حرية الإبداع؛ إذ يجب تناول التاريخ الحديث وشخصياته وفق محاذير، ورؤى محددة، مع غياب شبه تام لحرية النقد الحر والخيال، أو كشف المعلومات من خلال الوثائق الرسمية بشكل حر، على عكس فيلم “جولدا” والذي يعتمد بالأساس على وثائق إسرائيلية، كما صور المخرج شخصية رئيسة الوزراء الإسرائيلية وفق رؤيته الإبداعية، حتى وإن لم تكن جيدة بما يكفي فنيا، أو كنا نختلف معها.
هل يسير نتنياهو على خطوات جولدا مائير؟
بعيدًا عن مقارنات الحرية والإبداع بين هنا وهناك، لم تختلف لحظة بداية الفيلم الذي يصور أحداثًا مر عليها خمسون عامًا تصدرتها حالة الغطرسة الإسرائيلية، والتي تسببت في خسائر الضربة المصرية، عن اللحظة الحالية، والتي سبقت عملية طوفان الأقصى من المقاومة الفلسطينية.
ولم يختلف العنوان الرئيسي لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية سوى في كتابة “نكبة أكتوبر 2023” بدلاً من 1973 في استدعاء إخفاق إسرائيل في توقع الهجوم المصري- السوري، والذي أدى إلى استقالة جولدا مائير بعد أشهر من انتهاء الحرب. فهل ينتهي الوضع الحالي باستقالة نتنياهو، الذي تدنت شعبيته جدًا في الشارع الإسرائيلي، بعد أشهر من الحرب الحالية أيضًا؟