تقع دول مجلس التعاون الخليجي في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافًا، وتتشابه الظروف الطبيعية والمناخية للدول الست؛ حيث تتسم البيئة الصحراوية للمنطقة بانخفاض وعدم انتظام في هطول الأمطار، إضافة لمعدلات تبخر عالية، مما يجعل الظروف غير مواتية لوجود نظام دائم للمياه السطحية من الأنهار والبحيرات العذبة.
كما تشهد نموًا سكانيًا غير مسبوق، وتطورًا متسارعًا منذ الخمسينات، وارتبط هذا النمو بزيادة كبيرة في الطلب على المياه، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة الضغط على موارد المياه المتجددة المحدودة في المنطقة، وجعل نصيب الفرد من موارد المياه العذبة المتجددة يهبط لأقل المستويات العالمية.
ويُقدر نصيب الفرد من المياه في دول المجلس بأقل من 100 متر مكعب في العام، وعلى سبيل المثال تُصنف السعودية على أنها واحدة من أكثر الدول التي تعاني من ندرة المياه في العالم؛ حيث يقدر نصيب الفرد بنحو 89 متر مكعب، وهو أقل من خط الفقر المائي الحاد الذي يبلغ 500 متر. ووفقًا لمؤشرات الأمم المتحدة؛ فإن جميع الدول الخليجية باستثناء عمان تصنف ضمن فئة “الندرة الحادة” للماء.
وتحصل الدول الخليجية على المياه من ثلاثة مصادر رئيسية؛ هي المياه الجوفية والمُحلّاة، إضافة للمعالجَة من مياه الصرف الصحي، والتي يقتصر استخدامها على الزراعة فقط، بحسب الخبير المختص في السياسات المائية، رمضان حمزة في حديثه لـ”مواطن“.
استنزاف المياه الجوفية
تتناقص موارد المياه الجوفية في الخليج العربي، تلك التي تكونت عبر آلاف السنوات نتيجة الأمطار، نظرًا للإفراط الشديد في استخدامها، وعدم الموازنة بين معدل الكميات المسحوبة، ومعدل إعادة التغذية (التجدد الطبيعي)، مما يهدد بنضوب منابع المياه الجوفية في سنوات معدودة؛ فمثلاً، تمتعت المملكة العربية السعودية قبل نصف قرن بواحد من أكبر وأقدم مخزونات المياه الجوفية في العالم، والتي قدّرت بنحو 500كم/2، لكن خلال النصف قرن استنفذت معظم تلك الكمية الهائلة من المياه؛ ما يهدد بنضوبها خلال العشرين عامًا المقبلة وفق الخبراء. كما انخفض مستوى المياه الجوفية في الإمارات بمعدل المتر لكل عام طوال الثلاثين عامًا الماضية، ومن المقدر أن تستنفد الإمارات العربية المتحدة مواردها من المياه العذبة الطبيعية خلال الخمسين عامًا المقبلة؛ ما يهدد الأمن المائي لتلك الدول، ويترك آثارًا سلبية على القطاعات الاقتصادية المعتمدة على المياه الجوفية كالزراعة.
وكانت السعودية توفر المياه الجوفية بشكل مجاني للمزارعين، بهدف تحقيق اكتفاء الذاتي من بعض المنتجات الغذائية، ورغم نجاح تلك السياسة نسبيًا فقد أدت إلى استهلاك المياه الجوفية بكثافة، ومنذ ذلك الحين بدأت المملكة تدرك محدودية مواردها المائية، لذلك قلصت الزراعة عن طريق المياه الجوفية، وأوقفت زراعة بعض السلع التي تستهلك الماء بكثافة، لتعتمد بشكل شبه كلي على استيراد السلع الأساسي الغذائية من الخارج، والاستثمار بالزراعة في الخارج.
كما يُشير الباحث الجغرافي سامي المهدي لأثر التغيرات المناخية التي أسفرت عن ندرة الأمطار وارتفاع معدلات التبخر، ما أدى إلى شح وصعوبة استخراج المياه بكميات اقتصادية تسد حاجة السكان والمزارعين، ووصل الأمر إلى ارتفاع ملوحة المياه الجوفية. ويضيف لـ”مواطن”: “ومن المتوقع نضوب الخزان الجوفي كاملاً في غالبية بلدان الخليج العربي خلال العقد القادم، وعلى دول مجلس التعاون إصدار تشريعات جديدة بتنظيم استهلاك المياه الجوفية في الأماكن ذات الزراعات الكثيفة، وغلق الآبار التي تستنفد في أمور غير ضرورية”.
تحلية المياه بين الكلفة الاقتصادية والأضرار البيئية
أكثر من نصف عمليات تحلية المياه عالميًا تتم في دول الخليج العربي، وتحتل السعودية المرتبة الأولى في العالم من حيث نسبة امتلاكها لمحطات تحلية الماء، كما تمتلك أكبر محطة لتحلية الماء في العالم، وأكثر من ثلثي المحطات الموجودة في الخليج، والتي تنتشر على ساحل الخليج والبحر الأحمر، وبحر العرب وبحر عمان.
تقوم عملية تحلية المياه على إزالة الملح من مياه البحر وتحويلها إلى مياه صالحة للشرب، وتشير التقديرات إلى إنفاق دول الخليج العربي لمئات المليارات في إنشاء وتوسعة وتشغيل محطات التحلية، وأنها خلال السنوات المقبلة ستكون في حاجة إلى ضخ استثمارات تقدر بقيمة 80 مليار دولار في محطات تحلية المياه، بهدف زيادة إمدادات المياه المحلاة في مواجهة زيادة الطلب على المياه.
كما أن عملية تحلية المياه كثيفة الاستهلاك للطاقة وتحتاج إلى كميات كبيرة من النفط اللازم لتوليد الكهرباء وتشغيل المحطات، ولتزويد هذه المحطات بالوقود؛ تستخدم السعودية ما يصل إلى 5.1 مليون برميل من النفط يوميًا؛ ما يعادل تقريبًا إجمالي الاستخدام اليومي من النفط للمملكة المتحدة خامس أكبر اقتصاد في العالم. وبحسب “وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية” فإن ربع إنتاج المملكة من النفط يستهلك في تحلية المياه.
كما ينتج عن عملية تحلية المياه كميات هائلة من الملح التي غالبًا ما يُعاد إلقاؤها في مياه الخليج ما يسبب ارتفاعًا في ملوحته، وما يستتبعه من مخاطر بيئية؛ فمياه الخليج العربي ضحلة وشبه مغلقة ولا تتجدد سريعًا. كما تكشف الأبحاث العلمية أن مياه الخليج أكثر ملوحة عن غيرها من مياه البحار والمحيطات بنسبة 25%؛ ما يعني أن مياه الخليج في طريقها نحو ذروة الملح، وهي المرحلة التي تصبح عندها عملية تحلية المياه مستحيلة ومرتفعة التكلفة؛ إذ كلما استمرت التحلية زادت كمية الأملاح التي تلقى في البحر.
وفي بودكاست “بعد أمس” التي تبثه شبكة الجزيرة، يشير الخبير البيئي الدولي رياض حامد، إلى أن ارتفاع نسبة الملوحة في مياه الخليج الناتج عن فضلات محطات التحلية يقضي على ملايين الكائنات البحرية ويهدد المخزون السمكي. ويحذر الخبير البيئي من التداعيات والتأثيرات البيئية الخطيرة التي ستحدث في مياه الخليج في المستقبل غير البعيد؛ إذ يقول إنه ما لم تتوقف هذه المحطات عن قذف الملح في الماء؛ فإنها قد تتسبب في تحويل مياه المنطقة إلى بحر ميت كبير.
كما يعاني قطاع الصيد في الخليج من ارتفاع أنشطة الملوحة في الخليج في السنوات الأخيرة؛ حيث يتعرض المخزون السمكي في الخليج للتهديد في خلل النظم البيئية الساحلية، وهو الأمر الذي أثر على انخفاض حركة الصيد، وأدى إلى تراجع حصة الفرد في المنطقة من الإمدادات السمكية، كما ترتفع أسعار السمك في الأسواق بشكل مستمر.
ويشير خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة أن التأثيرات السلبية لعملية تحلية المياه تشمل أيضًا الضوضاء الناتجة من تشغيل محطات التحلية بسبب استخدام مضخات الضغط العالي ومولدات الطاقة، التي تصدر ضوضاء عالية جدًا تتعدى الحد المسموح دوليًا. ويضيف لـ”مواطن”؛ أن وجود محطات التحلية على ساحل البحر مباشرة؛ خصوصًا في منطقة مثل البحر الأحمر، هو إهدار لمناطق ذات أهمية سياحية. كما تتسبب تلك المحطات في تلوث الهواء؛ كونها تحرق كميات هائلة من النفط لتشغيلها. ويردف حمزة: على الدول الخليجية أن تعمل على تحسين المحطات وتطبيق إجراءات للحد من التأثير البيئي ومراقبة جودة المياه.
أما د. حسين القاسم، الأستاذ في جامعة البصرة فيرى أن تحلية المياه أمر لا مفر منه لدول الخليج رغم كلفتها الباهظة؛ فلا يوجد بديل لها، ويضيف لـ”مواطن”: أن محطات التحلية تستطيع تحلية مياه البحر مهما كانت درجة ملوحتها، وهناك تطورات مهمة بهذا المجال لصنع محطات تعتمد على الطاقة المتجددة ولا تسبب أي انبعاثات كربونية.
الأمن المائي والاستدامة
يحذر الكاتب البحريني ميرزا حسن القصاب في كتابه “ما بعد النفط: تحديات البقاء في الدول الخليجية” من استراتيجية اعتماد الأمن المائي لدول الخليج على تحلية المياه، ويرى أن ذلك ينبئ بكارثة حال تعرض محطات التحلية للتدمير في أي أعمال عدائية في المنطق؛ حيث إنه يمكن بسهولة تخريبها أو ضربها بالصواريخ او القصف الجوي، ما من شأنه أن يعطل قدرة البنية التحتية على العمل.
وبحسب تسريبات لوزارة الخارجية الأمريكية، نشرت عام 2009؛ فإنه في حال تعرض محطة الجبيل لتحلية المياه في المملكة لهجوم معادٍ فسيضطر جميع سكان العاصمة لإخلاء المدينة في خلال أسبوع، ذلك لأن المحطة تزود الرياض بما يتجاوز 90% من استهلاك مياه الشرب.
وهو ما يظهر في ضعف المخزون الاستراتيجي من المياه لدى دول الخليج؛ حيث يصل المخزون الاستراتيجي لدى الإمارات؛ المتطورة في هذا المجال إلى حوالي احتياجات شهر واحد، بينما لا يتعدى المخزون الاستراتيجي للبحرين سوى يوم واحد، وفي الاستراتيجية الوطنية السعودية للمياه 2030، تستهدف رفع مدة التخزين الاستراتيجي للمياه لتصل إلى 7 أيام، ما يعني أن القدرة الاستيعابية للدولة من كمية المياه المتاحة للاستعمال الفوري أقل من ذلك في الوقت الحالي.
وهو الأمر الذي يهدد الدولة في حالة حدوث أي كوارث أو حالات طارئة، ولعل أبرز الأمثلة على هذه المخاوف والتي وقعت بالفعل، هو ما عاشه البحرينيون في عام 2004، حينما انقطعت الكهرباء ليوم كامل في أحد أكثر الأيام حرارة، مما أدى إلى توقف محطات تحلية المياه، وفي نهاية اليوم كان المخزون المائي في الدولة قد نفد، وعرف فيما بعد بيوم الاثنين الأسود.
وفي ظل عدم استدامة موارد المياه الحالية، ينصح الخبراء بضرورة إيجاد أنظمة لإيقاف الهدر الحالي للمياه؛ فبالرغم من أن دول الخليج تُعد من بين أكثر المناطق جفافًا في العالم كما أوضحنا، إلا أنها في نفس الوقت تُعد من بين الأكثر استهلاكًا للماء؛ حيث ارتفع استهلاكها في السنوات الأخيرة ليصل إلى 30 مليار متر مكعب في عام 2015، بعد أن كان الاستخدام 6 مليار متر مكعب في الثمانينات. ونجد على سبيل المثال أن المملكة العربية السعودية لديها ثالث أعلى معدل استهلاك للفرد من المياه العذبة في العالم، وتشير البيانات إلى ارتفاع مستمر في معدلات الاستهلاك.
أما الدكتور حسين قاسم فيرى أن دول الخليج تعتمد في تلبية احتياجاتها على المشاريع الصناعية والزراعية خارج دولها، وبالتالي فإن المياه لن تشكل عائقًا كبيرًا أمام النمو الاقتصادي، إذا اعتمدت في الصناعات على استخدام مياه مالحة.
خاتمة
تضيف خطط التنمية والمشاريع الطموحة، التي تتبناها الدول الخليجية بهدف تنويع الاقتصاد والاستغناء عن النفط، الضغط على معدلات الأمن المائي؛ فمن المتوقع أن تؤدي هذه القطاعات غير النفطية إلى زيادة استهلاك المياه؛ خاصة القطاع السياحي الذي تستهدف كلاً من الإمارات والسعودية تطويره؛ فكل سائح يزور البلاد يحتاج لحصة مائية من استهلاك شخصي لأحواض السباحة والرياضات المائية.
في حوار مع “مواطن” يقول عالم المياه في كلية فيتربي للهندسة بجامعة كاليفورنيا د. عصام حجي : تحويل الصحراء الصفراء إلى مناطق خضراء ليس إنجازًا في حد ذاته، لأنه في حاجة إلى مياه كثيفة، ومياه الري تستهلك 80% من عملية الزراعة؛ مما سيؤثر على الموارد المائية. وتحويل الصحراء العربية إلى منطقة لتشبه الريف الإنجليزي لا يعني ذلك أنها ستكون أكثر فعالية لمحاربة التغير المناخي، أو منطقة أكثر استدامة لحياة أي مواطن موجود فيها.
كما يشير “القصاب” في كتابه، إلى ضرورة تقليل الاستهلاك وإدارة المياه بطريقة رشيدة، والاتجاه نحو الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة المتجددة لتحلية الماء، لأن الاعتماد على وفرة النفط والغاز القابلين للنضوب، يجعل توليد المياه غير مستدام.
التعليقات 1