في مئوية “سنة الطبعة”.. حوار مع د. عصام حجي عن تزايد المخاطر المناخية في دول الخليج العربي
كارثة كبرى شهدتها مدينة “درنة” الليبية نتيجة العاصفة “دانيال” التي ضربتها سبتمبر الماضي، وتسببت في مقتل قرابة الأربعة آلاف -تم توثيقهم-، وآلاف غيرهم من المفقودين مع احتمالية أن يصل عدد القتلى الإجمالي إلى عشرين ألفًا، ومن قبيل الصدفة تتوافق هذه الكارثة مع دخول العام الـ 100 على كارثة “سنة الطبعة”، وهي أكبر كارثة طبيعية ناتجة أيضًا من عاصفة ضربت منطقة الخليج العربي خلال القرن الماضي.
في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1924، ضربت عاصفة كبرى الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وتسببت في مقتل الآلاف من السكان، وقدرت أعداد من قضوا نحبهم في ساعة واحدة بين 4000 و8000 قتيل، ووصفها بعض مَن عايشها بـ “الإعصار المدمر”، وعُرفت محليًّا في منطقة الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية والبحرين وقطر والإمارات بـ “سنة الطبعة“. والتي تعني في لهجات أهل الخليج سنة الغرق.
كما أورد المؤرخون أن العاصفة دمرت نحو 80% من سفن ومراكب الصيد الموجودة في عرض البحر لحظة حدوثها، كما ألحقت دمارًا وخرابًا واسعًا بالمنازل والممتلكات في المناطق الساحلية.
أجرت “مواطن” حوارًا مع الدكتور عصام حجي، عالم المياه في كلية “فيتربي” للهندسة بجامعة كاليفورنيا، ومعمل الدفع النفاث بوكالة ناسا، على خلفية نشره لدراستين حول تأثير التغيرات المناخية على شرق شبه الجزيرة العربية، للحديث حول ما جرى في “سنة الطبعة”، وكيفية تأثيرات التغيرات المناخية على دول الخليج العربي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وتقييم الجهود الحكومية المبذولة لمكافحة الظاهرة التغيرات المناخية. وإلى نصّ الحوار…
ماذا حدث في “سنة الطبعة" وكيف يتشابه مع إعصار دانيال الذي ضرب مدينة درنة الليبية هذا العام؟
“عام الطبعة” عاصفة مماثلة لما حدث في مدينة درنة الليبية تمامًا، وتسببت في مقتل آلاف من مواطني دول الخليج، وهي عاصفة ممطرة شديدة ضربت منطقة عُمان قادمة من المحيط الهندي خلال فترات الصيف ونحوها، وغالبًا ما تتوقف مثل تلك العواصف الدورية عند سواحل عُمان، ولكن في هذا العام، دخلت العواصف بعمق في منطقة الخليج وتسببت بكارثة مشابهة لما حدث في درنة، وأطلق عليها في الثقافة الخليجية “سنة الطبعة”.
وعلى الشعوب الخليجية التي تابعت ما جرى في درنة، أن تدرك أن هذا الأمر ليس بجديد ولا بعيد عنهم، فقد مرت دول الخليج به سابقًا، وهي معرضة لذات الحوادث مستقبلاً، ويجب دراسة التاريخ لاستخلاص العبر منه لمواجهة التأثيرات المستقبلية؛ فالطبيعة لم ولن تتوقف عن تكرار هذه الظواهر، وعلينا جميعًا وعلى أهلنا في دول الخليج إدراك أن “سنة الطبعة” هي التاريخ ودرنة هي الحاضر، وعلينا وعليهم الاستعداد لأن التاريخ قد يعيد نفسه في أية لحظة”.
هل هناك علاقة بين استخراج الطاقة والتأثيرات المناخية؟
يُصدِّر الخليج العربي حوالي 40% من إجمالي الطاقة للعالم من “الغاز والنفط”، ليكون واحدًا من أهم مصادر الطاقة عالميًا، والتوسع في إنتاج الطاقة يتبعه ازدهار اقتصادي، ولكن المخاطر البيئية المتزايدة التي تصاحب هذا التوسع قد تهدد سواحل منطقة شرق شبه الجزيرة العربية.
وجدنا في دراسة أجريناها أن استخراج النفط بكميات كبيرة من الجزر الموجودة في الخليج العربي يؤدي إلى هبوط في مستوى اليابسة، وهو ما يرفع التهديدات المرتبطة بارتفاع مستوى المياه في سواحل هذه الجزر ويؤدي إلى اختفائها تدريجيًا، وهو ذات الأمر الذي يحدث في كل الجزر النفطية في مياه الخليج، فكلما تم استخراج النفط من الآبار تهبط هذه الجزر بضع سنتيمترات في السنة؛ علمًا بأن أغلبها يكاد يكون على مستوى سطح الماء.
وفي دراسة أخرى وجدنا أن تزايد مخاطر حوادث ناقلات البترول يهدد بشكل خطير محطات تحلية المياه وموانئ تصدير الطاقة. وكشف البحث أن زيادة حركة ناقلات البترول والتغير في تيارات مياه الخليج تزيد من خطورة حوادث ناقلات البترول الكبيرة، لدينا حوالي 14000 ناقلة بترول تعبر مياه الخليج في السنة، وهناك تغير في حركات الرياح نتيجة عوامل مناخية، وفي حالة وقوع حادثة لناقلة نفط قد تعمل هذه التيارات على نقل على المياه الملوثة بالنفط وبقع الزيت نحو محطات تحلية المياه وموانئ تصدير الطاقة، وهو ما يزيد من خطورة حوادث ناقلات البترول في المنطقة بالكامل.
ربما يقلل البعض من أهمية الجزر غير المأهولة والتي يتم استخراج النفط منها، ثم تركها عرضة للتغيرات المناخية التي قد تؤدي إلى اختفائها، ولكن في حالة اختفاء هذه الجزر فإنها تؤثر على الحدود البحرية في الخليج، لأن الحدود البحرية تقاس من حدود آخر جزيرة تابعة للدولة، وربما تُطالب دول الجوار مستقبلا بإعادة ترسيم تلك الحدود مما قد يؤثر على المصالح الاقتصادية في منطقة الخليج حسب الدراسات التي نقوم بها حاليا.
يقول البعض إن تأثير التغيرات المناخية سيظهر بعد مئات السنين.. هل هذا صحيح؟
التغيرات المناخية التي يعتقد البعض أن آثارها ستظهر ربما خلال عشرات أو مئات السنين موجودة الآن بالفعل، وأصبحنا نراها رؤية العين، بسبب التغيرات البيئية السريعة التي تشهدها مجتمعاتنا، من طرق إنتاج الطاقة واستهلاكها وبناء المدن بطريقة لا تتوافق مع المعايير البيئية، وخير دليل على ذلك ما رأيناه في زلزال الحوز في المغرب، ثم كارثة الإعصار دانيال الذي ضرب شرق ليبيا وأحدث دمارًا هائلًا في مدينة درنة، كان العديد من الخسائر في مناطق حذر المختصون مرارًا وتكرارًا من ضرورة عدم البناء فيها، لكن لم يكترث أحد بالتحذيرات.
ما مظاهر التغيرات المناخية في منطقة الخليج وكيفية مواجهتها؟
إن تزايد السيول والفيضانات والعواصف، وتسارع ارتفاع البحر من أكثر مظاهر التغير المناخي في دول الخليج، وعند حدوثها يخرج الحديث حول قدرة البنية التحتية على تحمل تلك الظواهر، ويتخيل البعض أن اتهام المسؤولين بالتقصير هو الحل للإصلاح، ولكن هذا الأمر غير صحيح في أغلب الحالات، لأن هناك عدم إدراك وعدم وعي عربيًا بمسألة التغيرات المناخية؛ فليس بالضرورة أن تكون البنية التحتية هي المتسبب في غرق بعض المدن؛ بل هناك عوامل أخرى منها عمق المياه الجوفية وامتداد فترات الجفاف قبل السيول، وعملية رمي المخلفات في مخرّات السيول وعدم صيانتها. وفي الغالب تكون هناك مؤشرات لهذه الكوارث، لكن يتم إهمالها في أغلب الأحيان والاستخفاف بها في غياب مساحة إعلامية للتوعية والتوجيه بهذه القضايا.
كما أن قضية التغير المناخي قضية مشتركة تتداخل فيها المسؤولية المشتركة بين الحكومات والشعوب. الجهات المعنية بدراسة التغيرات المناخية في العالم العربي حاليًا، يقتصر دورها في أغلب الأحيان على تطبيق السياسات العامة والتوصيات الخارجة من مؤتمرات التغير المناخي العالمية، مثل تخفيض حصة الفرد من ثاني أوكسيد الكربون، وتخفيض مخلفات المصانع، لكن لا تدرس بشكل فعال خصائص التغيرات المناخية في منطقتنا في غياب شبكات رصد حديثة تتناسب مع حجم المخاطر أو ما نجهله عنها، وهناك قناعة راسخة أن دراسة التغيرات المناخية في منطقتنا من الأمور التي لا تعنينا والمعني بها هي الدول الغربية، وأن ما يقوم به الغرب يكفي ويفيض ولسنا بحاجة لدراسة أخرى وهذه المعتقدات هي أحد أسباب الآثار الكارثية التي نراها.
لماذا يجب أن نتخوف من تأثيرات التغير المناخي؟
آثار التغير المناخي ليست بالضرورة هي شعور المرء بالحر الزائد أو البرد القارس في هذا الفصل عن مثيله في العام الماضي، ولكنها تغير المنظومة البيئية والمناخية الكاملة بشكل أسرع بكثير مما عرفه كوكب الأرض عبر تاريخه. هناك مفهوم مغلوط منتشر في العالم العربي مفاده أن التغير المناخي هو زيادة درجة الحرارة حولنا بدرجة أو اثنتين، ما يتبعه عدم اكتراث من المواطن العربي بالأمر؛ ففي بعض الأيام تصل درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية وفي اليوم التالي 42 درجة، ويمكن للفرد ممارسة حياته بشكل طبيعي، ولكن في الحقيقة زيادة درجة الحرارة هذه ليست المشكلة؛ بل المشكلة هي زيادة متوسطات درجة حرارة الكوكب كله درجة واحدة
لنعتبر أن هذا الكوكب مثل جسم الإنسان الذي درجة حرارته الطبيعية 37.5 درجة، ولو ارتفع بنسبة درجة ونصف ووصلت إلى 39 درجة تسبب حالة إعياء للفرد، وأعراضًا جانبية مثل الصداع وغيره، والكوكب مثل جسم الإنسان؛ لو ارتفعت درجة حرارته بــ 1.5، سيتسبب في تغير المنظومة المناخية وتصبح غير متوقعة، ويختل كل شيء؛ فالصيف لا يظل صيفًا ولا الشتاء شتاءً؛ تمامًا مثل جسم الانسان.
ومن أهم مظاهر التغيرات المناخية هي ارتفاع منسوب سطح البحر، الذي يهدد المدن الساحلية، وأغلب المجتمعات العمرانية في منطقة الخليج القريبة من البحر، خصوصًا في مناطق شرق شبه الجزيرة العربية، لأنها مناطق منخفضة من الكويت إلى إمارة رأس الخيمة في الإمارات، مرورًا بقطر والبحرين، وأي ارتفاع في منسوب المياه يسبب أثرًا واضحًا في تآكل الشواطئ، مما يزيد تأثير آثار الظواهر المناخية مثل الأعاصير والعواصف بدفع المياه بكميات أكبر من مياه البحر إلى اليابسة؛ في حالة حدوث هذه الظواهر وذلك يزيد من القدرة التدميرية للبنية التحتية.
ومن المظاهر الأخرى أيضا زيادة حدة العواصف الرملية والتصحر، نتيجة شح المياه الجوفية؛ ففي مناطق شرق الخليج المياه الجوفية ليست عميقة؛ حيث تكون على عمق من بضعة أمتار، وتسهم في ترطيب الأرض؛ ما يمنع الأتربة من التناثر مع الرياح وانتقال الغبار إلى أماكن أبعد، لأن وصولها إلى داخل المناطق السكنية يؤدي إلى أضرار صحية وأضرار بالبنية التحتية؛ مثل محطات الطاقة الشمسية وغيرها.
كيف يساهم زيادة الوعي بقضايا المناخ في تقليل الأضرار المحتملة؟
لا تلقى تأثيرات التغيرات المناخية مساحة في اهتمامات الفرد العادي، ولا تسلط وسائل الإعلام الضوء عليها، ولا يتم وضعها في المناهج الدراسية بشكل فعال يساهم في تشكيل الوعي العام، وحتى لو وجد فيتم التركيز على التغيرات في المناطق الأخرى؛ مثل ذوبان الجليد في القطب الشمالي وزيادة الحرائق في أوروبا؛ مما يعطي الإحساس الخاطئ بأننا بمعزل عن هذه التغيرات وأنها تصيب الآخرين فقط.
لأن خلق الوعي سيساهم في التقليل من الخسائر المحتملة للتغيرات المناخية؛ ففي حالة وجود إعصار أو فيضانات يجب أن يكون هناك خطة مسبقة لإخلاء المناطق المتضررة، ويتم التدريب عليها بشكل دوري، وألا يترك المواطنين لمواجهة مصيرهم بالارتجال حين حدوث الكارثة، وهذا هو الدور الجهات المختصة. وفيما يخص المواطنين فعليهم تنفيذ هذه التعليمات لأنها ستحافظ على حياتهم؛ فلو طلبنا اليوم من المواطنين إخلاء جزء من مدينة لأنها معرضة لكارثة طبيعية؛ فأغلب السكان سيرفضون ترك منازلهم لأنهم يجهلون ما قد تسببه الكارثة الطبيعية من تدمير، وبالتالي سيتعامل الكثير منهم باستخفاف مع التحذيرات.
ساهمت التغيرات المناخية في تشكيل خريطة شرق شبه الجزيرة العربية.. كيف حدث ذلك؟
شكّل التغير المناخي عبر العصور جزءً هامًا من الهوية الوطنية لدول الخليج، وهناك مناطق عدة تغيرت خارطتها نتيجة تغير مستوى سطح البحر خلال عدة قرون سابقة؛ خاصة في شرق شبه الجزيرة العربية.
كما مرت منطقة الخليج العربي بتغييرات كبيرة جدًا، ولكن هذه التغيرات تم نسيانها بسبب المد العمراني؛ فقديمًا كان يمكن السير على الأقدام بين البحرين وقطر، لأن هذه المنطقة كانت يابسة ولم تكن مغمورة بالمياه، وصور الأقمار الصناعية تظهر المياه غير العميقة التي تشكل الحدود البحرية بين البلدين، تلك التي كانت في الماضي يابسة وقد غطتها المياه منذ بضعة مئات السنين، وجزء كبير من المنطقة لم تكن مغمورة بالمياه، ولهذا السبب فإن الخرائط التاريخية لم يوجد بها حدود واضحة بالوضع الذي عليه الآن.
وما بين عامي 1400 و1800م كانت أغلب المناطق في غرب الخليج مياهًا ضحلة، وكانت السفن لا تبحر فيها، ولذلك لم يتم رسم خرائط دقيقة لها، وبتغير مستوى سطح البحر خلال الخمسة قرون الماضية ارتفاعًا وهبوطًا بنسبة عشرات السنتميترات، جعلت خريطة المنطقة بالكامل لا يتم رسمها بدقة، والسبب في عدم دقتها هو تغير المناخ، لأن الفترة المذكورة تسمى بالعصر الجليدي الصغير، قام فيهم القطب الشمالي والقطب الجنوبي بامتصاص جزء من مياه المحيطات فتسببت في تكوين المناطق الضحلة، ومع انتهاء العصر الجليدي الصغير عادت المياه للمحيطات مرة أخرى في مستوياتها مما أدى إلى زيادة نسبة المياه في المناطق الضحلة وتشكلت الخرائط الحالية لشرق شبه الجزيرة.
هل يمكن أن يتعرض مواطنو دول الخليج للهجرة المناخية؟
إن لم تؤخذ التغيرات المناخية على محمل الجد؛ فالأجيال القادمة معرضة للهجرة الداخلية، بسبب أن المناطق الساحلية قد تكون أكثر عرضة لتهالك البنية التحتية بشكل أسرع من المتوقع، نتيجة تزايد آثار العواصف البحرية وتآكل الشواطئ، ناهيك عن التدهور السريع في وضع المياه الجوفية. هناك جهود مبذولة ولكنها غير متناسبة مع حجم المخاطر.
هل هناك جدوى لمبادرات التشجير الضخمة في صحراء الخليج؟
تختلف فعالية مبادرات التشجير للمناطق الصحراوية من منطقة لأخرى، ففي دولة المغرب هناك حزام أشجار يمنع التصحر، وهناك تشجير حول حوض النيل يمنع تحرك الكثبان الرملية، وهي مبادرات فعّالة لأنها تعيد حزامًا أخضر كان موجودًا بالفعل. أما تحويل الصحراء الصفراء إلى مناطق خضراء فليس إنجازًا في حد ذاته لأنه في حاجة إلى مياه كثيفة، ومياه الري تستهلك 80% من عملية الزراعة مما سيؤثر على الموارد المائية. تحويل الصحراء العربية إلى منطقة لتشبه الريف الإنجليزي لا يعني ذلك أنها ستكون أكثر فعالية لمحاربة التغير المناخي، أو منطقة أكثر استدامة لحياة أي مواطن موجود فيها.
كما يستطيع الإنسان العيش في الصحراء باستدامة مثلما فعلت شعوب الخليج على مر العصور، والأفضل هو تعريف المواطن مميزات ومخاطر وتطور بيئته الصحراوية في ظل التغيرات المناخية، هذا هو الطريق الذي شكل الحضارات في بلاد الخليج منذ آلاف السنين، وهو ما سيجعل دول الخليج تعيش آلاف السنوات القادمة، فالمعرفة بالتغيرات وليس وقفها هو سر الحياة في البيئات شديدة الجفاف مثل شبه الجزيرة العربية.