أميركا وإسرائيل.. تحالف ديني أم شراكة وتبعية سياسية؟
أثبتت الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، بأن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل ليست مجرد علاقة طبيعية بين دولتين أو بين أصدقاء أو حلفاء؛ إذ الصداقة والحلف يثبتان بأن هناك تغيرًا وحواجز وهويات مختلفة، لكننا نتحدث اليوم عن علاقة بين كيان واحد لم يتم التعرف على اسم موحد له.
فدولة إسرائيل مدججة بالسلاح المتقدم، وليست بحاجة إلى ذخيرة متطورة، لكنها اليوم صارت مهبطًا للطائرات الأمريكية التي تنقل إليها شحنات من الأسلحة والذخائر، وتأتي حاملات الطائرات الأمريكية في شرق المتوسط لتهدد وتتوعد أية قوة عسكرية تمنع تدمير إسرائيل لقطاع غزة، وقتل ما لا يقل عن 2 مليون فلسطيني مدني، وهذا شيء غريب أن يحدث من دولة عظمى ترفع شعارات حقوق الإنسان؛ فنراها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ترفض وقف إطلاق النار وإنقاذ المدنيين الفلسطينيين من آلة البطش الإسرائيلية، التي تعمدت قتل ما لا يقل حتى الآن عن 10 آلاف فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، وهذا رقم كبير كان يستدعي التدخل الأخلاقي قبل السياسي؛ نظرًا لما يحمله من دلالات تقول بعنف ووحشية المعتدي وعدم مبالاته بأرواح الأبرياء، وإصراره على العقاب الجماعي بمخالفة صريحة للقانون الدولي.
كما أن إسرائيل لم تجرؤ على مهاجمة سكان غزة إلا بعد التوافق والتنسيق مع الولايات المتحدة؛ فما طبيعة هذه العلاقة يا تُرى؟ وهل هي مجرد انعكاس ديني للرؤية الصهيونية المسيحية في أمريكا كما شرحنا في دراسة سابقة على مواطن؟ أم هي علاقة مصالح تتطلب أن تكون أمريكا وإسرائيل كيانًا واحدًا لا اثنين؟
وفقًا للدراسة ؛ فالدعم الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة يتجاوز فكرة أنها دولة ديمقراطية وسط محيط من الدكتاتوريين، أو أنها علمانية وسط محيط من الدول الدينية، أو أنها حقوقية وسط محيط من دول مجرمة وقمعية، أو أنها دولة متحضرة وسط محيط من الهَمَج؛ فالأحداث تقول إن الدعم له أسباب جوهرية أخرى، وما رفع تلك الأسباب إلا تبرير لوجود هذه العلاقة، وتصديرها بشكل متكرر في الإعلام الغربي يقفز على أن دولاً ديمقراطية أخرى حصلت على عداء وخصومة للولايات المتحدة؛ حيث تتوفر إجراءات الانتخاب والتنافس في دول كثيرة بالعالم كفنزويلا وكوبا والعديد من دول أمريكا اللاتينية، لكن هذه الدول خصم على الأقل لصانعي القرار الأمريكي.
فالقاعدة هي أن تكون ديمقراطيًا تابعًا للولايات المتحدة، وإذا لم تكن تابعًا أو صديقًا فلست ديمقراطيًا، وإسرائيل هنا ليست نموذجًا للحقوق يُحتذى به؛ حيث لا يتمتع العرب بحقوق مساوية لليهود في المجتمع الإسرائيلي، كما تشير رويترز في تحقيق لها، أنه وبرغم أن العرب يمثلون 20% تقريبًا من عدد السكان، إلا أنهم محرومون من الوظائف الكبرى القيادية، والنظام الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي لا يعطيهم حق المنافسة والتأثير على صانع القرار في الدولة، وبتحقيق لمجلة “مجلس العلاقات الخارجية” الأمريكية المجلد 95 العدد رقم 4 لسنة 2016، يُذكر أن العرب يُعامَلون في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية، حتى صحيفة هآرتس الإسرائيلية ألقت الضوء على هذا التمييز الذي يلقاه العرب في إسرائيل بتحليل منشور بعنوان “حكومة إسرائيل تشكل خطرًا واضحًا وحاضرًا على مواطنيها العرب الفلسطينيين“.
برزت في القرنين 18 و 19 عدة شخصيات مؤثرة في المجتمع الأمريكي جمعت بين الروح اليهودية والمسيحية، وإن تدينت بأحدهما في سبيل استخلاص رؤية صهيونية دينية تدعو لإقامة دولة أرض الميعاد.
إن ما يمكن قوله أن ثمة عوامل مجتمعة صاغت علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة؛ فمنها ما تحدثنا عنه في المقال السابق، وهو العامل الديني “الصهيو- مسيحي”؛ حيث يشترك البروتستانت الذين يشكلون أغلبية مسيحيي أمريكا مع اليهود الصهاينة في معتقد دولة آخر الزمان، والمعروفة بأرض الميعاد الذي جرى التنبؤ به في العديد من نصوص العهد القديم كسفر التكوين وسفريْ إشعياء وحزقيال، علاوة على نصوص رؤية يوحنا في العهد الجديد، وهو عامل ديني مؤثر ألقينا الضوء عليه في السابق، وسنتحدث عنه بتوسع اليوم.
ففي عام 2003 مثلاً؛ اختفى الصحفي المصري “رضا هلال” ولم يظهر حتى اليوم، والأسباب غير معروفة بشكل مؤكد، لكن الراجح أنه تم اغتياله من قبل الجماعات الإرهابية، علمًا بأن له كتابًا اسمه “المسيح اليهودي ونهاية العالم: المسيحية السياسية والأصولية في أمريكا”، ربط فيه بين سياسة الولايات المتحدة الخارجية على أساس ديني ودعمها لإسرائيل أيضًا على أساس ديني، وكان مما طرحه في الكتاب أقوال موثقة لجيمي كارتر تقول بالحرف إنه كان يؤمن بملاحم آخر الزمان وأساطير التوراة عن نهاية العالم، وكان مؤمنا أيضًا بأن القوانين لا يجب أن تتعارض مع الدين المسيحي.
الكاتبة الأمريكية “جريس هالسل” Grace Halsell (1923- 2000) طرحت نفس معلومات “رضا هلال”، وأن الرئيس الأمريكي “ريجان” كان يؤمن بمعركة “هرمجدون” الأسطورية، والتي يؤمن بها اليهود وفقًا للعهد القديم والإنجيليين المسيحيين على مستوى العالم، وفي كتابها عن النبوة والسياسة ذكرت أقوالاً موثقة وتصرفات لقادة أمريكا وسياسييها الكبار المتأثرين فيها بالجماعات الأصولية المسيحية، وكان مما وثقته “هالسل” رفع الرئيس ريجان الكتاب المقدس في مؤتمر جماهيري، زاعمًا أن فيه حلاً لكل مشاكل أمريكا. وأتذكر جيدًا كيف أن كلام هالسل يعيد ذكريات حروب جورج بوش الابن مقولته الشهيرة بأنه يجب إحياء الحرب الصليبية مجددًا، وأن خصومه من الإسلاميين هم (يأجوج ومأجوج).
وبعيد عن رضا هلال وجريس هالسل؛ فالواقع يصدق كلامهما، وأهم علامات صدق أدلتهما أن الرأي العام الأمريكي مؤيد لإسرائيل من خلفية دينية سجلها ترامب في مصادرات الجولان عام 2019 والقدس عام 2017م، وزيارات ابنته إيفانكا وزوجها لمزارات يهودية دينية، وأن جو بايدن منافسه آنذاك في انتخابات الرئاسة وعد الشعب الأمريكي ببقاء سفارتهم في القدس، وعدم نقلها لمجرد أن ترامب فعل ذلك، علمًا بأن بايدن نفسه كثيرًا ما كان يكرر ويعترف بصهيونيته، وأنه لا ينبغي التوقف عن دعم إسرائيل.
وليس الأمر مقصورًا على الجانب الديني في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة؛ فهناك عوامل نفسية اجتماعية أخرى صاغت تلك العلاقة الوطيدة؛ فاليهود على مدار قرون متصلة كانوا ينظرون لأنفسهم على أنهم (شعب مظلوم ومُهجّر)، ويتعرضون فيها لأقسى أنواع الاضطهاد الديني؛ بالتالي فهم بحاجة لدولة تحميهم وسلاح وعقلية أمنية عسكرية تكون هي الضامن لبقائهم؛ فلو قلنا إن إسرائيل حصلت على ذلك بثورتها المسلحة التي أفضت لقيام دولتها سنة 1948، فالبروتستانت الأمريكيون قاموا بثورة مسلحة أيضًا ضد الإنجليز الكاثوليك الذين اضطهدوهم وطردوهم من بريطانيا؛ فظلت هذه الثورة ممتدة 18 عام منذ عام 1765 حتى عام 1783م؛ فضلا عن رؤية الأمريكيين أنفسهم كاستثناء ضمن محيط من الظلم الملكي؛ فهم من شكلوا أول جمهورية حديثة في التاريخ المعاصر، وكذلك فالإسرائيليون ينظرون لأنفسهم بنفس الصورة أنهم استثناء ديمقراطي وسط محيط من الظلم القمعي وفقًا لرؤية كليهما.
فلو كان يهود إسرائيل ينظرون لأنفسهم كشعب الله المختار؛ فالصورة نفسها تجمع بروتستانت أمريكا؛ حيث يتميز المذهب البروتستانتي (الإنجيلي) بقراءته التوراتية للعهد الجديد، والذي يتساوى فيها موقع العهد القديم مع الجديد، باختلاف بسيط، وهو أن إنجيليي المشرق يميلون لتأويل هذه الدولة ويعتبروها في السماء، أي أن مسيحيي مصر الإنجيليين مثلاً في معظمهم ليسوا صهاينة، لأنهم كأي مشرقي يميل للتأويل، وكذلك الأفارقة روحانيون يميليون لتأويل النصوص، وبروتستانت جنوب أفريقيا مثلاً ليسوا صهاينة لهذا السبب ومعارضون لإسرائيل، ويرون دولتهم المزعومة مجرد خرافة وتشددًا دينيًا لا داعي له، أما إنجيليو الغرب فيفكرون بطريقة أخرى ولا يميلون لتأويل النصوص؛ بل اعتقادها على ظاهرها يجعل من فكرة شعب الله المختار حقيقة واقعة وفكرة مقبولة في المعتقد البروتستانتي، يساعد في ذلك جذورهم الاستعمارية المتوافقة سيكولوجيًا ونفسيًا مع دولة المسيح آخر الزمان، ومعركة هرمجدون الأسطورية.
سيكولوجيا الأمريكيين هنا دفعتهم لعدم حصر هذا التكوين الجمهوري التحرري داخل حدودهم الجغرافية؛ فامتلكوا رؤية استعمارية شبيهة بالمعتقدات الفرنسية التي حملها نابليون بونابرت إلى المشرق؛ حيث ادعى أن حملاته العسكرية هدفها نشر (النور)، وكذلك فعلت الولايات المتحدة منذ عام 1898م حتى أوائل القرن العشرين باحتلال كوبا والفلبين، وتخليصهم –وفقًا للرؤية الأمريكية– من استعمار وظلم الأسبان وعقلية الأمريكيين التي تميل للسيطرة عبر المساعدات؛ فهم لم يتوسعوا في بداياتهم باحتلال أراضي الغير مثلما فعلت بريطانيا وفرنسا وأسبانيا، لكنهم استبدلوا هذه السياسة بفكرة “المساعدات” ونشر قيم الحرية التي كانت من أبرزها فكرة “تحرير العبيد”، التي صدرها الأمريكيون بعد حرب أهلية مريرة منذ عام 1861- 1865م؛ مما وضع الولايات المتحدة كقطب صاعد في بدايات القرن العشرين، ولديه من القيم والأفكار ما يميزه عن الآخرين.
اجتماع هذا التكوين النفسي للأمريكيين إضافة للمعتقد الديني بضرورة إنشاء دولة لليهود، هو الذي دفعهم للإيمان بأن إسرائيل جزء من الضمير الأمريكي؛ فهم شعب مظلوم وفقًا لرؤيتهم، وقد آن له الأوان أن يستقر ويرتاح، وكذلك هو شقيق ديني في الإيمان بقدسية العهد القديم/ التناخ، واعتبار نصوصه الدينية ليست مجرد تاريخ منسوخ بشريعة النعمة كما يؤمن الأرثوذكس مثلاً، ولكنها نصوص مقدسة واجبة النفاذ، مثلما اشتهر عن الرئيس الأمريكي الأسبق “رونالد ريجان” (1911- 2004)، الذي كان واحدًا من أشهر الذين رفعوا شعار الحرب الدينية ضد الروس أو ضد العرب والمسلمين، وللتوسع في ذلك يُرجى قراءة سيرته الذاتية المشهورة “بحياة أمريكية” An American Lefe صـ 257، وفيها أن الحرب النووية مع الروس حتمية لبداية معركة هرمجدون والتي كان دائم الحديث عنها في أي لقاء له مع اليهود، وينتظر بشوق ولهفة أحداثها ومجرياتها الأسطورية التي ذكرت في تنبؤات أسفار “حزقيال وإشعياء” في العهد القديم.
ولفهم هذه العلاقة أكثر، يمكن العودة لتاريخ الولايات المتحدة في القرنين 18 و 19، حيث برزت عدة شخصيات مؤثرة في المجتمع الأمريكي جمعت بين الروح اليهودية والمسيحية، وإن تدينت بأحدهما في سبيل استخلاص رؤية صهيونية دينية تدعو لإقامة دولة أرض الميعاد، ومن هؤلاء الحاخام التشيكي “إسحاق ماير وايز”Isaac Mayer Wise ( 1919- 1900م)، والذي هاجر لأمريكا واستقر فيها منذ بلوغه عامه 37، وبجهوده العلمية والسياسية ومؤتمراته نجح في تكوين تيار اجتماعي ونخبوي صهيوني في الولايات المتحدة، ولكن بعيون مسيحية، نظرًا لنشاطه الكبير في التقريب بين المعتقدين على أسس بروتستانتية كما شرحنا عاليه، وقد سمى “وايز” مشروعه “بمعهد صهيون الجامعي”، والذي شاركه فيه الحاخام “يعقوب حزقيال” Jacob Ezekiel (1812- 1899م).
كذلك “ماير أمشيل روتشيلد” (1744- 1812م) التاجر الألماني اليهودي الشهير ومؤسس عائلة روتشيلد في أوروبا الأكثر شهرة بالعالم، والمعروف عن عائلته مساهماتهم في منح اليهود الأموال لشراء الأراضي بفلسطين، وكذلك “أيفريل هاريمان” W. Averell Harriman (1891- 1986م) ابن أمبراطور السكك الحديدية “إدوارد هاريمان”، والذي يقول عنه “عبدالمنعم شميس” في كتابه “أمريكا وإٍسرائيل صـ 18” الصادر عن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر في الستينات: “في انتخابات حاكم ولاية نيويورك 1958 تقدم إيفريل ضد “نلسون روكفلر”، ووقف يومًا في حملاته الانتخابية واتهم منافسه بأنه يسير في ركب السياسة العربية المتحررة ويعادي إسرائيل، ثم اهتزت الصحافة في نيويورك، وللصهاينة فيها النصيب الأعظم، وأعلنت صحيفة “مسز اسكيف” في جريدتها “نيويورك بوست” أنها اشمأزت لهذا الاتهام، ولذا سحبت تأييدها لهاريمان لأنه ظلم منافسه روكفلر الذي ساهم في دفع الإعانات المالية لإسرائيل طوال 12 عامًا مضت”.. انتهى.
وافق "هاري ترومان" (1884- 1972م) على إعفاء كل تبرع لإسرائيل من الضرائب، وساند الصهاينة في حركاتهم المبكرة، وقدم لهم الدعم بمعونات اقتصادية لا تحصى، إضافة لمساندة إسرائيل في قضية فلسطين ومسارعته للاعتراف بهم وحمايتهم في مجلس الأمن والأمم المتحدة
ومن كلام وتوثيق “شميس” يتبين لنا أن الرأي العام الأمريكي في الخمسينات كان يتعامل مع إسرائيل على أنها جزء من الضمير الأمريكي؛ فلا يقبل من أي مواطن خذلانها فيكون الأمر في جوهره تهمة، ويعني أن خذلان إسرائيل في الولايات المتحدة آنذاك هو تهمة، في الواقع كان يتهرب منها المواطنون لدرجة معاقبة “إيفريل هاريمان”، وهو رجل له وزن كبير في الاقتصاد والسياسة لمجرد اتهام أمريكي آخر بأنه يعادي إسرائيل، ويفسر “شميس” هذا الحدث على أنه قدرة ليهود أمريكا الصهاينة على تحريك الانتخابات وإخراجها بشكل يخدمهم، وأن هدف أي انتخابات بالولايات المتحدة ليست فقط محصورة بالإبقاء والدفاع عن مصالح أمريكا؛ بل عن مصالح إسرائيل أيضًا.
ويذكر عبدالمنعم شميس في كتابه عددًا كبيرًا من رؤساء ومسؤولين وشخصيات عامة في الولايات المتحدة كانوا صهاينة في مرحلة مبكرة من التاريخين الأمريكي والإسرائيلي، أذكر منهم الرئيس “هاري ترومان” (1884- 1972م) نفسه، والذي وافق على إعفاء كل تبرع لإسرائيل من الضرائب، وساند الصهاينة في حركاتهم المبكرة، وقدم لهم الدعم بمعونات اقتصادية لا تحصى، إضافة لمساندة إسرائيل في قضية فلسطين ومسارعته للاعتراف بهم وحمايتهم في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وكذلك فعل أباطرة شركات التأمين “كجورج آلان” و “جيمس كمبر”، ومن أصحاب البنوك “بوبي جونس” و “وأكسل نيلسون” ومن الأثرياء “كليف روبرتس” “بول هوفمان” و مسؤولين شركة كوكاكولا “روبرت وودف” و “وليام روبنسون”، وغيرهم؛ فقد ذكرهم على سبيل المثال لا الحصر.
ولا أنسى أن لجماعة “شهود يهوه” دورا مؤثرًا للغاية في شيوع العقائد الصهيونية في الولايات المتحدة، وإيجاد الرابط الأخلاقي والديني والسياسي الذي يجمع بين شعب إسرائيل والمسيحيين البروتستانت:
يقول عبد الوهاب المسيري في تعريف حركة شهود يهوه: “هي جماعة دينية مسيحية بروتستانتية، اسمها الأصلي هو Watchtower Bible and Tract Society، يؤمن أتباعها بعدد من الأفكار المشيخانية الصهيونية، ويعود اسم الجماعة الشائع إلى إيمانها بأن اسم الإله الحقيقي هو «يهوه»، وأن الاسم الحقيقي للمسيحيين هو «شهود». نشأت الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1872 في مدينة بتسبرج بولاية فيلادلفيا على يد رجل أعمال شاب يدعى تشارلز راسل (1852 ـ 1916)، كان ينتمي لجماعة الأدفنتست، وهي جماعة بروتستانتية تدور أفكارها حول أطروحة عودة المسيح (فهم الأدفنتست أو المؤمنون بالعودة،) وتنصير اليهود باعتبارهم أس الشر وجرثومة الفساد التي نمت في العالم”.
يضيف المسيري: “في عام 1879، قامت الجماعة بتأسيس مجلة برج صهيون الشهرية، والتي بشروا فيها بمجيء المسيح، وقد انخرط “راسل” في حسابات معقدة مستمدة من التوراة لمعرفة وقت عودة المخلِّص وبداية العهد الألفي، وتخليص العالم من الشر ونهاية التاريخ، وهي الأفكار التي تمثل حجر الزاوية في كل الأنساق الحلولية. وقد حدد راسل عام 1914 لعودة اليهود. وفيما بعد، أعلن أتباعه أنه كان يقصد الإشارة لوعد بلفور الذي صدر عام 1917، وصاغ راسل نظرية دينية تقوم على منظومة تمرُّد الشيطان وخداعه لآدم وحواء ودفعهما للخطيئة ومحاربته للرب. وبعدئذ، سيطر الشيطان أو قوة الشر على العالم؛ فيما أسماه راسل «إمبراطورية الشر» (المصطلح الذي يتواتر في الخطاب السياسي الأمريكي)”. (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 16/ 399، 400).
وتبقى من المصلحة العليا الأمريكية كقطب دولي أن يكون لديها في كل بقاع العالم جغرافيا حلفاء وعملاء، والحكمة العملية للفلسفة البراجماتية التي نشأت وترعرعت في المجتمع الأمريكي، تقول بأن إسرائيل نموذج مناسب للحليف الموثوق به
ولعل انعكاس هذه العلاقة الدينية بين إسرائيل والولايات المتحدة كانت متجلية في أكثر من موضع؛ آخرها ما يحدث اليوم في قطاع غزة؛ حيث جاء وزير الخارجية “بلينكن” إلى الشرق الأوسط بمقولة شهيرة “لقد جئت هنا كيهودي“، ودلالة ذكر الدين هنا في حدث سياسي ليست عابرة؛ فالعلاقة سيكولوجية عميقة بين مسؤولي الدولتين، أذكر أن الكاتب البريطاني “باتريك سيل” (1930- 2014) تعرض لها في إحدى مقالاته بمجلة الحياة في 21 مارس سنة 2003، في أعقاب هجمات الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، وتفسيرها بشكل ديني.
يقول سيل: “لعل نقطة الضعف المشؤومة في كل ذلك هي أن المغامرة ليست أمريكية بحتة؛ بل يجب أن ينظر إليها كتتويج لشراكة أميركا الاستراتيجية مع إسرائيل التي بدأت منذ 36 سنة”، ويضيف: “جاءت معظم المبررات والضغوط من أجل الحرب على العراق من جانب الصهاينة المتطرفين الأمريكيين، وأكثرهم من اليهود المتحالفين مع أرئيل شارون الذين يحتلون مواقع نفوذ واسعة داخل إدارة الرئيس بوش وخارجها، وليس من المبالغة أو من اللاسامية في شيء أن نقول بأنها حرب بوش شارون ضد العراق”.. انتهى.
ومن كلام الرجل تتبين الذهنية السياسية في الدولتين، ولا تستبعد الدين؛ بل المعتقد حاضر فيها. وبعيدًا عن استنتاج “سيل“؛ فالواقع يقول إن علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة تتجاوز فكرة الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والسلاح؛ بل للأمر بعد ثقافي أشمل، هو المظلة العليا التي تهيمن على كل هذه الأبعاد الأربعة.
ويصدق ذلك ما قاله الكاتب “برنارد ريتش” في كتابه “الولايات المتحدة وإسرائيل: “إن القادة السياسيين في أمريكا وخاصة منهم الرؤساء، يتبنون وجهة النظر الدينية المؤازرة لإسرائيل؛ سواء في ذلك الرئيس ويلسون أو الرئيس ترومان، اللذان يعترفان بالتأثير الديني مع قراءاتهما للأحداث، وكذلك ليندون جونسون الذي صرّح أمام إحدى الجمعيات اليهودية عام 1968: “إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل يصدق عليها قول الكاتب اليهودي الأمريكي جدون بيتي بأن الرؤساء الأمريكيين ينحنون أمام الصهيونية كما ينحني المؤمن أمام قبر مقدس”.. (عن صحيفة الاتحاد الإماراتية 24/10/2002م، مقال الجماعات الصهيونية- المسيحية، تدعم تهويد القدس عبر الإنترنت، عقب محاولات تهويدها جغرافيًا و ثقافيًا).
وتبقى من المصلحة العليا الأمريكية كقطب دولي أن يكون لديها في كل بقاع العالم جغرافيا حلفاء وعملاء، والحكمة العملية للفلسفة البراجماتية التي نشأت وترعرعت في المجتمع الأمريكي، تقول بأن إسرائيل نموذج مناسب للحليف الموثوق به؛ فقد اشتهر لدى بعض دول العالم بإيمانه بالقيم الأمريكية وبحقوق الإنسان والتعددية الدينية، بغض النظر عن صدق هذه الشهرة لذاتها، ولكن سمعة إسرائيل في المجتمع الدولي ما زالت تتمحور حول أنها دولة ديمقراطية وسط محيط دكتاتوري، وحقوقية وسط محيط قمعي، وتعددية وسط محيط أحادي الفكر، وبالطبع وضعية كهذه تعزز من رسوخ القيم الأمريكية المعلنة وتحمي مصالحها باستمرار؛ بل في كثير من الأحيان تكون هي القوى الناعمة للولايات المتحدة في السيطرة على الشعوب أو اختراقها إذا لزم الأمر.
وعوضًا عن المصلحة؛ فبعض القيم الأمريكية العنيفة يمكن القول بأنها تسيطر على ذهنية الشعب الصهيوني في إسرائيل، ومن تلك القيم (حمل السلاح)؛ ففي إسرائيل مسموح للشعب والمستوطنين حمل السلاح دفاعًا عن الأراضي المغتصبة، ومؤخرًا قام وزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن غفير” بتوزيع آلاف الأسلحة الجديدة على المستوطنين بدعوى الدفاع عن النفس، وهو نفس المبدأ المتوفر في المجتمع الأمريكي، لأن حمل السلاح في الدستور الأمريكي مسموح بشكل فردي أو جماعي دفاعي، لا جماعي هجومي ضد سلطة الدولة ومؤسساتها بالسلاح، كما فسر البعض رغبة ميلشيات موالية للرئيس السابق لترامب في السيطرة على مبنى برلمان ولاية ميتشيغان في عام 2021؛ حيث يسوقون تبريرًا غريبًا بأن الدستور الأمريكي يسمح لهؤلاء بوجود تنظيم عسكري.
ثقافة حمل السلاح الأمريكية، والتي انتقلت لإسرائيل لها جذور من القرن 17م والمشكلة الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا
والجواب: حتى لو سمح بوجود هذا التنظيم؛ فسيكون لأسباب تتعلق بقصور الدولة في حمايته أو تغول السلطات على أملاكه، لا صناعة تنظيم عسكري يهاجم مبنى الولاية، التي هي الممثل الأصغر للبيت الأبيض فيدراليًا، وإن حق إنشاء جماعة عسكرية هو فقط للدفاع، ومقيد بعمل الكونجرس الموكل دستوريًا بتقييد حركة الجيش الفيدرالي وقت السلم وفقًا لتعديل سنة 1780م.
فثقافة حمل السلاح الأمريكية، والتي انتقلت لإسرائيل لها جذور من القرن 17م والمشكلة الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وقتها كانت إنجلترا تحكم الولايات المتحدة وتفرض عليها قانونها الخاص؛ فقام ملوك انجلترا كــ “ويليام الثالث” بنزع أسلحة خصومه الطائفيين، وعندما ثار الشعب الأمريكي في القرن 18 وأسس دولته، راعى حق ملكية السلاح للسبب السابق ذكره، وهو (حفظ الملكية)؛ خصوصًا الثروة الحيوانية والزراعية.
الإشكالية عند البعض في مبادئ دستور بنسلفانيا عام 1776 المبدأ رقم 13، وفيه أحقية حمل السلاح للدفاع عن النفس والدولة، ثم تطور لاحقًا على شكل تعديلات تنظيمية، ويعني ذلك أن هذا المبدأ للدفاع وليس لتعطيل الحكومة الفيدرالية، وصياغته وقتها كانت لها ظروفها الخاصة بخوف الأمريكيين من هجوم بريطانيا العسكري بعد الاستقلال؛ فسمحوا للشعب بحمل السلاح لغرض المقاومة المحتملة، لكن المبدأ ظل دستوريًا وتم تعديله عدة مرات بعد ارتفاع مستوى الجرائم.
وهي نفس الدوافع التي يسوقها باستمرار قادة إسرائيل لتبرير حمل الصهاينة للسلاح، وهو الخوف من هجوم الفلسطينيين؛ فسمحوا للمستوطنين بحمل السلاح لغرض المقاومة المحتملة، وما زال هذا الموضوع في أمريكا محل جدل فكري وفلسفي وسياسي بين مؤيدين ومعارضين؛ الطرف المؤيد يعتمد على المبادئ الأولى المصوغة بعد الاستقلال في القرن 18، والمعارضون يعتمدون على أن الظرف الخاص بإعلان المبادئ الأولى قد انتهى، وهو الاستقلال عن بريطانيا والخوف من هجومها العسكري، وكذلك فأمريكا الآن دولة قوية خلافًا لوضعها السابق، وفي إسرائيل يثار أيضًا ذلك الجدل في أحقية حمل المستوطنين للسلاح خوفًا من استخدامه في قتل الفلسطينيين، والمعني بذلك هم جماعات حقوقية وليبرالية في إسرائيل تخشى من سيطرة المتطرفين دينيًا على مؤسسات الدولة.
علمًا بأن المؤيد لحمل السلاح في أمريكا يقول بأن الحق الدستوري هو مبدأ إنساني وفكري، يقول بأن الجيوش في أوقات السلم تكون خطرة على الحريات والحقوق، وبالتالي فتكوين ميلشيا ضدها أمر مسموح لإرهابها نفسيًا، والمعارض يقول إن أثر ونتائج حمل السلاح وتكوين مجموعات، حتى لو كان غرضه دفاعيًا، لكنه سيتحول لهجومي وفقًا للغرائز العدوانية والقصور البشري والاختلاف، أو في حالات الغباء والجنون والأمراض النفسية، لكنهم اتفقوا جميعًا على أحقية حمل السلاح الفردي لحماية الممتلكات؛ خصوصًا الثروة الحيوانية، أو المسدسات للدفاع عن النفس.
أما قصة تكوين ميلشيات عسكرية على نحو ما قام به أنصار ترامب ضد حكام بعض الولايات الرافضة لفتح الاقتصاد؛ فهذا اسمه انقلاب وخرق لقواعد الدستور، ليس لأنه هجوم عسكري جماعي ضد الدولة، ولكن لصدوره من أنصار مرشح انتخابي ومسؤول سياسي ضد آخر.
ومن هنا تبرز مشكلة حمل المستوطنين للسلاح في إسرائيل، وأن احتمالية توجيه ذلك السلاح للمواطن الإسرائيلي قائمة إذا ما علمنا أن الجهة التي توزع ذلك السلاح والفئة المستهدفة منه هم من أنصار المتطرفين دينيًا والأحزاب الصهيونية المتشددة؛ فيصبح أي خروج عن التشدد الديني الصهيوني عرضة للخطر، وما ينتج عنه من حوادث اغتيالات وعنف مسلح؛ سواء كان فرديًا أو جماعيًا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
التعليقات 2